اخر الاخبار

28‏/11‏/2011

التحرير ٢٠٤٠ بقلم د. أيمن الجندى

القاهرة عام ٢٠٤٠، ميدان التحرير، النجوم تومض فى السماء، لكنه لا يراها. لا يصدق أنه مرت عليه ثلاثون عاما لم ير خلالها النجوم! ومن أين له بعينين يرى بهما أشياء بعيدة، خافتة جدا مثل النجوم!

توقف عند ناصية الميدان. راح يرمق الأضواء بغرابة. الناس يتجاوزونه ولا يشعرون بعذابه. لا يعلمون أنه كان- منذ ثلاثين عاما فقط- بطل الميدان! حينما كانت له عينان، واحدة فقد بها الإبصار تماما، والثانية يرى بها الأشياء بصعوبة، مجرد أشباح!

جولته اليومية فى ميدان التحرير! سأل قدميه: لماذا تحملاننى إلى هنا؟ وسأل فؤاده: لماذا تصر على تعذيبى؟ جاء ليستعيد الأيام المجيدة. يسأل المبانى وعواميد الإنارة! هل تعرفيننى؟ هل شاهدتنى؟ الناس نسونى وأنكرونى! مع أنه كان أيقونة كل القنوات الفضائية! تقريبا لم يوجد كاتب صحفى واحد لم يكتب عنه، أو برنامج حوار لم يستضفه. لم يكن يدرى أنهم يصنعون مجدهم، ليحققوا من خلاله معدل مشاهدة مرتفعاً، من أجل الإعلانات!

البطل ابن البطل! هكذا كان لقبه لشهور طويلة! قصة والده الذى فقد ساقه فى حرب أكتوبر حين تصدى بمفرده لرتل دبابات، واليوم يُعيد ابنه الأيام المجيدة، هكذا قالوا: فقد إحدى عينيه فى ثورة يناير، وأُصيبت الثانية فى ثورة نوفمبر.. من لطف الله أنه لم يفقد الإبصار فى الثانية تماماً وإلا كان اليوم متسولاً. ولكن: هل يخدع نفسه؟ ربما كان المتسول أفضل منه حالا.

ما أبعد البون بين الكهل المعذب الذى صاره، والشاب النضر الممتلئ حماساً وإقبالاً على الحياة. الآن يذكر اللحظة، لحظة أن فقد بصره.. نوفمبر ٢٠١١، وحشود الشباب بين كر وفر، ولفافات التبغ وأكوام الحجارة، وروعة أنك تكتب المستقبل وتعيد تشكيل العالم.. تقريباً لا نوم، البرد يهبط فى النصف الثانى من الليل، لكنّ القلب جمرة مشتعلة، نسيج الأحلام الذى غزلوه ببراعة، والشهداء يتساقطون بغزارة، وحماسة جنونية تهون معها الحياة.

تنهد من قلب شجىّ. كان يجب أن تتردد! كان يجب أن تتذكر أنك بعين واحدة.. كان يجب أن تتذكر والدك، بطل لكن بساق واحدة. هذه الجملة التى تُكتب فى سطر واحد تُلخص ملايين الأشياء، منها أنه حين يستيقظ من النوم ويهب من فراشه لا يجد ساقه، منها أنه يتوكأ على عصا فى طريقه إلى المسجد، منها أنه يعانى صعوبة فى دخول الحمام.

أخذته اللحظة، جرفته عدوى الحماسة، حين أصيبت عينه الأخرى ابتسم، والتقطت الكاميرا صورته وهو يبتسم.. أصبحت هذه الصورة أيقونة الثورة، فلماذا لم يعد يبتسم الآن؟

لم يخطر على باله- ولو للحظة واحدة- أن الأيام ستمضى، والميدان سيخلو، والناس ستعود إلى بيوتها، وتمارس أعمالها، وتعاود بيزنسها، وينتهى الاهتمام الإعلامى، ويفتر اهتمام الناس!

يذكر أنه كان يتعمد- حين كان صغيراً- أن يتفاخر بوالده البطل، رغم أن بطولته لم تنعكس على أسرته فى شىء. أهملته الدولة وتصالح النظام مع عدو الأمس وافتتحت المنطقة الحرة فى بورسعيد. وبِيعت- مع ساق والده- الثياب المستعملة وعلب الأناناس! يذكر أيضا أن والده كان يلتزم الصمت، ويعزف عن ذكريات المعارك، وكأنها تؤلمه، والآن يفعل مثله، دخل كهف الصمت، ولم يعد يربطه بالثورة سوى تلك الزيارة اليومية لمجمع التحرير.

آه ما أسرع مرور الأيام! ثلاثون عاماً مرت فى غمضة عين، ثلاثون عاماً هى زهرة العمر، ثلاثون عاماً كان يظن أنها بعيدة! فقط تتابعت الأيام، وأمسك بعضها بتلابيب بعض.

الليل يسقط على العاصمة، ويسقط على قلبه كذلك، والقاهرة، التى استحقت اسمها بجدارة، تقهره وتقهر معه كل ملح الأرض من الفقراء البسطاء المساكين.

هناك تعليق واحد:

  1. ابراهيم السعدي
    ابراهيم السعدي
    ابراهيم السعدي
    نتيكات السعدي
    نتيكات السعدي يوجد عندنا كل مايسركم ويبهركم من انتيكاتنا الفريدة من نوعها والمختلفة الكثيرة في تصنيفها وتجدوها بالتوضيح في الموقع الرابطhttp://antiquessaadiy.blogspot.com/ انتيكات السعدييوجد عندنا كل مايسركم ويبهركم من انتيكات...نا الفريدة من نوعها والمختلفة الكثيرة في تصنيفها وتجدوها بالتوضيح في الموقع الرابطhttp://antiquessaadiy.blogspot.com/ انتيكات السعدي
    ...
    ...
    مشاهدة المزيد

    انتيكات السعدي
    antiquessaadiy.blogspot.com
    أعجبني · · إلغاء متابعة المنشور · المشاركة

    ردحذف