اخر الاخبار

09‏/11‏/2011

مؤسسات فوق الدستور وجماعات مصالح بدلاً من الشعب بقلم د. منار الشوربجى

ليس صحيحا أن الإسلاميين وحدهم هم الذين يعارضون وثيقة إعلان «المبادئ الأساسية» للدستور ووثيقة معايير اختيار الهيئة التأسيسية. وتصنيف المعارضين والمؤيدين وفق لونهم السياسى عبث لا تملك مصر ترفه فى هذه اللحظة الحاسمة من تاريخها، لأنه يجذب الانتباه بعيدا عما تمثله الوثيقتان من خطر على مستقبل بلادى.

فثورتنا العظيمة لم تقم حتى نوجد بعدها مؤسسات فوق الدستور لا تخضع للرقابة الشعبية، مهما كان احترامنا لها. ولا أحد «يحمى الشرعية الدستورية» سوى الشعب الذى هو مصدر السلطات بالمناسبة. وتحويل المؤسسة العسكرية إلى ضامن للدستور معناه تسييسها الذى هو كارثة حقيقية لمصر وللمؤسسة العسكرية معا.

ورغم أن الكثيرين كتبوا عن إعلان المبادئ الذى حمل تلك المعانى الخطيرة فى مادتيه التاسعة والعاشرة، فإن وثيقة معايير اختيار أعضاء الهيئة التأسيسية - التى ستكتب الدستور - لم تحظ باهتمام مماثل رغم أنها لا تقل خطورة عن وثيقة «المبادئ الأساسية»، فمعايير الاختيار التى حددتها الوثيقة تنطوى على ارتباك خطير فى تحديد المعايير أصلا، وخلل فادح فى رسم دور المؤسسة العسكرية والمحكمة الدستورية العليا، فضلا عن أنها تكرس موت السياسة الذى عانينا منه عقودا طويلة فى عهد مبارك. والارتباك فى تحديد المعايير تلاحظه فور قراءتك الوثيقة، فليس واضحا ما إذا كان معيار اختيار المائة عضو الذين سيكتبون الدستور هو تمثيل الشعب المصرى أم أن المعيار هو الخبرات المهنية والفنية اللازمة لكتابة الدستور، فإذا كان المعيار هو تمثيل «جميع أطياف الشعب المصرى»، كما قالت الوثيقة ذاتها، فما هو القطاع الشعبى الذى يمثله المجلس القومى لحقوق الإنسان؟ وهل يجوز أن يُمثَّل أساتذة الجامعة باثنى عشر مقعدا بينما تُمثَّل النقابات المهنية كلها، التى تضم الملايين، بخمسة عشر مقعدا فقط؟ وإذا كان المعيار هو تمثيل «جميع أطياف الشعب» فمن فى هذا التصنيف يا ترى يمثل العاطلين عن العمل والعاملين فى قطاع الاقتصاد غير الرسمى، وهم بالملايين بالمناسبة ولا يمثلهم اتحاد ولا نقابة؟ وكيف يمكن لأمة شابة أغلبية شعبها من الشباب أن يتم تمثيل شبابها بخمسة مقاعد فقط؟ والحقيقة أن هذا الارتباك نابع من أن منهج تمثيل طوائف الشعب الذى استخدمته الوثيقة يتبنى رؤية بعينها تمثل خطرا حقيقيا على عملية كتابة الدستور، فهو صنَّف الشعب المصرى على أساس المصالح المهنية والفئوية فى أغلب المقاعد، وهو ما يعنى بالضرورة أن كل أصحاب مصلحة سيصوغون الجزء الخاص بمصالحهم فى الدستور على مقاسهم، وهذه الرؤية المعيبة التى تتبناها «ليبرالية المصالح المنظمة» تقوم على أن المصلحة العامة هى حاصل جمع المصالح المختلفة فى المجتمع، فإذا أعطينا كل صاحب مصلحة ما يريده نكون قد حققنا الصالح العام، وهى أكذوبة كبرى فندها الكثير من علماء السياسة حول العالم، فالصالح العام مفهوم مختلف تماما لا يبدو أن وثيقة اختيار المعايير قد أخذته أصلا فى اعتبارها.

وإذا كان إعلان المبادئ الأساسية قد وضع المؤسسة العسكرية فوق الدستور فإن وثيقة معايير اختيار الهيئة التأسيسية قد وضعت المحكمة الدستورية العليا فوق الدستور، فالمحكمة الدستورية التى ينشئها فى الأصل الدستور - حتى تراقب دستورية القوانين - ستكون عندنا مشتركة فى كتابة الدستور بأربعة أعضاء، فالمحكمة التى ينشئها الدستور تشارك فى كتابته ثم تقوم بعد ذلك بمراقبة دستورية القوانين وفق الدستور الذى هو من صنعها! أما النكتة الحقيقية فهى أن المحكمة التى قلنا إنها ستشارك فى كتابة الدستور هى نفسها التى ستحكم عليه إذا ما أحاله لها المجلس العسكرى معترضا على بعض بنوده! أى من الجائز تماما أن تكون المحكمة خلال عملية كتابة الدستور ضمن أقلية عارضت البند نفسه الذى عارضه المجلس الأعلى لاحقا، فيحق لها أن تعتبر ما اعترضت عليه ملغىً!! تماما مثلما يحق الشىء نفسه للمجلس الأعلى بموجب الوثيقة!

ومن حقنا أن نتعرف على تلك العبقرية الفذة التى تفتق ذهنها عن وظائف للمحكمة العليا لم يعرفها بلد فى العالم، حيث منحها حق كتابة الدستور ثم الحكم عليه ثم الحكم بموجبه على دستورية القوانين!! ولا يقل خطورة عن هذا وذاك أن وثيقة معايير الاختيار أعطت ٢٠% فقط من مقاعد الهيئة التأسيسية للسياسيين، مقابل ٨٠% أغلبها لأصحاب المصالح المختلفة، وهو ما يعنى غياب الرؤية أصلا بشأن جوهر عملية كتابة الدستور وأهدافها، فالدستور الذى لا يعبر عن توافق حقيقى بين القوى والتيارات المختلفة فى المجتمع سرعان ما يسقط لأنه لا توجد قوى اجتماعية تحميه كونه يعبر عنها. ومن هنا، فإن كتابة الدستور لابد أن تقوم على توازنات دقيقة وتوافقات حقيقية، ومثل تلك التوازنات والتوافقات لا يتوصل لها سوى السياسيين، فأساتذة الجامعات وخبراء حقوق الإنسان والقانون الدستورى لا يمثلون سوى خبرات فنية تتم الاستعانة بها من جانب السياسيين وليس العكس. وتهميش السياسة فى هذه الوثيقة هو فى الحقيقة تكريس لمنطق حكم مبارك الذى أدى لموت السياسة الذى عانينا ولا نزال نعانى من تبعاته حتى الآن.

وفضلا عن كل تلك العلل التى انطوت عليها وثيقة معايير الاختيار، إلا أن الواضح أن من كتبوها يحنّون لتعبيرات ترزية مبارك المطاطية التى تعنى كل شىء وأى شىء، وإلا فليقولوا لنا ما هى بالضبط «المقومات الأساسية للدولة والمجتمع المصرى»!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق