اخر الاخبار

28‏/02‏/2011

محمد حسان.. اثبت محلك

اتصل بى شقيق محمد حسان، يطلب مساعدتى لتمكين الشيخ من الظهور فى أهم برنامج «توك شو» مصرى بعد اندلاع ثورة يناير، وألح علىَّ فى الطلب كثيراً بتهافت كنت أظن أن العلماء يترفعون عنه وبعيدون عنه كل البعد، ولكن خاب ظنى من رغبة الظهور التى طغت على كل شىء، وفى ظل قناعتى بأن رجل الدين يجب ألا يتدخل فى السياسة بخير أو شر، انتهى الأمر دون تحقيق رغبة الظهور التى أحسبها «غريزة»، ووجد الشيخ ضالته فى فضائيات أخرى ومنها فضائية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأمن الدولة والحزب الحاكم، وأرغى الشيخ وأزبد وهاج وماج مع حشرجة وصوت مذبوح فى حديث عن السياسة ذكر فيه كلمات بدت لسامعيها تثبيطا لعزم المتظاهرين فى ميدان التحرير، وبلهجة أبوية فوقية أخذ يبالغ فى دور الفضائيات الدينية متحسراً على غيابها قائلا «لو كانت القنوات الدينية موجودة لخاطبت هؤلاء الشباب ليبينوا لهم الحكم الشرعى»، وبدا الشيخ كأنه ورقة أخيرة يلقى بها السلطان لإجهاض الثورة وتأليب المواطنين عليها، ما سبق تذكرة لعلها تنفع المؤمنين العقلاء، لابد أن نضعها فى إطار التفسير والتمحيص عند قراءة مشهد مسجد النور الذى دخل إليه الشيخ فى حراسة وخرج فى حراسة بل اضطرت إدارة المسجد إلى نقب المنبر لإخراجه من وسط الجموع
.
المشهد الذى بدا مثل حفلات الأوسكار يدخل إلى النفس مقارنات بين شيخ اللحظة الفائتة وشيخ اللحظة الحالية، وبين مواقف ماقبل ٢٥ يناير ومابعدها، فلم أر الشيخ قبل الثورة معارضا تليدا للنظام ولم أجد رسائله الدعوية توجه خطابها الواضح الصريح ضد الظلم والاستبداد والقهر والعدوان على المصريين، فلم أسمع منه سوى «التقية» والخوض فى العام دون الخاص والتركيز على أن تأكل بيدك اليمنى وتدخل المراحيض برجلك اليسرى وهكذا للحفاظ على طلته الفضائية، ويتحدث إلى الناس بطريقة «لا تقربوا الصلاة» رغم علمه بأن هناك سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله ومن بينهم رجل قال كلمة حق عند سلطان جائر
«
.حسان» الذى طفا على السطح على «حس الثورة» يدفعك إلى تذكر الشيخ عبدالحميد كشك رحمه الله ومباشرته وصدقه فلم يخش فى الحق لومة لائم وتحمل تبعات تصديه للظلم دون خوف أو وجل، فلم يهادن أو يمرر أو يتفاهم أو يتواصل أو يضبط مؤشراً أو يضع بوصلة، وآمن بمبدأ «قل كلمة حق ثم امض».
الشيخ «حسان» كان يتضرع للرئيس لكى يعيد فضائية الرحمة وامتلأت الصحف بمناشداته، مؤكدا فيها دائما على أنهم لا يتحدثون فى السياسة وليسوا مسؤولين عن احتقان طائفى هنا أو هناك، ولكن تغير الحال ودانت الأمور وكالغير من نهازى الفرص نزل بحر السياسة على طريقة «نحن لا نسعى إليها لكنها تسعى إلينا» ليبدأ أحاديثه بإثارة موضوع المادة الثانية من الدستور وكأن الأمور استقرت فى مصر وحُلت كل المشاكل وبقيت قضية المادة الثانية
.
يصنع حسان مع آخرين ومنهم عمرو خالد جسراً لمصالحهم على حساب دماء الشهداء بانتهازية تعكسها تحركات هنا وهناك ترى فيها السياسة تلبس رداء الدين، وإذا اختلفت معهم أو خالفتهم فأنت حاقد كاره وتنالك اتهامات الكفر والإلحاد وغيرها من تهم الإقصاء والاستبعاد
.
حسان كان يكرر كلمات الرئيس المخلوع عند نصحه للمتظاهرين فقال «لقد سمى الرئيس الشباب بالشرفاء فلا تلوثوا ما قمتم به لا للتخريب لا للتحريق»، المتظاهرون لم يخربوا يا شيخ ومن فعل ذلك عناصر غير مسؤولة نجدها فى كل مجتمع خاصة مجتمعات الفقر والجوع، أرجوك لا تدع هواك ينسيك جادة الحق وطريق الصواب، فالحضور فى الفضاء العام يضعك فى مرمى النيران، وإذا اشتغلت بالسياسة فعليك تحمل مخاطرها، يا شيخ لم نرشحك للرئاسة حتى تعتذر فى بيان رسمى، وكفاك خوضا فى لجة السياسة، فمسجدك أولى بك وبرنامجك الفضائى يسعك ويسع آخرين، فكف عما تفعل ونستعير التعبير العسكرى «اثبت محلك» لننهرك وننهر أمثالك من رجال الدين الراغبين فى نزول بحر السياسة
.
وختاما قال الشاطبى فى الاعتصام «مخالفة ما اعتاده الناس عبء ثقيل.. وأهل الحق فى جنب الباطل قليل
».

السادة أعضاء المجلس العسكرى: الشعب ينتظر محاكمة جمال والشريف وعزمى وسرور/طارق الغزالي حرب

بصحيفة «المصرى اليوم» يوم ٢٤/٢ كتبت الصحفية المُحترمة الأستاذة درية الملطاوى مقالا تحت عنوان «الهيئة العامة للفساد» ذكرت فيه فى بدايته أنه يجب أن نعترف بعدما تكشف فى أيام قلائل من قضايا فساد وإفساد، أنه كانت هناك مايُشبه «هيئة عامة للفساد» فى هذه البلاد، ترعاه وتحميه وتمهد له الطُرق وتنير له الضوء الأخضر، دوماً ليستمر فى طريقه إلى النهاية بدون عوائق أو حتى مطبات، وتساءلت الكاتبة الفاضلة بضعة أسئلة مشروعة أولها: من هو رئيس هذه الهيئة؟ ومن هم أعضاؤها؟
وهل هناك درجات وظيفية بهذه الهيئة؟ وكيف كانوا يخططون لكل هذا الفساد بل وينجحون فيه بتفوق؟! وتلبية لدعوة الأخت الكريمة بضرورة محاكمة كل من أفسد فى هذا البلد وأهدر المال العام ونهب ثروات الشعب وأراضيه وممتلكاته، وبناءً على دعوتها بأنه لم يعد هناك تابوهات ممنوع الاقتراب منها، وأن علينا فتح الملفات وعدم ترك الفاسدين يتحركون بحرية، يتلاعبون ويفرمون ويحرقون الوثائق والمستندات التى تفضحهم، فإننى أضع بوضوح شديد إجابات لأسئلة الصحفية الشريفة.. فرئيس هذه «الهيئة العامة للفساد» هو رأس النظام، الذى أطاح به الشعب من منصبه السيد حسنى مبارك، ونواب رئيس الهيئة هم زوجته السيدة سوزان ثابت وولداهما، وأعضاء هذه الهيئة كثيرون، ولا تتسع مساحة المقال لذكر أسمائهم، وإن كان يتصدرهم أقارب وأنساب مبارك وعائلته وأصدقائهم
..
ونعم كانت هناك درجات وظيفية بهذة الهيئة، فمجلس الإدارة يضم أربعة أعضاء، اثنان منهما بمثابة الساقين اللتين ترتكز عليهما الهيئة، هما السيد صفوت الشريف والسيد فتحى سرور، واثنان آخران بمثابة اليدين اللتين تقومان بنثر بذور الفساد فى كل مكان هما السيد جمال مبارك والسيد زكريا عزمى.. ولمجلس الإدارة هيئة استشارية سياسية تعمل فى خدمته وتقديم كل مايلزم من استشارات حتى تكون الهيئة العامة للفساد قادرة على العمل بصورة فيها قدر كبير من التجميل والتضليل وخداع الجماهير، وأعضاء هذه الهيئة الاستشارية معظمهم للأسف من أساتذة الجامعات، الذين خانوا العلم الذى عاشوا سنوات طويلة فى محرابه، بعد أن خانوا الأخلاق الكريمة التى تربوا عليها، وأبرز أعضائها السادة مفيد شهاب، وعلىّ الدين هلال، ومحمد كمال، ومحمد عبداللاه.. كما أن للمجلس هيئة استشارية إعلامية تقوم بدور مهم جدا فى مغافلة الملايين من أفراد الشعب بحلو الكلام، وإلهائهم بتوافه الأمور، حتى تتم عمليات الاستيلاء والسرقة والنهب، تماما كما كان يفعل نجيب الريحانى مُجبراً فى الفيلم الشهير «سى عمر»، حتى يقوم زميله خفيف الدم عبدالفتاح القصرى، الذى يقوم بدور اللص المحترف بإتمام العملية
..
وتضم هذه الهيئة الإعلامية رؤساء مجالس إدارات ورؤساء تحرير الصحف والمجلات القومية أو بالأحرى الحكومية بلا استثناء، سواء القائمة المُزرية من الأسماء المُلوثة معدومة الكفاءة والمهنية، التى عُينت بواسطة السيد جمال مبارك فى السنوات الأخيرة أو من كانوا قبلهم على مدى عقدين من الذين كانوا خدماً فى بلاط الفرعون الكبير.. وكذلك السيد أنس الفقى خادم بيت الرئاسة، الذى حاول منع ممثل المجلس الأعلى للقوات المسلحة– والتى كانت تحميه من بطش الجماهير– من إلقاء بيانهم الأول فى الليلة السابقة لتنحى مبارك، والذى أنعش الأمل فى قلوب جميع المصريين، ومعه كل من عينهم فى مراكز قيادية فى مبنى ماسبيرو، والتى كانت مهمتهم الأولى والأخيرة التمهيد لمشروع التوريث، والذين بفضلهم تحول هذا المبنى الكبير، وكما قالت إعلامية محترمة قدمت استقالتها إلى «قلعة الخطيئة
».
إننى فى هذه المساحة المحدودة أدعو المجلس الأعلى للقوات المسلحة للبدء بتوقيف أعضاء «مجلس إدارة الهيئة العامة للفساد»، الذى يضم السادة جمال مبارك وصفوت الشريف وزكريا عزمى وفتحى سرور وتقديمهم إلى محاكمة علنية عاجلة بتهمة واضحة وضوح الشمس، ولا تحتاج وثائق ولا أدلة وهى «إفساد الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وإفقار الشعب المصرى وإذلاله».. فليس من المعقول ولا المقبول ألا يعلم أحد أين يتواجد السيد جمال مبارك هذه الأيام ومع من يتواصل ويتصل وتحركاته، ولا أن يُترك السيد زكريا عزمى يدخل ويخرج من مكاتبه يفرم ويحرق مايشاء من أوراق ومستندات، ولا أن يذهب كل من السيدين الشريف وسرور إلى مكتبيهما فى مجلسى الشورى والشعب فى حرية تامة وحراسة رسمية، ويقضون الوقت فى ترتيب أوراقهما وإخفاء ما يدينهما
!
وبعد هذه الخطوة الأهم الآن يتم تقديم باقى أعضاء الهيئات الاستشارية للفساد وذيولهم للمحاكمات. هذا هو الشىء الوحيد الذى يمكن أن يبعث الاطمئنان فى نفوس الشعب الذى مازال– ومعه كل الحق– يشعر بالقلق الشديد على ثورته العظيمة من ترك جميع أعضاء «الهيئة العامة للفساد» يعيثون فى الأرض فسادا ويستمرون فى الاتصال بأتباعهم وذيولهم وما أكثرهم فى كل مكان.. وربما كان هذا هو السبب الأكبر لرفض شباب الثورة السيد أحمد شفيق، بغض النظر عن كفاءته الشخصية

زيارة غير بريئة /فهمي هويدي

fahmy howaidy
إذا صحت الأنباء التى تحدثت عن وصول وفد يمثل الأمم المتحدة إلى القاهرة لتقييم الأوضاع المستجدة فيها، فإن الأمر يستحق الانتباه والحذر، لسبب جوهرى هو أن الأمم المتحدة أصبحت أحد العناوين التى تستخدمها الولايات المتحدة الأمريكية غطاء لتحقيق مآربها، الأمر الذى يعنى أن الزيارة المرتقبة ليست بريئة تماما، وأن الهدف منها هو إجراء مسح للساحة السياسية المصرية بعد ثورة 25 يناير، تمهيدا لاختيار مبعوث للأمم المتحدة إلى القاهرة يسهم فى التعاطى مع الواقع المستجد
.
الخبر بثته قناة الجزيرة، يوم الخميس الماضى، وذكرت فيه أن الوفد سيكون برئاسة لين باسكوا وكيل الأمين العام المسئول عن قسم الشئون السياسية. ورغم أن الهدف المعلن للوفد هو دراسة الأوضاع الاقتصادية وبحث إمكانية إسهام الأمم المتحدة فى مشروعات التنمية، إلا أن المعلومات التى تسربت عن برنامج زيارته شملت لقاءات عدة منها على سبيل المثال: الاجتماع مع أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة ــ الالتقاء مع وزير الخارجية المصرى ــ لقاءان حول مائدة مستديرة أحدهما مع ممثلين عن الشباب الذين اعتصموا فى الميدان، والثانى مع ممثلين عن منظمات المجتمع المدنى قد يكون بينهم من يمثل الإخوان المسلمين ــ لقاءات أخرى مع رئيس الوزراء السيد أحمد شفيق والدكتور محمد البرادعى والسيد عمرو موسى والسيد محمد فايق.
كما رأيت فإن أهداف هذا البرنامج ــ إذا صحت معلوماته ــ تتجاوز بكثير حدود المهمة التى أعلن عنها، وترجح فكرة إجراء مسح للواقع السياسى المستجد فى مصر. يؤيد ذلك أن الخبر الذى جرى بثه تحدث أيضا عن توجيه وفد مماثل إلى تونس، التى بدورها شهدت ثورة أطاحت برئيسها وقلبت نظامها السياسى.
يساعدنا على فهم الصورة أكثر أن نستحضر خبرة المنطقة مع مبعوث الأمم المتحدة خلال السنوات الأخيرة. فالمبعوث الذى أرسل إلى لبنان ــ بيرى لارسن ــ تم إيفاده لمتابعة تنفيذ قرار الأمم المتحدة رقم 1559 الذى دعا إلى انسحاب القوات الأجنبية من لبنان، وإلى تجريد الفصائل اللبنانية من السلاح (المقصود حزب الله). وطوال فترة وجوده فى لبنان فإنه كان يعمل بالتنسيق مع السفير الأمريكى فيلتمان. الذى أصبح لاحقا مساعدا لوزير الخارجية، أما المبعوث الذى تم إيفاده إلى فلسطين فإنه كان ظلا للسفير الأمريكى، وبالتالى فإنه كان يقف بالكامل مع الجانب الإسرائيلى.
هذه الخلفية تدعونا إلى القول بأن الهدف الأساسى للوفد القادم إلى القاهرة هو دراسة الأوضاع وتقييم الأشخاص وانتقاء عناصر بذاتها يمكنها المساهمة فى الالتفاف على الثورة وتحسس الطريق نحو ضمان المصالح الأمريكية، وبوجه أخص كل ما يتعلق بالالتزام بمعاهدة السلام مع إسرائيل، حتى فيما خص مشروعات التنمية الاقتصادية، فإن تسييسها بحيث تتحرك فى ذلك الإطار سيكون الاحتمال الأرجح.
الوفود التى تزور القاهرة هذه الأيام، التى مثلت الاتحاد الأوروبى وبريطانيا وإيطاليا، ليست بعيدة عن محاولات جس النبض والتجسس لاحتمالات التعامل مع الوضع الذى نشأ بعد الثورة. وقد كان مثيرا للدهشة والضحك فى الوقت ذاته أن يذكر فى أحد البرامج الحوارية المسائية فى مصر أن تلك الوفود جاءت «تدعم الثورة»!
لا تثريب ولا لوم على هؤلاء القادمين، لأنهم فى النهاية يؤدون عملهم ويتحرون مصالحهم، لكننا نقع فى الخطأ ونستحق اللوم إذا ما افترضنا فيهم البراءة، وتصورنا أنهم قادمون تعبيرا عن حبهم لمصر أو تأييدهم للثورة. ذلك أنه لم يعد سرا أن ما حدث فى مصر فاجأ الجميع وأقلقهم. لأن الدول الغربية بوجه عام والولايات المتحدة وإسرائيل بوجه خاص، كانت تعتبر وجود الرئيس السابق ونظامه بمثابة ضمانة تأمين لمصالحها. حتى إن إسرائيل التى اعتبرت الرئيس السابق كنزا استراتيجيا كانت تعربد فى المنطقة وهى مطمئنة إلى أن مبارك ونظامه يوفران الحماية لظهرها. ولست صاحب هذا الكلام، لأن أحد كبار المحللين الإسرائيليين «الوف بن» قالها صراحة فى مقالة نشرتها هاآرتس (عدد 13/2) حيث قرر أن: قادة إسرائيل كانوا يعرفون أن خاصرتها اليسرى مؤمنة حين يذهبون إلى الحرب أو يبنون المستوطنات أو يفاوضون على السلام على الجبهات الأخرى ــ أضاف أنه حتى خطة نتنياهو التى استهدفت الهجوم على إيران فإنها انبنت على افتراض ضمان تأييد مبارك لتلك الخطوة، ولذلك فقد تم تأجيلها وإعادة النظر فيها الآن.
إننا مشغولون كثيرا بتفاعلات الداخل، وذلك مبرر لا ريب، لكننا ينبغى ألا نغفل عن ترتيبات الخارج، الذى لن يتوقف عن محاولة توظيف ثورة الشعب لصالحه. وهو التحدى الذى ينبغى أن ينال حظه من الانتباه والحذر

27‏/02‏/2011

رسالة إلى النائب العام : هذه الجرائم لن تسقط بالتقادم..فاروق جويدة


أمام النائب العام المستشار عبدالمجيد محمود عدد كبير جدا من القضايا التى يجرى التحقيق فيها.. من بين هذه القضايا اعتداءات صارخة على المال العام واستيلاء على أراضى الدولة وأصولها والتربح وغسل الأموال.. والتحايل والنصب واستغلال النفوذ.. وأمام هذه الملفات يقف عدد كبير من المسئولين من بينهم رؤساء وزارات سابقون ووزراء ومسئولون كبار.. وفى الأيام الأخيرة قدم المستشار د.جودت الملط رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات للنائب العام تلالا من التقارير كان الجهاز يقدمها لمجلس الشعب والحكومة والأجهزة الرقابية ورئاسة الجمهورية.فى آخر تقارير الجهاز تأكيد بأن هناك ألف تقرير رقابى قدمها د. الملط عن أداء الحكومة خلال الفترة من يوليو 2004 حتى يوليو 2010 وهى فترة حكومة د.أحمد نظيف التى صدر قرار تشكيلها فى 13 يوليو 2004 وأمام النائب العام الآن عدد كبير من الأشخاص الذين يجرى التحقيق معهم فى جرائم ومخالفات تتعلق بإهدار المال العام وهناك مجموعة من القضايا الخطيرة جدا بوقائعها وشخوصها وجرائمها يجب أن نتوقف عندها ومن بين هذه التحقيقات
:
أولا: برنامج الخصخصة.. هذا البرنامج يعتبر من أخطر الجرائم التى تعرض لها الاقتصاد المصرى فى السنوات الأخيرة حيث تم بيع أصول الدولة المصرية فى ظل اندفاع مجنون وسياسات ارتجالية ومصالح غامضة أخفت الكثير من الجرائم حيث تم بيع أهم المشروعات الصناعية والتجارية بأرخص الأسعار.. وهناك عمليات تواطؤ واضحة فى بيع هذه المشروعات.. وفى هذه الصفقات باعت الحكومة أهم وأكبر مشروعات مصر الاقتصادية ابتداء بشركات الاتصالات الثلاث وهى موبينيل وفودافون واتصالات وهذه الشركات تبيع الهواء للمصريين حيث يدفع الشعب المصرى 35 مليار جنيه سنويا فى المكالمات التليفونية وحدها.
من بين مشروعات الخصخصة أيضا بيع جميع مصانع الأسمنت وعددها 11 مصنعا وللأسف الشديد أن هذه المصانع أعيد بيعها لشركات أجنبية بعشرات البلايين من الجنيهات وأصبحت صناعة الأسمنت فى مصر فى يد الشركات الأجنبية وأخذ رجال الأعمال ثمن هذه المصانع دون أن يدفعوا مليما واحدا للدولة فى صورة رسوم أو ضرائب.
من بين الشركات والمصانع التى تم بيعها أيضا صناعة الحديد والصلب وكلنا يعلم عمليات الاحتكار التى كان يمارسها المهندس أحمد عز فى التلاعب فى أسواق الحديد وأسعاره سنوات طويلة.. وللأسف الشديد أنه يجرى التحقيق الآن حول مشروعات صناعة الحديد التى تم بيعها من الحكومة لكى يحتكر هذه الصناعة المهمة شخص واحد.. من بين جرائم برنامج الخصخصة أيضا بيع جميع مصانع السلع الغذائية والمشروبات والفنادق السياحية والمنسوجات ومصانع الغزل والنسيج والزيوت والصابون والأسمدة والكيماويات والأدوية.. ووجدنا أنفسنا أمام عدد قليل من الأشخاص انتقلت إليهم جميع أصول ومشروعات ومصانع الدولة المصرية ليمارسوا كل ألوان الاحتكار وتعطيش السوق ورفع الأسعار بكل الوسائل.. وكان من أغرب الأشياء فى سجلات برنامج الخصخصة أن عائد هذا البرنامج ضاع فى سداد جزء ضئيل من العجز فى الميزانية العامة للدولة أو سداد معاشات العاملين فى هذه المشروعات أو دفع تعويضات لهم تحت نظام المعاش المبكر الذى أطاح بمئات الآلاف منهم وألقى بهم إلى سوق البطالة.
الخلاصة أن برنامج الخصخصة كان من أكبر أبواب التحايل والاعتداء على المال العام ونهب ثروة الوطن.. وهنا ينبغى أن يطلب النائب العام ملفات هذا البرنامج من الحكومة لأن فيه جرائم كثيرة.
ولا شك أن من أسوأ نتائج برنامج الخصخصة كان مشكلة البطالة وزيادة معدلات التضخم وانتشار ظاهرة الاحتكارات فى الأسواق المصرية.
هذا البرنامج يضم أخطر جرائم الاعتداء على المال العام فى تاريخ مصر الحديثة.
أزمة البنوك وكلنا يعلم السياسات العشوائية التى سادت البنوك المصرية فى ظل ما كان يسمى سياسة الانفتاح والخصخصة.. فتحت البنوك أبوابها لرجال الأعمال الذين حصلوا على عشرات المليارات دون ضمانات وهرب منهم من هرب وبقى من بقى ولكن خسائر البنوك فى هذه الكارثة تجاوزت 60 مليار جنيه.
فى أحد البرامج التليفزيونية تحدث الدكتور محيى الدين الغريب وزير المالية الأسبق عن جريمة تعويم الجنية المصرى أمام الدولار والنتائج السيئة التى ترتبت على هذا القرار الخطير.. قال الغريب إن رفع سعر الدولار من 340 قرشا إلى سبعة جنيهات تقريبا كان سببا فى كارثة اقتصادية ما زالت مصر تدفع ثمنها حتى الآن.. وأكد د. الغريب أن رجال الأعمال المصريين حصلوا على قروض ضخمة بلا ضمانات بالجنيه المصرى عندما كان سعر الدولار 340 قرشا ثم قاموا بشراء كميات كبيرة من الدولارات بهذا السعر المنخفض ثم باعوها بعد تعويم الجنيه وبهذا حققوا أرباحا خيالية بدعم من حكومة د.عاطف عبيد وأن من بين رجال الأعمال من دخلوا هذه اللعبة تحت رعاية الحكومة ودعم منها وهذا يعنى أن من حصل على قرض قيمته مليار جنيه من البنك وقام بتحويله إلى دولارات ثم باعه بالسعر الجديد حقق أرباحا بلغت مليار جنيه أخرى بنسبة 100%.
واتهم د. الغريب عاطف عبيد بأنه كان وراء هذه الجريمة ونحن الآن نعرف أن النائب العام أصدر قرارا بمنع د. عبيد من السفر وهنا ينبغى أن يسمع لشهادة د.الغريب خاصة أن لديه اتهامات كثيرة حول ما حدث فى جريمة معركة الدولار والتجاوزات فى برنامج الخصخصة.. نريد أن نعرف كيف تم بيع المشروعات وماذا عن عمليات التقييم وما هو مصير الأراضى الملحقة بالمشروعات وكيف تم التنازل عنها وتحويلها إلى مساكن وعقارات فى مخالفة صريحة للقوانين التى تحكم عمليات بيع مشروعات القطاع العام وأصول الدولة.. هنا أيضا ينبغى مراجعة مستحقات البنوك لدى رجال الأعمال فى معركة الدولار والمكاسب التى حققها البعض من هذا القرار الغريب الذى أدى إلى نتائج اقتصادية واجتماعية خطيرة من بينها ارتفاع أسعار الواردات والديون وأسعار السلع فى الأسواق وارتفاع نسبة التضخم وزيادة العجز فى الميزانية وقبل هذا كله أن عددا من الأشخاص قد حققوا أرباحا خيالية دون جهد أو عمل.
ثالثا: ديون مصر.. فى حديث وزير المالية الأسبق د.الغريب قال إن ديون مصر حتى عام 93 كانت 143 مليار جنيه خلال ثلاثين عاما.. وفى آخر تقديرات البنك المركزى بلغ رصيد الدين الداخلى والخارجى 1080 مليار جنيه أى تريليون و80 مليار جنيه بزيادة قدرها 850 مليار جنيه فى اقل من 18 عاما وهذه الأرقام تتطلب أن نتوقف عندها ونتساءل أين ذهبت هذه المليارات.. يضاف لهذا الدين العام ما حدث فى أموال هيئة التأمين والمعاشات ورصيدها البالغ وهو 280 مليار جنيه ولا أحد يعرف مصيرها وإن كان الجهاز المركزى للمحاسبات يؤكد أن وزارة المالية قد استخدمت 121 مليار جنيه منها حتى منتصف عام 2010 ولا أحد يعرف أين ذهبت أموال أصحاب المعاشات منذ انضمام وزارة التأمينات إلى وزارة المالية.. نحن أمام حكومة اقترضت فى خمس سنوات أكثر من 600 مليار جنيه واستخدمت دون وجه حق أموال التأمينات الاجتماعية وتقوم كل سياستها على العجز والقروض.. فأين ذهبت كل هذه الأموال مضافا إليها بلايين قناة السويس وصادرات البترول وموارد السياحة والمعونات الخارجية.
نحن أمام حكومة نهب واعتداء على المال العام وسرقة أموال الشعب.
رابعا: ملف الأراضى.. هذا الملف يتطلب من المستشار د.عبدالمجيد محمود النائب العام أن يراجع عمليات تخصيص وبيع الأراضى على الطرق الصحراوية فى كل أرجاء مصر ابتداء بالطريق الصحراوى القاهرة ــ الاسكندرية ثم مناطق الإسماعيلية والسويس والساحل الشمالى وأراضى سيناء فى شرم الشيخ والغردقة والعريش وطابا وهذه المناطق جميعها تعرضت لاعتداءات صارخة على الأراضى.. وهنا ينبغى مراجعة مئات العقود المشبوهة.. وقرارات تخصيص الأراضى لمشروعات مثل مدينتى وبالم هيلز والسليمانية وغرب خليج السويس وأرض التحرير وقرية توت آمون فى أسوان وفندق شهرزاد وعمر أفندى وفندق ونتر بالاس بالأقصر والمريديان بالقاهرة وشيراتون الغردقة وبيع أراضى المصانع والمشروعات.. إن مسلسل الاستيلاء على أراضى الدولة المصرية واضح وصريح ولا يتطلب من النائب العام غير أن يراجع عقود التخصيص ومدى سلامتها من الناحية القانونية.
لقد أصدر النائب العام عدة قرارات بالتحفظ على الأرصدة المالية لعدد من كبار المسئولين فى الدولة وكلنا يعلم أن هذه الأموال تسربت بالخارج وأنها مودعة الآن فى البنوك الأجنبية ومثل هذه الأموال تحتاج إلى إجراءات قانونية طويلة حتى تكشف هذه البنوك عن أموال هؤلاء المسئولين وهذا يتطلب إجراءات سريعة وفريق عمل متفرغا لكى يقوم بهذه المهمة الصعبة خاصة أن البنوك الأجنبية تحرص على عملائها حتى ولو كانوا من رجال المافيا واللصوص.. ولاشك أن المسئولين عندنا كانوا على درجة من الحرص الشديد فى معاملاتهم مع هذه البنوك ولكن مع الإصرار والمطاردة والإجراءات القانونية يمكن كشف هذه الثروات المهربة.
نحن أمام مسلسل طويل من الجرائم التى تتطلب وقفة صارمة لإعادة أموال الشعب الغلبان ابتداء بملف الديون والخصخصة وانتهاء بملفات الأراضى والبنوك والأوراق موجودة والشواهد والاتهامات ثابتة ولا يتطلب الأمر من النائب العام غير أن يحيلها للجهات القضائية المختصة.. إن استرداد أموال الشعب المفروض أن يكون أول إنجازات هذه الثورة.

الحركة فى الاتجاه الخاطئ..حسن نافعة


الخوف على ثورة 25 يناير من المتربصين بها والحديث المتصاعد اليوم عن مؤامرات تهدف للانقلاب على الثورة ومطلبيتها الديمقراطية لهما ما يبررهما. فالكثير من مؤسسات نظام الرئيس السابق، خاصة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، مازالت كالصندوق الأسود لا يعلم المصريون عن أحوالها شيئا يذكر وتتواتر الأنباء عن تورط بعض أطرافها فى ممارسات غير مطمئنة إن لم تكن إجرامية. والإشارة هنا إلى ما شهدته الأيام الأخيرة من هجمات متفرقة على منشآت حكومية وأعمال عنف طائفى واعتداءات على بعض نشطاء حقوق الإنسان ومحاولات لتوريط القوات المسلحة فى مواجهات مع المواطنين
.
كذلك تنشط أجهزة الحزب الوطنى وبقايا أمانته العامة، وتلك، على الرغم من السقوط المريع، مازالت على قيد الحياة، نظرا لعدم الحل الرسمى للحزب، وبالتعاون مع طائفة من رجال الأعمال الفاسدين من ممولى البلطجية وبالتنسيق مع قيادات محلية لإعادة تنظيم صفوفها والاستعداد للانتخابات التشريعية المقبلة. البعض الآخر من أعضاء الحزب الوطنى وبتشجيع من عدد من «القيادات» يحاول منذ بداية ثورة 25 يناير اختراقها بتكوين أحزاب جديدة تدعى انتماءها للحركات الشبابية وتوظف شيئا من أموال وأدوات وشبكات الحزب الوطنى لتكثيف وجودها السياسى والإعلامى قبل الانتخابات.
ويزيد من خوف المصريين على الثورة ومن خشيتهم ألا تترجم مطلبيتها الديمقراطية واقعا يسمح ببناء مصر الحرة والعادلة ــ حقيقة اقتصار محاسبة المتورطين فى منظومة الفساد وانتهاك الحريات المرعبة التى صنعها نظام الرئيس السابق وزبانية التوريث على إجراءات ليست بمكتملة بعد ضد بعض الأفراد.
نعم أصبح العادلى وعز وجرانة والمغربى والفقى قيد الاعتقال وبدأ التحقيق القضائى معهم، إلا أن آخرين كثر من الفاسدين والمتورطين فى انتهاك الحريات فى الأجهزة الأمنية ومن قيادات المؤسسات الإعلامية الرسمية ومسئولين كبار فى القطاع المصرفى وفى مجالس إدارات النقابات العمالية والمهنية مازالوا فى مراكزهم ويمارسون أعمالهم دون تغيير.
يصعب على، كما يصعب على قطاع واسع من المواطنين، مطالعة صحف كالأهرام والأخبار والجمهورية وروزاليوسف وغيرها ورؤساء مجالس إدارتها وتحريرها المعينون من قبل نظام مبارك مازالوا فى مواقعهم ويحصلون على امتيازاتهم المالية الخيالية ويتعالون على شرفاء الصحفيين والمحررين فى مؤسساتهم.
هؤلاء روجوا طويلا لسلطوية الرئيس السابق ولمشروع التوريث، وفى الكثير من الأحيان بصياغات وأساليب يندى لها الجبين كملوخية الرئيس السابق وعبقرية جمال مبارك وأحمد عز الانتخابية وثورة البلطجية المضادة، واستمروا على خطهم هذا إلى 11 فبراير دون بادرة واحدة لمراجعة نقدية أو تفكير فى مصلحة الوطن والمواطنين.
فلماذا يترك هؤلاء دون إجراءات محاسبة مهنية وتحقيق فى شبهات الفساد، خاصة مع تواتر أنباء المستندات المحروقة والمهربة، ويقرر بعدها استمرارهم فى مواقعهم من عدمه؟ وينطبق ذات الأمر على الفاسدين فى مجالس إدارات النقابات والقطاع المصرفى وشركات قطاع الأعمال ومجالس المحليات وغيرها، ويمكن إزاءهم جميعا تشكيل لجان قضائية مستقلة بمشاركة المجتمع المدنى للتحقيق فى شبهات الفساد ومحاسبتهم ومن ثم تحييد أثرهم السلبى بإخراجهم من الحياة السياسية والعامة فى مصر.
مشروع إذن الخوف على الثورة من المتربصين بها ومن أصحاب المصلحة فى إخفاقها، إن من المتجمعين حول الرئيس السابق فى شرم الشيخ أو من المتورطين فى منظومة السلطوية والفساد التى أقامها طوال العقود الماضية. إلا أن الخوف على الثورة يرتبط أيضا بتوجهات وأفعال القوى الوطنية والحركات الشبابية التى أسهمت بها ومكنتنا من أن نحقق أول الأهداف وهو إجبار الرئيس السابق على التنحى عن منصبه.
بين 25 يناير و11 فبراير امتلكت القوى الوطنية والحركات الشبابية وجموع المواطنين زمام المبادرة الإستراتيجية متقدمة على نظام مبارك وطورت مطلبيتها بسرعة وبقوة شعبية كاسحة لتجبره على الرحيل. أما منذ 11 فبراير وإلى اليوم، وعلى الرغم من الطاقة الإيجابية الرائعة التى صنعتها الثورة بين المواطنين وقدرتها على التخلص بالكامل من نظام مبارك وبناء مصر الحرة العادلة، والقوى الوطنية والشبابية تمر بلحظة ضبابية أفقدتها المبادرة الإستراتيجية وأخشى أن تؤدى إلى حالة من التخبط فى الأفعال والممارسات ذات تداعيات شديدة الخطورة.
فعوضا عن التعامل الجاد والجماعى مع استحقاقات المرحلة الانتقالية أو التركيز على تشكيل هيئة للحوار الوطنى ومضامين التعديلات الدستورية المقترحة والمطالبة بإلغاء حالة الطوارئ وتغيير قوانين الأحزاب ومباشرة الحقوق السياسية وإدارة الانتخابات والإشراف عليها والضغط الشعبى من أجل إطلاق حرية تكوين الأحزاب وتأجيل الانتخابات التشريعية قليلا إلى أن يتسنى للأحزاب تنظيم صفوفها والتشديد على ضرورة إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، تفرقت السبل بالقوى الوطنية والحركات الشبابية بين مشارك فى حكومة الدكتور شفيق المعدلة ومطالب بإسقاطها وهى فى نهاية المطاف لا تعدو أن تكون حكومة تسيير العمل التنفيذى لبضعة أشهر.
تفرقت بنا السبل أيضا بين منادٍ بسرعة تكوين أحزاب جديدة تعبر عن الروح والجوهر الديمقراطى لثورة 25 يناير وتشارك فى الانتخابات المقبلة، ومشكك فى الأحزاب خوفا من تفتيتها للثورة ومطالبها. تفرقت بنا السبل بين من يرى فى جماعة الإخوان فصيلا وطنيا له حق المشاركة فى السياسة والانتخابات شريطة تعامله بإيجابية مع استحقاقات مدنية السياسة وممارستها وبين متخوف من هيمنة محتملة للجماعة المنظمة على مصر الجديدة عبر بوابة الانتخابات.
وقناعتى أننا إن لم ننتبه لخطورة اللحظة الضبابية الراهنة ونستعيد قدرتنا الجماعية على المطالبة بفاعلية بالتحول الديمقراطى، سنضع نحن الثورة فى اختبار أصعب بكثير من مؤمرات المتربصين والفاسدين. دعونا نتوافق على جوهرية هيئة الحوار الوطنى وإلغاء الطوارئ وإطلاق حرية تكوين الأحزاب وتأجيل الانتخابات التشريعية ونوجه الفعل الجماهيرى (التظاهر السلمى دون تعطيل لاعتيادية الحياة اليومية) للضغط من أجل الاستجابة لهذه المطالب.
دعونا لا نلتفت لمحاولات شق الصف بين القوى المدنية والإخوان ونلتقى على أرضية قبول مشاركة حزب للإخوان فى السياسة والانتخابات طالما اتسم بالطابع المدنى وفصل وظيفيا عن الجماعة الدعوية. دعونا أيضا نتسامى عن محاولات بذر الشقاق بين مواطنى مصر الأقباط والمسلمين ونتماهى فى فعلنا العام والخاص مع روحية المواطنة الرائعة التى أثبتت وجودها ثورة 25 يناير بتلاقى وتلاحم الأقباط والمسلمين بعيدا عن نظام مبارك الفاسد واحتفائه المصطنع بالوحدة الوطنية. دعونا نشجع من يريد تكوين أحزاب جديدة على أرضية مطلبية المدنية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتجمع أكثر مما تفرق، ولا نقوض فى ذات الوقت من طاقة وقوة أولئك الذين يديرون دفة التحول الديمقراطى إلى الأمام من بوابة المجتمع المدنى

الخوف المشروع على ثورة 25 يناير..عمرو حمزاوي


الخوف على ثورة 25 يناير من المتربصين بها والحديث المتصاعد اليوم عن مؤامرات تهدف للانقلاب على الثورة ومطلبيتها الديمقراطية لهما ما يبررهما. فالكثير من مؤسسات نظام الرئيس السابق، خاصة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، مازالت كالصندوق الأسود لا يعلم المصريون عن أحوالها شيئا يذكر وتتواتر الأنباء عن تورط بعض أطرافها فى ممارسات غير مطمئنة إن لم تكن إجرامية. والإشارة هنا إلى ما شهدته الأيام الأخيرة من هجمات متفرقة على منشآت حكومية وأعمال عنف طائفى واعتداءات على بعض نشطاء حقوق الإنسان ومحاولات لتوريط القوات المسلحة فى مواجهات مع المواطنين
.
كذلك تنشط أجهزة الحزب الوطنى وبقايا أمانته العامة، وتلك، على الرغم من السقوط المريع، مازالت على قيد الحياة، نظرا لعدم الحل الرسمى للحزب، وبالتعاون مع طائفة من رجال الأعمال الفاسدين من ممولى البلطجية وبالتنسيق مع قيادات محلية لإعادة تنظيم صفوفها والاستعداد للانتخابات التشريعية المقبلة. البعض الآخر من أعضاء الحزب الوطنى وبتشجيع من عدد من «القيادات» يحاول منذ بداية ثورة 25 يناير اختراقها بتكوين أحزاب جديدة تدعى انتماءها للحركات الشبابية وتوظف شيئا من أموال وأدوات وشبكات الحزب الوطنى لتكثيف وجودها السياسى والإعلامى قبل الانتخابات.
ويزيد من خوف المصريين على الثورة ومن خشيتهم ألا تترجم مطلبيتها الديمقراطية واقعا يسمح ببناء مصر الحرة والعادلة ــ حقيقة اقتصار محاسبة المتورطين فى منظومة الفساد وانتهاك الحريات المرعبة التى صنعها نظام الرئيس السابق وزبانية التوريث على إجراءات ليست بمكتملة بعد ضد بعض الأفراد.
نعم أصبح العادلى وعز وجرانة والمغربى والفقى قيد الاعتقال وبدأ التحقيق القضائى معهم، إلا أن آخرين كثر من الفاسدين والمتورطين فى انتهاك الحريات فى الأجهزة الأمنية ومن قيادات المؤسسات الإعلامية الرسمية ومسئولين كبار فى القطاع المصرفى وفى مجالس إدارات النقابات العمالية والمهنية مازالوا فى مراكزهم ويمارسون أعمالهم دون تغيير.
يصعب على، كما يصعب على قطاع واسع من المواطنين، مطالعة صحف كالأهرام والأخبار والجمهورية وروزاليوسف وغيرها ورؤساء مجالس إدارتها وتحريرها المعينون من قبل نظام مبارك مازالوا فى مواقعهم ويحصلون على امتيازاتهم المالية الخيالية ويتعالون على شرفاء الصحفيين والمحررين فى مؤسساتهم.
هؤلاء روجوا طويلا لسلطوية الرئيس السابق ولمشروع التوريث، وفى الكثير من الأحيان بصياغات وأساليب يندى لها الجبين كملوخية الرئيس السابق وعبقرية جمال مبارك وأحمد عز الانتخابية وثورة البلطجية المضادة، واستمروا على خطهم هذا إلى 11 فبراير دون بادرة واحدة لمراجعة نقدية أو تفكير فى مصلحة الوطن والمواطنين.
فلماذا يترك هؤلاء دون إجراءات محاسبة مهنية وتحقيق فى شبهات الفساد، خاصة مع تواتر أنباء المستندات المحروقة والمهربة، ويقرر بعدها استمرارهم فى مواقعهم من عدمه؟ وينطبق ذات الأمر على الفاسدين فى مجالس إدارات النقابات والقطاع المصرفى وشركات قطاع الأعمال ومجالس المحليات وغيرها، ويمكن إزاءهم جميعا تشكيل لجان قضائية مستقلة بمشاركة المجتمع المدنى للتحقيق فى شبهات الفساد ومحاسبتهم ومن ثم تحييد أثرهم السلبى بإخراجهم من الحياة السياسية والعامة فى مصر.
مشروع إذن الخوف على الثورة من المتربصين بها ومن أصحاب المصلحة فى إخفاقها، إن من المتجمعين حول الرئيس السابق فى شرم الشيخ أو من المتورطين فى منظومة السلطوية والفساد التى أقامها طوال العقود الماضية. إلا أن الخوف على الثورة يرتبط أيضا بتوجهات وأفعال القوى الوطنية والحركات الشبابية التى أسهمت بها ومكنتنا من أن نحقق أول الأهداف وهو إجبار الرئيس السابق على التنحى عن منصبه.
بين 25 يناير و11 فبراير امتلكت القوى الوطنية والحركات الشبابية وجموع المواطنين زمام المبادرة الإستراتيجية متقدمة على نظام مبارك وطورت مطلبيتها بسرعة وبقوة شعبية كاسحة لتجبره على الرحيل. أما منذ 11 فبراير وإلى اليوم، وعلى الرغم من الطاقة الإيجابية الرائعة التى صنعتها الثورة بين المواطنين وقدرتها على التخلص بالكامل من نظام مبارك وبناء مصر الحرة العادلة، والقوى الوطنية والشبابية تمر بلحظة ضبابية أفقدتها المبادرة الإستراتيجية وأخشى أن تؤدى إلى حالة من التخبط فى الأفعال والممارسات ذات تداعيات شديدة الخطورة.
فعوضا عن التعامل الجاد والجماعى مع استحقاقات المرحلة الانتقالية أو التركيز على تشكيل هيئة للحوار الوطنى ومضامين التعديلات الدستورية المقترحة والمطالبة بإلغاء حالة الطوارئ وتغيير قوانين الأحزاب ومباشرة الحقوق السياسية وإدارة الانتخابات والإشراف عليها والضغط الشعبى من أجل إطلاق حرية تكوين الأحزاب وتأجيل الانتخابات التشريعية قليلا إلى أن يتسنى للأحزاب تنظيم صفوفها والتشديد على ضرورة إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، تفرقت السبل بالقوى الوطنية والحركات الشبابية بين مشارك فى حكومة الدكتور شفيق المعدلة ومطالب بإسقاطها وهى فى نهاية المطاف لا تعدو أن تكون حكومة تسيير العمل التنفيذى لبضعة أشهر.
تفرقت بنا السبل أيضا بين منادٍ بسرعة تكوين أحزاب جديدة تعبر عن الروح والجوهر الديمقراطى لثورة 25 يناير وتشارك فى الانتخابات المقبلة، ومشكك فى الأحزاب خوفا من تفتيتها للثورة ومطالبها. تفرقت بنا السبل بين من يرى فى جماعة الإخوان فصيلا وطنيا له حق المشاركة فى السياسة والانتخابات شريطة تعامله بإيجابية مع استحقاقات مدنية السياسة وممارستها وبين متخوف من هيمنة محتملة للجماعة المنظمة على مصر الجديدة عبر بوابة الانتخابات.
وقناعتى أننا إن لم ننتبه لخطورة اللحظة الضبابية الراهنة ونستعيد قدرتنا الجماعية على المطالبة بفاعلية بالتحول الديمقراطى، سنضع نحن الثورة فى اختبار أصعب بكثير من مؤمرات المتربصين والفاسدين. دعونا نتوافق على جوهرية هيئة الحوار الوطنى وإلغاء الطوارئ وإطلاق حرية تكوين الأحزاب وتأجيل الانتخابات التشريعية ونوجه الفعل الجماهيرى (التظاهر السلمى دون تعطيل لاعتيادية الحياة اليومية) للضغط من أجل الاستجابة لهذه المطالب.
دعونا لا نلتفت لمحاولات شق الصف بين القوى المدنية والإخوان ونلتقى على أرضية قبول مشاركة حزب للإخوان فى السياسة والانتخابات طالما اتسم بالطابع المدنى وفصل وظيفيا عن الجماعة الدعوية. دعونا أيضا نتسامى عن محاولات بذر الشقاق بين مواطنى مصر الأقباط والمسلمين ونتماهى فى فعلنا العام والخاص مع روحية المواطنة الرائعة التى أثبتت وجودها ثورة 25 يناير بتلاقى وتلاحم الأقباط والمسلمين بعيدا عن نظام مبارك الفاسد واحتفائه المصطنع بالوحدة الوطنية. دعونا نشجع من يريد تكوين أحزاب جديدة على أرضية مطلبية المدنية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتجمع أكثر مما تفرق، ولا نقوض فى ذات الوقت من طاقة وقوة أولئك الذين يديرون دفة التحول الديمقراطى إلى الأمام من بوابة المجتمع المدنى.

دروس من ثورة مصر..مصطفى البرغوثي


كنتُ أحضر مؤتمراً بروما، تضمّن مراجعاتٍ لما جاءت به التحركات الشعبية العربية من جديدٍ بشأن علاقة الدين بالدولة، وعلاقة جماعات المجتمع المدني والحزبيات الإسلامية على حدٍ سواء بالتغيير الذي يُرادُ إدخالُهُ على الأنظمة، وأفكار الأطراف المشاركة بشأن مستقبل البلاد والعباد. ولا شكّ أنّ الانطباع عن هذه الثورات تغير في أوروبا والولايات المتحدة، وما عادوا خائفين إلى الحدّ الذي كانوا عليه عند بداية التحركات. فقد تبين أنّ أكثرية المشاركين الساحقة تريد تداوُلاً على السلطة، وانتخابات حرة، وحكم قانون، وشفافية وخلاص من الفساد. وما طالب أحدٌ من الإسلاميين المشاركين بتطبيق الشريعة ولا قال: الإسلام هو الحلّ، وهو الشعار الذي كان "الإخوان" يحملونه في كل انتخابات، مهما عانوا في سبيل ذلك من مشقّات. وهكذا فعندنا من جهةٍ ذلك التغير الذي لاحظْناهُ في أفكار الشباب، وهم في الغالب متدينون، لكنهم ليسوا حزبيين، ولا يربطون التغيير السياسي بأُطروحةٍ دينيةٍ معيَّنة. وقد كنا نتجادل طوال أكثر من عقدين، مع المنظّرين الأميركيين والأوروبيين بشأن الأُصولية الدينية المنتشرة بين الشبان، والتي تدفعُهُم للتطرف وربما للعنف. ولذا فإنّ الحديث عن الاستثناء العربي، والاستثناء الإسلامي، من جانب أمثال برنارد لويس وفريد زكريا وهنتنغتون وفؤاد عجمي وبعض المنظّرين العرب والمسلمين؛ كان المقصود به أنّ أفكار الحداثة والديمقراطية وممارساتهما وقفت حسيرةً أمام أعتاب الشباب العربي والإسلامي، والذي يفضّل الدولة الدينية المُعادية للغرب، وللحكّام العرب والمسلمين! بيد أنّ شوارع الدول العربية شهدت وتشهد منذ شهرين تحركات شعبية شبابية واسعة جداً تقول جميعها بالدولة المدنية. وهذا يعني أنّ الانطباع السابق لا أساس له ربما باستثناء بعض الكتب والمقالات والشعارات التي كان يكتبها أو يرفعها الحزبيون الإسلاميون في مواجهة الأنظمة والحكومات، والتي كانت تأبى عليهم المشاركة وإنْ في حدودها الدنيا. فالجمهور الديمقراطي الواسع مُفاجئٌ كأنما ظهر فجأةً من تحت الأرض أو نزل من السماء. وهذه المفاجأة لا يُسألُ عنها المراقبون الأجانب؛ بل نُسألُ عنها بالدرجة الأولى نحن، الكتّاب والمُراقبون العرب والمسلمون، وقد انصرف أكثرنا إمّا لمجادلة الأجانب، دفاعاً عن الإسلام، أو انصرفنا لمجادلة الأُصوليين العرب والمسلمين داعين إياهم للهدوء والاعتدال
!
ثم إنّ الإسلاميين أنفسَهُم أظهروا حرصاً على الطابع المدني للتحرك الشعبي، كما كتب بعضهم مقالاتٍ في الدولة المدنية التي يريدونها. وسواء أكان ذلك حكمةً من جانبهم، أو أنّ تغيراً محسوساً حدث في أفكارهم نتيجة التجارب؛ فإنّ الساحة الحرة والتنافُسية، كفيلةٌ بأن تدفع الإسلاميين لمزيد من المراجعة والتفكير بالمستقبل. فما دام الجمهور أو فئات واسعة منه قد تحركت باتجاه العمل والفعالية؛ فالذين يريدون البقاء في الساحة السياسية وممارسة تأثير عليها؛ يصبحون عُرضةً للتأثر إن كانوا حريصين على النجاح، ومُجاراة إسلام الجمهور، وليس إسلام الحزب!
بيد أنّ هناك فكرةً أُخرى يشّجعُني عليها أيضاً التحرك الشعبي الواسعُ الذي فوجئنا به جميعاً. فالفرضية السابقة التي تبنّاها الأميركيون تقول إنّ التأزم الديني هو الذي تسبّب في تأزم سياسي، فظهرت أفكار ومسلَّمات الدولة الإسلامية، وتطبيق الشريعة. وقد شجّع على هذا الانطباع صعود ظاهرة التدين أو الصحوة الإسلامية، وظهور الإسلام السياسي في قلب امتدادات الصحوة، كأنما ليُزيل الحداثيات ومظاهر التغريب، وبخاصةٍ أنّ كثيرين من الدعاة الإسلاميين اعتبروا الأنظمة السياسية السائدة جزءاً من التغرب الحاصل في شتى المجالات. والمعروف أنّ الحكّام العرب والمسلمين شجّعوا الغربيين على أخْذ هذه الأصوات مأخذ الجدّ عندما دأبوا على التحذير من أنّ ذهابهم هم يعني الفوضى أو سيطرة الإسلاميين المتشددين المعادين للغرب. وهكذا فالعرب والمسلمون الآخرون، بحسب هذه الرؤية، ليسوا مؤهَّلين لإقامة أنظمةٍ ديمقراطيةٍ، لأنهم يفتقرون إلى الثقافة الديمقراطية. وما أزال أذكر سلسلةً عن الأوضاع في العالم العربي صدرت في أواخر التسعينيات، وأشرف عليها باحثٌ سياسيٌّ معروف عنوانها: العالم العربي، ديمقراطية بدون ديمقراطيين!
إنّ الفرضية التي أريد طرحها بديلاً للمسلَّمة السابقة، هي أنّ التأزُّم السياسيَّ هو الذي أدى ويؤدي إلى التأزم الديني وليس العكس. فقد كان "الإخوان" موجودين بمصر أيام الملكية، وكانوا ينزلون للانتخابات ويسقطون. وقد مارس تنظيمهم الخاصّ أعمالاً عنيفةً لأسبابٍ وطنية، كما قالوا، وما زاد ذلك من شعبية "الإخوان" ولا احترامهم في عيون الناس. وقتَها كانت الحياة السياسية بخير، وكانت الأحزاب تتنافس، وكان "الوفد" هو الحزب الشعبي الأول، و"الإخوان" يعتبرونه عدوَّهم الأول. ثم قامت ثورة 1952، بدعمٍ من "الإخوان". وقد حلّت الثورة الأحزاب، وأقفلت كلّ القنوات والمنافذ السياسية، وما عاد من حق أحدٍ أن يتحرك على الساحة السياسية التي احتلّها الضباط بالكامل. وعندما مات مصطفى النحّاس، زعيم "الوفد"، خرجت له جنازةٌ ضخمةٌ بالإسكندرية أدهشت الناصريين، وبعد أشهر جرى الإعلان عن اكتشاف مؤامرة لـ"الإخوان" على النظام، وعرفنا كتاب سيّد قطب، "معالم في الطريق"، الذي يدعو فيه للحاكمية الإلهية. فخلال عشر سنواتٍ من الانسداد السياسي في عهد الضباط، عاد زعيم شخصيةً شعبيةً كبرى، وأصبح "الإخوان" يقولون إنّه لا حُكْمَ إلاّ لله، وصارت الديمقراطية مثل الشيوعية، تقليدين غربيَّين جاهليَّين!
وعلينا أن لا ننسى أنّ الأنظمة العربية آنذاك، في مصر وسوريا والعراق والجزائر وليبيا والسودان؛ كانت قد سيطرت عليها أنظمة الضباط، بمقولاتها حول حتمية التحول الاشتراكي. وكان المنطقيُّ أن يواجهها الإسلاميون بحتمية الحلّ الإسلامي، وجاهلية الطاغوت. وكان القرضاوي قد ذكر في الكتاب الأول للسلسلة التي بدأ بإصدارها عام 1972 عن "حتمية الحلّ الإسلامي"، إنه إذا كانت الأيديولوجيات الإلحادية والدهرية تعتبر نفسها حتميات؛ فإنّ المؤمنين الموعودين بنصرٍ من الله وفتْحٍ قريب، هم الأَولى بذلك. لقد كان إذن تأزماً سياسياً صاخباً وعنيفاً بدأ بانسداداتٍ داخل مصر، كبرى الدول العربية، ثم امتدّ إلى عشرة بلدانٍ بالمشرق والمغرب لاحقاً. ودخل ثانياً وثالثاً أو التحق باستقطابات الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. وجاءت هزيمة عام 1967 لتُسقط كلّ أعذار التحشيد والانسداد، فَجُنَّ جنونُ الناس، وبخاصةٍ الشباب، وساد التطرف الديني، في مواجهة التطرف الدهري. وكانت لأنظمة الضباط معذرتان في طغيانها: التنمية المستقلة، ومواجهة إسرائيل. وبين عامي 1967 و 1973 انتهت المواجهة، ثم حصل الفشل التنموي أو اتّضح، فازداد تعَملُقُ الانسداديةُ الإسلامية، على أساس أنّ الجذرية الانسدادية، لا يمكنُ مواجهتُها إلاّ بجذريةٍ مُشابهةٍ في دعواها الحتمية من جهة، ومواجهة ديكتاتورية الضباط بالديكتاتورية الإلهية أو ديكتاتورية الشريعة!
وإذا اعتبر أحدٌ من الدارسين، أنّ هذا التفسير الذي أُقدّمه للمرة الثالثة أو الرابعة غير معقول لأنّ إحدى الديكتاتوريتين غير موجودة أو غير متحقِّقة، باستثناء ما حدث في إيران والسودان؛ فالإجابة أنّ ما حدث في ذينك البلدين باسم الإسلام أو الحلّ الإسلامي، ليس بالأمر القليل. ثم إنّ الديكتاتورية الدهرية المقفلة مستمرة منذ أربعين عاماً وأكثر. وهذا يعني أننا لسنا طبيعيين، وعندنا استثناء، ليس بسبب إسلاميينا الذين قبع مئات الألوف منهم خلال العقود الماضية في السجون، فضلاً عن إعمال النار في رقابهم؛ بل بسبب الأنظمة الجمهورية الخالدة والوراثية. وها هو الجمهور يتدفَّقُ على الشوارع مُسالماً ووديعاً ومعتدلاً ومعه الإسلاميون المتهمون من جانب الأنظمة بالعنف، بينما الواقع أنّ الأنظمة الجمهورية الوراثية هذه هي التي تقتلُ وحدها، ولا يقتلُ أحدٌ غيرها!
إنّ الذي أذهبُ إليه بعد ظواهر الشهرين الأخيرين أنّ التأزم السياسي، الذي أحدثته الديكتاتوريات الجمهورية، هو الذي أنتج التأزم الديني. وإذا استتبَّ الانفتاح السياسي، وتحرر الإسلاميون من ربقة الخوف والسجون والملاحقة؛ فأعتقد أنّ التشدد الدينيَّ سيزول عن بكرة أبيه في البلاد العربية الرئيسية التي تصبح الحريات الأساسية مضمونةً فيها.
وهناك أمرٌ آخر أختم به، وهو ضرورة الإقبال على المراجعات والتشخيصات والقراءات النقدية. فالذي حصل في الشهور الأخيرة فضيحة لنا، لا يجوزُ أن تتكرر. لقد نزل ملايين الشبان الناهضين والأذكياء والفعّالين إلى شوارع مدننا، وهم يطالبون بحقّهم في الحياة والمشاركة، وما كان أحدٌ منا يعرف عنهم شيئاً، بسبب القصور في معرفة مستجدات مجتمعاتنا. ينبغي أن نكون أقرب لحركية المجتمعات، أقرب لنبض الشارع، لكي نتمكَّن من التوقُّع، ولكي نتمكَّن من المُساوقة أو المشاركة، ولكي لا نُخطئَ في الفهم، فنعتمد على التفسيرات الاستشراقية والسلطوية

الثورات وضرورة المراجعات..رضوان السيد

كنتُ أحضر مؤتمراً بروما، تضمّن مراجعاتٍ لما جاءت به التحركات الشعبية العربية من جديدٍ بشأن علاقة الدين بالدولة، وعلاقة جماعات المجتمع المدني والحزبيات الإسلامية على حدٍ سواء بالتغيير الذي يُرادُ إدخالُهُ على الأنظمة، وأفكار الأطراف المشاركة بشأن مستقبل البلاد والعباد. ولا شكّ أنّ الانطباع عن هذه الثورات تغير في أوروبا والولايات المتحدة، وما عادوا خائفين إلى الحدّ الذي كانوا عليه عند بداية التحركات. فقد تبين أنّ أكثرية المشاركين الساحقة تريد تداوُلاً على السلطة، وانتخابات حرة، وحكم قانون، وشفافية وخلاص من الفساد. وما طالب أحدٌ من الإسلاميين المشاركين بتطبيق الشريعة ولا قال: الإسلام هو الحلّ، وهو الشعار الذي كان "الإخوان" يحملونه في كل انتخابات، مهما عانوا في سبيل ذلك من مشقّات. وهكذا فعندنا من جهةٍ ذلك التغير الذي لاحظْناهُ في أفكار الشباب، وهم في الغالب متدينون، لكنهم ليسوا حزبيين، ولا يربطون التغيير السياسي بأُطروحةٍ دينيةٍ معيَّنة. وقد كنا نتجادل طوال أكثر من عقدين، مع المنظّرين الأميركيين والأوروبيين بشأن الأُصولية الدينية المنتشرة بين الشبان، والتي تدفعُهُم للتطرف وربما للعنف. ولذا فإنّ الحديث عن الاستثناء العربي، والاستثناء الإسلامي، من جانب أمثال برنارد لويس وفريد زكريا وهنتنغتون وفؤاد عجمي وبعض المنظّرين العرب والمسلمين؛ كان المقصود به أنّ أفكار الحداثة والديمقراطية وممارساتهما وقفت حسيرةً أمام أعتاب الشباب العربي والإسلامي، والذي يفضّل الدولة الدينية المُعادية للغرب، وللحكّام العرب والمسلمين! بيد أنّ شوارع الدول العربية شهدت وتشهد منذ شهرين تحركات شعبية شبابية واسعة جداً تقول جميعها بالدولة المدنية. وهذا يعني أنّ الانطباع السابق لا أساس له ربما باستثناء بعض الكتب والمقالات والشعارات التي كان يكتبها أو يرفعها الحزبيون الإسلاميون في مواجهة الأنظمة والحكومات، والتي كانت تأبى عليهم المشاركة وإنْ في حدودها الدنيا. فالجمهور الديمقراطي الواسع مُفاجئٌ كأنما ظهر فجأةً من تحت الأرض أو نزل من السماء. وهذه المفاجأة لا يُسألُ عنها المراقبون الأجانب؛ بل نُسألُ عنها بالدرجة الأولى نحن، الكتّاب والمُراقبون العرب والمسلمون، وقد انصرف أكثرنا إمّا لمجادلة الأجانب، دفاعاً عن الإسلام، أو انصرفنا لمجادلة الأُصوليين العرب والمسلمين داعين إياهم للهدوء والاعتدال
!
ثم إنّ الإسلاميين أنفسَهُم أظهروا حرصاً على الطابع المدني للتحرك الشعبي، كما كتب بعضهم مقالاتٍ في الدولة المدنية التي يريدونها. وسواء أكان ذلك حكمةً من جانبهم، أو أنّ تغيراً محسوساً حدث في أفكارهم نتيجة التجارب؛ فإنّ الساحة الحرة والتنافُسية، كفيلةٌ بأن تدفع الإسلاميين لمزيد من المراجعة والتفكير بالمستقبل. فما دام الجمهور أو فئات واسعة منه قد تحركت باتجاه العمل والفعالية؛ فالذين يريدون البقاء في الساحة السياسية وممارسة تأثير عليها؛ يصبحون عُرضةً للتأثر إن كانوا حريصين على النجاح، ومُجاراة إسلام الجمهور، وليس إسلام الحزب!
بيد أنّ هناك فكرةً أُخرى يشّجعُني عليها أيضاً التحرك الشعبي الواسعُ الذي فوجئنا به جميعاً. فالفرضية السابقة التي تبنّاها الأميركيون تقول إنّ التأزم الديني هو الذي تسبّب في تأزم سياسي، فظهرت أفكار ومسلَّمات الدولة الإسلامية، وتطبيق الشريعة. وقد شجّع على هذا الانطباع صعود ظاهرة التدين أو الصحوة الإسلامية، وظهور الإسلام السياسي في قلب امتدادات الصحوة، كأنما ليُزيل الحداثيات ومظاهر التغريب، وبخاصةٍ أنّ كثيرين من الدعاة الإسلاميين اعتبروا الأنظمة السياسية السائدة جزءاً من التغرب الحاصل في شتى المجالات. والمعروف أنّ الحكّام العرب والمسلمين شجّعوا الغربيين على أخْذ هذه الأصوات مأخذ الجدّ عندما دأبوا على التحذير من أنّ ذهابهم هم يعني الفوضى أو سيطرة الإسلاميين المتشددين المعادين للغرب. وهكذا فالعرب والمسلمون الآخرون، بحسب هذه الرؤية، ليسوا مؤهَّلين لإقامة أنظمةٍ ديمقراطيةٍ، لأنهم يفتقرون إلى الثقافة الديمقراطية. وما أزال أذكر سلسلةً عن الأوضاع في العالم العربي صدرت في أواخر التسعينيات، وأشرف عليها باحثٌ سياسيٌّ معروف عنوانها: العالم العربي، ديمقراطية بدون ديمقراطيين!
إنّ الفرضية التي أريد طرحها بديلاً للمسلَّمة السابقة، هي أنّ التأزُّم السياسيَّ هو الذي أدى ويؤدي إلى التأزم الديني وليس العكس. فقد كان "الإخوان" موجودين بمصر أيام الملكية، وكانوا ينزلون للانتخابات ويسقطون. وقد مارس تنظيمهم الخاصّ أعمالاً عنيفةً لأسبابٍ وطنية، كما قالوا، وما زاد ذلك من شعبية "الإخوان" ولا احترامهم في عيون الناس. وقتَها كانت الحياة السياسية بخير، وكانت الأحزاب تتنافس، وكان "الوفد" هو الحزب الشعبي الأول، و"الإخوان" يعتبرونه عدوَّهم الأول. ثم قامت ثورة 1952، بدعمٍ من "الإخوان". وقد حلّت الثورة الأحزاب، وأقفلت كلّ القنوات والمنافذ السياسية، وما عاد من حق أحدٍ أن يتحرك على الساحة السياسية التي احتلّها الضباط بالكامل. وعندما مات مصطفى النحّاس، زعيم "الوفد"، خرجت له جنازةٌ ضخمةٌ بالإسكندرية أدهشت الناصريين، وبعد أشهر جرى الإعلان عن اكتشاف مؤامرة لـ"الإخوان" على النظام، وعرفنا كتاب سيّد قطب، "معالم في الطريق"، الذي يدعو فيه للحاكمية الإلهية. فخلال عشر سنواتٍ من الانسداد السياسي في عهد الضباط، عاد زعيم شخصيةً شعبيةً كبرى، وأصبح "الإخوان" يقولون إنّه لا حُكْمَ إلاّ لله، وصارت الديمقراطية مثل الشيوعية، تقليدين غربيَّين جاهليَّين!
وعلينا أن لا ننسى أنّ الأنظمة العربية آنذاك، في مصر وسوريا والعراق والجزائر وليبيا والسودان؛ كانت قد سيطرت عليها أنظمة الضباط، بمقولاتها حول حتمية التحول الاشتراكي. وكان المنطقيُّ أن يواجهها الإسلاميون بحتمية الحلّ الإسلامي، وجاهلية الطاغوت. وكان القرضاوي قد ذكر في الكتاب الأول للسلسلة التي بدأ بإصدارها عام 1972 عن "حتمية الحلّ الإسلامي"، إنه إذا كانت الأيديولوجيات الإلحادية والدهرية تعتبر نفسها حتميات؛ فإنّ المؤمنين الموعودين بنصرٍ من الله وفتْحٍ قريب، هم الأَولى بذلك. لقد كان إذن تأزماً سياسياً صاخباً وعنيفاً بدأ بانسداداتٍ داخل مصر، كبرى الدول العربية، ثم امتدّ إلى عشرة بلدانٍ بالمشرق والمغرب لاحقاً. ودخل ثانياً وثالثاً أو التحق باستقطابات الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. وجاءت هزيمة عام 1967 لتُسقط كلّ أعذار التحشيد والانسداد، فَجُنَّ جنونُ الناس، وبخاصةٍ الشباب، وساد التطرف الديني، في مواجهة التطرف الدهري. وكانت لأنظمة الضباط معذرتان في طغيانها: التنمية المستقلة، ومواجهة إسرائيل. وبين عامي 1967 و 1973 انتهت المواجهة، ثم حصل الفشل التنموي أو اتّضح، فازداد تعَملُقُ الانسداديةُ الإسلامية، على أساس أنّ الجذرية الانسدادية، لا يمكنُ مواجهتُها إلاّ بجذريةٍ مُشابهةٍ في دعواها الحتمية من جهة، ومواجهة ديكتاتورية الضباط بالديكتاتورية الإلهية أو ديكتاتورية الشريعة!
وإذا اعتبر أحدٌ من الدارسين، أنّ هذا التفسير الذي أُقدّمه للمرة الثالثة أو الرابعة غير معقول لأنّ إحدى الديكتاتوريتين غير موجودة أو غير متحقِّقة، باستثناء ما حدث في إيران والسودان؛ فالإجابة أنّ ما حدث في ذينك البلدين باسم الإسلام أو الحلّ الإسلامي، ليس بالأمر القليل. ثم إنّ الديكتاتورية الدهرية المقفلة مستمرة منذ أربعين عاماً وأكثر. وهذا يعني أننا لسنا طبيعيين، وعندنا استثناء، ليس بسبب إسلاميينا الذين قبع مئات الألوف منهم خلال العقود الماضية في السجون، فضلاً عن إعمال النار في رقابهم؛ بل بسبب الأنظمة الجمهورية الخالدة والوراثية. وها هو الجمهور يتدفَّقُ على الشوارع مُسالماً ووديعاً ومعتدلاً ومعه الإسلاميون المتهمون من جانب الأنظمة بالعنف، بينما الواقع أنّ الأنظمة الجمهورية الوراثية هذه هي التي تقتلُ وحدها، ولا يقتلُ أحدٌ غيرها!
إنّ الذي أذهبُ إليه بعد ظواهر الشهرين الأخيرين أنّ التأزم السياسي، الذي أحدثته الديكتاتوريات الجمهورية، هو الذي أنتج التأزم الديني. وإذا استتبَّ الانفتاح السياسي، وتحرر الإسلاميون من ربقة الخوف والسجون والملاحقة؛ فأعتقد أنّ التشدد الدينيَّ سيزول عن بكرة أبيه في البلاد العربية الرئيسية التي تصبح الحريات الأساسية مضمونةً فيها.
وهناك أمرٌ آخر أختم به، وهو ضرورة الإقبال على المراجعات والتشخيصات والقراءات النقدية. فالذي حصل في الشهور الأخيرة فضيحة لنا، لا يجوزُ أن تتكرر. لقد نزل ملايين الشبان الناهضين والأذكياء والفعّالين إلى شوارع مدننا، وهم يطالبون بحقّهم في الحياة والمشاركة، وما كان أحدٌ منا يعرف عنهم شيئاً، بسبب القصور في معرفة مستجدات مجتمعاتنا. ينبغي أن نكون أقرب لحركية المجتمعات، أقرب لنبض الشارع، لكي نتمكَّن من التوقُّع، ولكي نتمكَّن من المُساوقة أو المشاركة، ولكي لا نُخطئَ في الفهم، فنعتمد على التفسيرات الاستشراقية والسلطوية

26‏/02‏/2011

مخصصات الشرطة بمصر تفوق الدعم السلعي

















بلغت مخصصات الشرطة المصرية في موازنة العام المالي الحالي 2010/2011 الذي بدأ في يوليو/ تموز الماضي وينتهي في يونيو/ حزيران المقبل أكثر من 14 مليار جنيه مصري، لتحتل المركز الثالث بين الجهات التي تتلقى أكبر المخصصات
.
وتصدرت وزارة التعليم تلك الجهات بمخصصات وصلت إلى نحو 31 مليار جنيه تليها مخصصات الدفاع البالغة 25 مليارا, وفق بيانات وزارة المالية
.
وتوزعت مخصصات الشرطة ما بين عشرة مليارات للأجور و1.7 مليار لشراء السلع والخدمات التي يتطلبها العمل اليومي لأفراد الشرطة من ورق وطباعة ووقود وصيانة، و1.4 مليار للاستثمارات خاصة في مقرات الشرطة
.
كما حصلت الشرطة على نحو تسعين مليون جنيه من مخصصات الدعم

. نمو مخصصات الشرطة رغم عجز الموازنة وبلغ النصيب النسبي لمخصصات الشرطة 3.5% من إجمالي الإنفاق الجاري للموازنة، البالغ 403 مليارات جنيه. إلا أن نصيب أجور الشرطة من إجمالي أجور العاملين بالحكومة والبالغ 95 مليارا بلغت نسبته حوالي 11% من الإجمالي، وهو ما يشير إلى ارتفاع متوسطات أجورهم. وبلغ نصيب الشرطة من إجمالي مخصصات شراء السلع والخدمات للجهاز الحكومي 6%. كما بلغ نصيب استثمارات الشرطة من إجمالي استثمارات الموازنة الحكومية 3.5%.
وعادة لا يتم الإفصاح عن عدد العاملين بجهاز الشرطة، إلا أن بيانات الجهاز المركزي للإحصاء خلال عام 2008 الخاصة بالعاملين بالقطاع العام وقطاع الأعمال العام ذكرت أن عدد العاملين بالدفاع والأمن والعدالة بلغ 701 ألف شخص
.
وهكذا يضم العدد الإجمالي إلى جانب الدفاع والشرطة كل العاملين بالمحاكم ووزارة العدل والأجهزة التابعة لها
.
ولم تذكر بيانات وزارة المالية ضمن بيانات التوزيع القطاعي لمخصصات الشرطة سوى ثلاث جهات هي مصلحة الأمن والشرطة والتي بلغ نصيبها نحو 9.5 مليارات جنيه، وديوان عام وزارة الداخلية الذي خصص له 3.8 مليارات ومصلحة السجون التي نالت 580 مليونا
.
ورغم أن معدل النمو للإنفاق الجاري بالموازنة العامة ما بين العام المالي الحالي والسابق قد بلغت نسبته 10% فإن نسبة الزيادة لمخصصات ديوان عام وزارة الداخلية ما بين العامين قد بلغت 22
%.
وبلغ معدل نمو مخصصات مصلحة الأمن 16%، في حين بلغ نمو مخصصات مصلحة السجون 25
%.
وإذا كانت مخصصات الشرطة قد تخطت الـ14 مليار جنيه، فإنها تستطيع الحصول على تمويل إضافي خلال العام من خلال الاحتياطيات العامة بالموازنة والبالغة أكثر من 19 مليارا
.
وتعانى الموازنة من عجز متوقع بلغ 191 مليار جنيه كفرق بين إجمالي الإنفاق وإجمالي الإيرادات المتوقعة، وهو عجز يتوقع ارتفاعه عن ذلك بسبب الاضطرار لزيادة مخصصات الدعم للسلع التموينية نتيجة ارتفاع أسعار الحبوب دوليا والتي تستورد مصر منها كمية كبيرة، إلى جانب توقع انخفاض حصيلة الضرائب من المشروعات السياحية بسبب تأثر السياحة بعوامل ظهور أسماك القرش بمنطقة شرم الشيخ وحوادث الطرق وأحداث التفجير قرب كنيسة القديسين والمظاهرات بالشوارع التي واجهتها الشرطة بالعنف مما أسفر عن عدد من القتلى وعشرات المصابين
.
وتسبب عجز الموازنة بخفض الاستثمارات في الموازنة بنحو ثمانية مليارات جنيه عن الموازنة السابقة رغم ما تؤدي إليه من تحسين مستوى الخدمات الصحية والتعليمية والمرافق وارتباط ذلك بالتشغيل مع ارتفاع نسب البطالة، كذلك العجز عن الاستجابة لمطالب زيادة الأجور لمواجهة ارتفاع أسعار السلع والغذاء حيث كانت نسبة زيادة الأجور بالحكومة 10%، بينما تراوحت نسبة نمو أسعار الغذاء وفق جهاز الإحصاء الرسمي ما بين 17 و22% خلال الشهور الأخيرة
.
كما أدى استحواذ فوائد وأقساط الدين الداخلي والخارجي الحكومي على نسبة 35% من إجمالي الإنفاق بالموازنة إلى انخفاض النصيب النسبي للاستثمارات إلى 8% فقط، وحصول قطاع الصحة على سبعة مليارات جنيه رغم تدهور المستوى الصحي لكثير من المستشفيات الحكومية
.
مخصصات الشرطة تفوق الصحة والعدالة

كما حصل قطاع العدل والمحاكم على 4.5 مليارات جنيه رغم بلوغ عدد القضايا بالمحاكم حتى عام 2007 ووفق جهاز الإحصاء 17.5 مليون قضية منها 10.7 ملايين قضية جنائية و2.2 مليون قضية مدنية ومليونا قضية أحوال شخصية. وكان نصيب وزارة التنمية المحلية المعنية بالمحافظات البالغ عددها 29 محافظة تسعمائة مليون جنيه كما بلغ نصيب وزارة البيئة ثلاثة ملايين فقط.
ورغم ارتفاع معدلات الفقر والذي تقدره بيانات البنك الدولي بنسبة 40% من السكان وتقدره المصادر الحكومية بنسبة 20% أي حوالي 16 مليون مواطن، وفق النسبة الحكومية، فقد بلغت مخصصات وزارة التضامن الاجتماعي ملياري جنيه يتجه منها 1.4 مليار لمعاش الضمان الاجتماعي لنحو مليون أسرة فقيرة، وهو المعاش الشهري الذي تتراوح قيمته ما بين 120 و160 جنيها وفق عدد أفراد الأسرة
.
وتحصل الأسرة المكونة من أربعة أفراد فأكثر على الحد الأقصى الذي يعادل أقل من 29 دولارا شهريا. وإذا كانت الأرملة أو المطلقة التي تعيش بمفردها تحصل على 120 جنيها كمعاش شهري من وزارة التضامن فإن الأرملة العجوز التي تحصل على معاش السادات من وزارة التأمينات التي تم ضمها لوزارة المالية تحصل على 140 جنيها شهريا بعد زيادة تلك المعاشات
.
وزادت مخصصات الشرطة عن مخصصات الدعم السلعي الذي بلغ 13 مليارا و585 مليون جنيه لدعم أسعار القمح لإنتاج الخبز المدعوم بنحو عشرة مليارات جنيه، ولدعم كميات من السكر بنحو 1.9 مليار، والزيت بنحو 1.8 مليار جنيه، وذلك للصرف لنحو 62 مليون شخص مقيدين في البطاقات التموينية
.
وتتسع الهوة بين مخصصات الشرطة بالموازنة وبين مخصصات صندوق تطوير المناطق العشوائية البالغ عددها 1279 منطقة عشوائية بالمدن حيث لا يوجد حصر بالمناطق العشوائية بالريف والتي يقطنها نحو 18 مليون نسمة وفق هيئة أبحاث البناء التابع لوزارة الإسكان. وبلغت مخصصات الصندوق 163 مليون جنيه، وهو ما يعد أفضل حالا من أكاديمية البحث العلمي التي نالت 64 مليون جنيه أو من جهاز بناء وتنمية القرية الذي يتابع أحوال القرى المصرية وبلغ نصيبه 11 مليونا فقط
.
ورغم المخصصات الضخمة للشرطة فإن الشكوى متزايدة من طغيان الاهتمام بالأمن السياسي على حساب الأمن الاجتماعي. وتزخر تقارير منظمات حقوق الإنسان بقضايا التعذيب داخل أقسام الشرطة والتي أسفرت عن موت بعض ضحايا التعذيب

. كما تزخر صفحات الحوادث بالصحف بالعديد من حالات التعامل الخشن من قبل العاملين بأقسام الشرطة مع المواطنين العاديين ممن ليس لديهم نفوذ أو واسطة.
إيداع الشاكى والمشكو بحقه في الحجز
ويقوم بعض الضباط بتلفيق الاتهامات لإغلاق القضايا بالإتيان بأشخاص لا علاقة لهم بالجريمة الواقعة في الحيز الجغرافي لأقسام الشرطة التي يعلمون بها كي يتم إكراههم على الاعتراف بارتكابها حتى يظهر الضابط أمام رؤسائه أنه استطاع خلال فترة وجيزة التوصل إلى الجاني.
ولقد شاع بين القضاة والمحامين قيام بعض ضباط الشرطة باستدعاء بعض من سبق اتهامهم في قضايا سابقة أو تم القبض عليهم عشوائيا
.
وقيام الضابط بوضع مسدس على مكتبه وبجواره قطعة حشيش وورقة نقدية مزورة ليقوم الضابط بتخيير الشخص البريء بقبول اتهامه في القضية التي يريد الضابط استكمالها، أو الاختيار ما بين اتهامه بإحدى التهم الأخرى المعروضة على مكتب الضابط ما بين حمل سلاح غير مرخص أو مخدرات أو تزييف عملة والتي أخرجها الضابط من درج مكتبه دون أي صلة بين الشخص الذي تم استدعاؤه أو القبض عليه بأي منها

.ويقوم البعض بوضع بعض من يقومون بالإبلاغ عن قضايا في الحجز (الحبس) مع من اتهموهم كوسيلة للحد من إقدام الجمهور على الإبلاغ عن قضايا حيث سيجد الشاكي أنه سيدخل الحجز مع المشكو منه. وبذلك يظهر قسم الشرطة بين أقرانه منخفضا في معدلات الجريمة.
ويصل الأمر إلى حد عدم قبول تسجيل الإبلاغ عن الحوادث حتى تظهر صحيفة القسم أمام مفتشي الداخلية أفضل بما يتيح فرص الترقي للعاملين به
.
ومن ذلك ما رواه والد سائق عربة نصف نقل في شبرا عندما تغيب ابنه بسيارته وما عليها من بضائع، ورفض قسم الشرطة تحرير بلاغ بغيابه مما اضطره للجوء إلى مسؤول كبير كواسطة لمجرد تحرير محضر بغياب ابنه الذي تبين مقتله قبل ثمانية أيام فشل خلالها في تسجيل محضر عن غيابه
.
وهو ما كرره والد طفل في منشية ناصر عندما اختفى ابنه ورفض قسم الشرطة تحرير بلاغ مما اضطره للبحث بنفسه عن الطفل ليجد نفسه في مزرعة بها أكثر من خمسين طفلا مخطوفا، ومطالبة الخاطفين له بفدية آلاف الجنيهات ليتبين بعدها مقتل الطفل.
بل إن السيدة التي كانت متجهة لمستشفى حميات إمبابة وسقط ابنها في فتحة على كوبري الساحل بالنيل في ظلام الفجر، وجدت قسوة في التعامل والتهديد بوضعها في الحجز عندما طالبت الموجودين بقسم الشرطة بسرعة التحرك لإنقاذ ابنها من الغرق واضطر أبوه للبحث بنفسه لينتشل جثة ابنه.
ويمارس بعض مندوبي الشرطة والذين يمثلون أقل الدرجات الشرطية ألوانا من الابتزاز على المواطنين خاصة فيما يخص مخالفات المرور بالحصول على مبالغ نقدية، كما تتنوع ممارسات بعض أمناء الشرطة، وهى فئة أعلى من الأمناء وأقل درجه من الضباط، بالحصول على إتاوات من الباعة المتجولين أو إجبار سائقي الميكروباص على اصطحابهم في مهامهم الرسمية والتي تستمر ساعات طويلة دون دفع أجر.
كما يحصل بعض المخبرين، وهم أقل الدرجات الشرطية بالريف، على إتاوات دورية من قبل من عليهم أحكام أو المتهربين من التجنيد نظير عدم القبض عليهم، حيث حقق بعض هؤلاء ثراء ملموسا متمثلا في بناء منازل لا تتفق مع ما يتقاضونه من مرتبات حكومية
ن المواقع القيادية بكثير من الدوائر الحكومية
.
ورغم فضح بعض الأفلام السينمائية لكثير من تلك الممارسات لصغار العاملين بجهاز الشرطة فإنه لم يبدأ بعد تنقية الجهاز الشرطي من كثير من هؤلاء في ظل إسناد كثير من الملفات إلى عائق الأمن حتى أصبح يتحكم في اختيار المدرسين أو المعيدين بالكليات الجامعية، وكذلك في اختيار القيادات الجامعية وغيرها م

مصر وواجب التدخل الإنسانى فى ليبيا /احمد ابراهيم محمود

يمكن لمصر أن تقف مكتوفة الأيدى أمام الحرب المجنونة التى يشنها نظام حكم معمر القذافى ضد الشعب الليبى الشقيق، والتى تبدو مرشحة للمزيد من التصاعد لا سمح الله فى حالة استمرار هذا النظام فى العناد، وإمعانه فى دفع البلاد نحو حرب أهلية لا هوادة فيها. مما يطرح بقوة احتمالات تحول الثورة الشعبية فى ليبيا الشقيقة إلى حرب أهلية دامية، مما قد يؤدى ليس فقط إلى إمكانية وقوع خسائر بشرية جسيمة، ولكن أيضا إمكانية تفتيت الدولة الليبية ذاتها، كل ذلك من أجل تثبيت بقاء نظام حكم مستبد ودموى فى السلطة لفترة ما لن تطول كثيرا بأى حال من الأحوال. وكأن هذا النظام لم يكتف بما أحدثه من إفقار وتخريب للمجتمع الليبى وثرواته البشرية والمادية والنفطية على مدى 42 عاما
.
هذا الوضع يمثل مأزقا شديدا أمام مصر، لاعتبارات الأخوة والجوار والمسئولية الإنسانية، فليبيا دولة شقيقة تربطها بمصر أواصر الدم والدين والجوار الجغرافى والمصير المشترك، ولا يمكن لمصر أن تتحمل المسئولية الأخلاقية والإنسانية إزاء ما يتعرض له الشعب الليبى الشقيق من مجازر مروعة، وصلت لدرجة استخدام الأسلحة الثقيلة ضد المدنيين الأبرياء العزل منذ اليوم الأول للمظاهرات. ثم تصاعدت حدة الاستخدام المجنون للقوة العسكرية ضد المدنيين من خلال استخدام المقاتلات والمروحيات لقصف المدنيين، مما يهدد بإمكانية تصاعد الخسائر البشرية فى صفوف الشعب الليبى الشقيق لمستويات لا يمكن قط القبول بها، علاوة على تعريض مئات الآلاف من المصريين العاملين هناك لمخاطر جسيمة.
ومن شأن التدخل المبكر فى مثل هذا الوضع ألا يساعد فقط على إيقاف الخسائر البشرية والمادية المتزايدة فى ليبيا، ولكن أيضا على تفادى احتمالات تصاعدها، وهى احتمالات تبدو واردة بقوة، فى ظل ما يبدو من استماتة القذافى وعائلته فى التشبث بالسلطة، أيا كانت الخسائر والتكاليف المترتبة على ذلك، والتى تحدث عنها القذافى وابنه سيف الإسلام بمنتهى الاستخفاف باعتبارها نتيجة حتمية فيما لو تواصلت الاحتجاجات.
ولا يقل عن ذلك من حيث الأهمية أنه لا يمكن لمصر وأشقائها العرب الانتظار حتى يجىء قرار التدخل فى ليبيا من الخارج، سواء بقرار غربى منفرد، أو من خلال قرار أممى صادر عن مجلس الأمن. إذ إن ذلك سوف يكون ذروة السقوط للنظام الإقليمى العربى، كما سيكون ذلك مسمارا آخر فى نعش الدور الإقليمى لمصر وللعرب فى التعامل مع قضاياهم القومية، سوف يكون ذلك استهلالا غير طيب على الإطلاق لعهد الثورات العربية التى تعم المنطقة، علاوة على ما سوف ينطوى عليه ذلك من ربط أى نظام حكم جديد فى ليبيا بالأجندات والمصالح الأمريكية والغربية.
لقد كان من أخطر المآخذ على نظام حسنى مبارك البائد كونه تعامل باستهانة شديدة مع الصراعات الجارية فى عالمنا العربى، لاسيما فى السودان الشقيق، متجاهلا الروابط القومية وعوامل الجوار الجغرافى، وما يمثله السودان بالذات من عمق استراتيجى حيوى لمصر. ولا يمكن بالتالى أن نكرر فى عصر ثورة 25 يناير المجيدة نفس هذه الأخطاء الكارثية، وإنما لابد من التعامل بإيجابية مع مثل هذه القضايا، من منظور قومى وإنسانى مسئول، ولا سيما أن على هذه الثورة المجيدة مسئولية كبيرة لدعم ومساندة أولئك الذين اقتدوا بها وتعاملوا معها كمصدر إلهام لهم.
وربما يعتقد البعض أن التوقيت قد لا يكون مناسبا على الإطلاق بالنسبة لمصر، التى ما زالت منغمسة بالكامل فى عملية انتقالية معقدة لإعادة بناء نظامها السياسى على أسس ديمقراطية، تتولى القوات المسلحة مسئولية الحامى والضامن الرئيسى لها، مما قد يجعلها فى وضع لا يسمح لها بالانغماس فى أى تدخلات خارجية، علاوة على التكلفة المادية الضخمة لمثل هذا الدور، والتى تفوق بالقطع القدرات الاقتصادية لمصر، والتى مع محدوديتها من الأصل تعانى من أضرار جسيمة بفعل الخسائر الاقتصادية التى صاحبت الثورة.
ولكن الرد على ذلك هو أنه ليس هناك توقيت مناسب لاندلاع الأزمات، وإنما هى تفرض نفسها من دون أدنى اعتبار للظروف. كما أنه حتى لو كانت تكلفة القيام بدور سياسى، أو حتى عسكرى، مكلفة بالنسبة لمصر، فإن تكلفة عدم القيام بهذا الدور سوف تكون فادحة وأكثر تكلفة بكثير جدا، إنسانيا وسياسيا واقتصاديا، كما أن ذلك سوف يترك أثرا سلبيا لا ينمحى لدى الشعب الليبى، نفسيا وسياسيا، إزاء أشقائه الذين لم يحركوا ساكنا لنجدته حين كان يتعرض للإبادة على يد نظام حكمه المجنون.
ومن ناحية أخرى، يبدو هذا النظام عازما على توريط مصر فى هذا الصراع، على نحو ما بدا واضحا فى التصريحات المنفلتة التى أطلقها سيف الإسلام القذافى، والتى زعم فيها أن لمصر الدولة وللمصريين العاملين فى ليبيا دورا ما فيما يجرى من تطورات دامية هناك، الأمر الذى يعرض المصريين هناك لعمليات انتقامية جنونية. ويمثل ذلك سببا إضافيا للتفكير فى التدخل السريع هناك، لاسيما وأن هناك خشية من أن مثل هذا السلوك ربما يتصاعد من جانب نظام القذافى فى حالة ازدياد عزلته داخليا وخارجيا، إذ غالبا ما تبنى النظم الديكتاتورية خطابها السياسى فى مثل هذه الحالات إلى توريط أطراف خارجية ما، لإعفاء نفسها من المسئولية، ولتسهيل عملية الحشد والتعبئة فى صفوف مؤيديها.
وقد لا يكون من الوارد هنا الاعتقاد بإمكانية الانتظار لحين وصول الأزمة الحالية فى ليبيا إلى نهاية سريعة وفقا لتوازناتها الداخلية، حيث تتنامى حالة من الجمود فى ميزان القوى بين الثوار وبقايا نظام القذافى، مما قد لا يتيح لأى منهما حسم الصراع لصالحه، الأمر الذى قد يخلق حالة من الصراع الممتد، مع ما قد يترافق مع ذلك من تقسيم فعلى للدولة فيما بينهما، فيما لو استمر القذافى على عناده على نحو ما يتوقع أغلب العارفين به.
إن ما تقترحه هذه المقالة هو أن يعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة موقفا حاسما إزاء نظام الحكم الليبى، يتضمن إنذارا واضحا لا لبس فيه، بشأن ضرورة الوقف الفورى لأعمال العنف الموجهة ضد الشعب الليبى، وإلا سوف تضطر مصر للقيام بمسئولياتها، ليس فقط كشقيقة كبرى، ولكن أيضا كدولة جوار لها، على أن يكون هذا الإنذار مصحوبا بتحريك فعلى للقوات تجاه الحدود المشتركة، مع وضع خطط الطوارئ اللازمة لتنفيذ تدخل فعلى فى حالة الضرورة، ما لم يرتدع هذا النظام لصوت العقل.
وليس هناك من شك فى أن مثل هذا الموقف، مع ما قد ينطوى عليه من تدخل فعلى، سوف يكون محل ترحيب شديد من أغلب أبناء الشعب الليبى الشقيق، الذين سوف يتعاونون بكل تأكيد مع القوات المسلحة المصرية، مما قد يقلل كثيرا من أعباء مثل هذا التدخل، فى حال الاضطرار إلى تنفيذه بالفعل، كما أن ذلك سوف يكون أيضا محل ترحيب من أغلب الدول العربية الشقيقة، والتى سوف يعمل كل منها بالضرورة على المساعدة فى حدود قدراته. بل إن هذا التدخل سوف يكون أيضا محل ترحيب من جانب معظم المجتمع الدولى، لكونه يتطابق مع مبدأ التدخل الإنسانى الذى بات من المبادئ الراسخة فى القانون الدولى، الإنسانى والعام، بعدما بات من غير الممكن التسامح مع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وعمليات الإبادة الجماعية التى يقوم بها حكام مستبدون من أجل بقائهم فى السلطة، مما بات يجيز التدخل فى الشئون الداخلية للدول المعنية من أجل وقف هذه الجرائم وحماية أبنائها.
والجانب الأكثر أهمية أن الوضع يحتاج بالفعل إلى تدخل سريع؛ ومن الضرورى أن يتم بلورة موقف مصرى وعربى سريع إزاء الوضع المأساوى فى ليبيا. فالوضع الإنسانى يتصاعد بسرعة، وكلما مر الوقت كلما ازدادت الخسائر البشرية، كما أن هناك مخاطر نشوء تقسيم فعلى للدولة الليبية ما بين الثوار وبقايا نظام القذافى. وفى مثل هذه الأحداث، يكون للتأخر عن اتخاذ موقف واضح ثمن فادح للغاية، على الصعيدين الإنسانى والسياسى، إذ سيفقد هذا الموقف كثيرا من فاعليته وجدواه فيما لو جاء متأخرا.

الدين فى الدستور الليبرالى المصرى..معتز بالله عبد الفتاح

تحت شعار كلنا يد واحدة، قامت مجموعة من شباب الإسكندرية بربط علم مصر بين كنيسة القديسين والجامع المقابل لها فى الإسكندرية
.
وهى روح بناءة تعد من أهم مكتسبات الثورة. ولكن عددا من الأحداث الأخيرة فتحت قضية المادة الثانية من الدستور بما فى ذلك الخوف من اختطاف الإخوان للثورة. ثم يأتى الكلام متواترا عن رغبة مجموعة من السلفيين فى تكوين حزب سياسى، ثم حديث آخر عن رغبة الجماعة الإسلامية فى أن تعود للعمل الدعوى والسياسى. ومن هنا انبرى عدد من أبناء مصر المتخوفين من أن مصر ستتحول من «أوتقراطية» إلى «ثيوقراطية»، فى حين أن الهدف كان أن تكون «ديمقراطية».
والأوتوقراطية هى حكم استبدادى، والثيوقراطية هى حكم اللاهوت أو مجموعة من الأشخاص. وهو تخوف مفهوم قطعا؛ ففى تاريخ المسلمين كان هناك من الساسة من صور كل قرار يتخذه وكأنه إعمال لإرادة الله النافذة التى لا تجوز مخالفتها (بدايات المدرسة الجبرية فى الفكر الإسلامى) وهو ما بدأ شيوعه مع حكم معاوية بن أبى سفيان (رضى الله عنه) ومن ذلك قول واليه على البصرة زياد بن أبيه حين خطب فى أهلها:

«
أيها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذى أعطانا، ونذود عنكم بفىء الله الذى خولنا» وحين «قتل عبدالملك بن مروان، عمرو بن سعيد بن العاص، وطرح رأسَه على الناس، هتف المنادى: إن أمير المؤمنين قتل صاحبكم بما كان من القضاء السابق والأمر النافذ».
إذن قضية الدين والدولة ستعود مرة أخرى إلى السطح، وتعود مناقشة المادة الثانية من الدستور. والحقيقة أنا أخشى أن تتوه المسألة ونفقد البوصلة دون أن نراعى التنويعات الكثيرة لعلاقة الدين والدولة فى العالم المعاصر الذى يشهد أنماطا أربعة لعلاقة دستور الدولة بالدين، اثنان منهما شموليان، حتى وإن كان أحدهما محايدا تجاه كل الأديان، واثنان منهما ليبراليان وإن نص أحدهما صراحة على دين رسمى للدولة.
وفيما يلى تفصيل هذا الإجمال:

1
ــ دستور شمولى منزوع الدين يتفق مع نمط من العلمانية يقوم على «الحرية ضد الدين» (freedom against religion) وهى الصيغة السوفييتية ومعها التركية الكمالية، حيث ترى النخبة القابضة على الدولة أن الدين فى ذاته خطر وأن التدين مؤشر تخلف. وهى صيغة متراجعة تاريخيا لأنها بذاتها تتناقض مع حق الأفراد فى أن يكون لهم مجالهم الخاص والعام الذى لا تتدخل فيه الدولة. فالدولة استغلت اختصاصها التشريعى واحتكارها للعنف كى تقبض على هذين المجالين.
فالفرد بهذا ما مارس حقه الطبيعى فى الاعتقاد والتدين وما كانت الدولة حامية لمثل هذا الحق باعتبارها المنتهكة الأولى له. فدستور كوريا الشمالية لا يوجد فيه نص على أى دين، ومع ذلك لا يمكن أن يكون هو النموذج الذى ينبغى الاحتذاء به فى علاقة الدين بالمجتمع.

2
ــ دستور شمولى يميز دين الأغلبية ويحظر أديان الأقليات الأخرى. وهذه الصيغة الدستورية ترتبط مباشرة بتأويلات متشددة كتلك التى يتبناها أتباع دين الأغلبية، أى ليست قضية عقيدة بالضرورة بقدر ما هى قضية اعتقاد. ومن أمثال تلك الدساتير، دستور 1990 فى نيبال، الذى جعل منها مملكة هندوسية مع الرفض الصريح للاعتراف بحق المواطنين النيباليين المسلمين والبوذيين والمسيحيين فى ممارسة شعائر دينهم، وقد تم تعديل هذه المادة مع الانقلاب العسكرى فى 2007. وماثلهم حكم طالبان، رغما عن عدم وجود دستور مكتوب.
ولو تمكن اليمين الدينى فى إسرائيل من تطبيق الهلاخا (Halacha) والتى تعنى الشريعة، لمحوا ما عدا اليهودية من أديان.
والخطر الحقيقى فى هذا النمط أن تزعم أى طائفة حقا لها فى أن تشرع لكل المجتمع باسم الدين فى حدود تفسيرها الضيق لنصوصه غير عابئة بحقوق الأفراد من الديانات الأخرى أو من داخل نفس الدين فى أن يكون لهم مجالهم الخاص ومجالهم العام المدنى الذى يتحركون فيه. وهنا يكون الدين قد تحول إلى أداة قمع لا تحكم فقط المجالين الخاص والعام لأتباعه ولكن السياسة والحكم والتشريع للمجتمع بأسره أيضا.
ومن هنا تأتى أهمية أن يكون الدستور ليبراليا حتى وإن كان فيه نص على دين رسمى؛ حيث إن الليبرالية تضع قيودا على الاستبداد باسم الدين والاتجار به، كما ترفض أن يكون البديل عن الاستبداد باسم الدين، استبدادا بغيره. فالليبرالية متصالحة مع الدين تحترمه وتضعه فى مكانه اللائق به سواء على المستوى الفردى أو كإطار عام لحياة الناس فى مجتمعهم دون أن يسمح للسلطة بالتعسف فى استخدامه.
وهذان النمطان السابقان لا يشكلان، ولا ينبغى لهما، أمل أو مستقبل أى قوة سياسية على أرض مصر، لأنهما لا يتفقان مع روح الليبرالية الحقة من ناحية، كما أنهما نمطان متداعيان عملا بحكم استحالة وجود النقاء الدينى فى أى مجتمع، فضلا عن الالتزام الرسمى من معظم حكومات العالم بمواثيق حقوق الإنسان والتى تؤكد حرية العقيدة وحق ممارسة شعائر الدين.

3
ــ دستور ليبرالى محايد دينيا كمقدمة لاحترام جميع الأديان صراحة. وتقف خلف هذا النمط الدستورى فلسفة علمانية تفترض «حرية الدين» (freedom of religion) وهى النموذج الليبرالى الأصيل، كما هو فى الصيغة الأمريكية والكندية والاسترالية واليابانية، حيث تحترم الدولة المجالين الخاص والعام تماما بضابطين اثنين وهما ألا تحابى الدولة رسميا دينا على حساب دين آخر ولا تسمح الدولة بأن تكره أى طائفة شخصا على الشعور بالحرج من التعبير عن رموزه الدينية أو تبنى دين دون آخر.
فالدولة تتدخل بالتشريع لحماية حقوق الأفراد ولا ترى أن عليها مسئولية فى دمج أبناء الديانات فى المجتمع بإجبارهم على التخلى عن رموزهم ومعتقداتهم ولكنها تهدف إلى التعايش بينهم.
ويمثل الخوف الأوروبى من مظاهر التدين الإسلامى المتنامى هناك، خروجا عن المبادئ الليبرالية الأصيلة.
وصعوبة هذا النمط من الدساتير، كما يشير الفيلسوف الأمريكى العظيم جون رولز، تكمن فى أنه يقتضى توافقا مجتمعيا سابقا على الدستور ولا نتوقع أن ينشئ الدستور بذاته مثل هذا التوافق دونما حاجة للقمع وإلا أصبح الدستور نفسه سببا للصراع الاجتماعى بما يعد انحرافا عن دور الدستور الأصلى، وهو منع الصراع وحسن إدارته إن ظهر. وبما أن الواقع المصرى لا يحظى بهذا الاتفاق المجتمعى بين جميع أبناء الوطن بشأن صياغة دستور محايد دينيا، فإننا أمام البديل الرابع والذى له أمثلة ليبرالية معاصرة كثيرة.

4
ــ دستور ليبرالى يقرر وضعا خاصا لدين الأغلبية مع توافر شرطين: أولهما أن يكون دين الأغلبية نفسه لديه القدرة على استيعاب الحقوق الأساسية لأتباع الديانات الأخرى، وهو الشرط المتحقق فى الإسلام بحكم نصوصه وقدرته على التعايش مع الأديان الأخرى فى مناخ من «البر والقسط» كما نص القرآن الكريم، وهو ما بدا واضحا حين يطالب بعض إخواننا المسيحيين بتطبيق نصوص الشريعة الإسلامية والتى تجيز للكنيسة إدارة شئونها، وفقا لقوانينها الكنسية دون تدخل أحد فى شئونها. وثانيا أن يقرر القانون نصوصا فوق دستورية (supra-constitutional) تقرر لكل أتباع الديانات حقوقا متساوية أمام القانون.
ومصر، بحكم تبنيها هذا النمط (على الأقل شكليا)، ليست بدعا من الدول والأمثلة كثيرة، حيث تبنت هذا النمط الدنمارك وأيسلندا والنرويج وفنلندا التى تنص دساتيرها وقوانينها صراحة على أن المسيحية اللوثرية هى ديانتها الرسمية، وهو نفس الحال مع المسيحية الأنجليكانية فى انجلترا والمسيحية الأرثوذوكسية فى اليونان وقبرص والكاثوليكية كديانة رسمية فى كل من الأرجنتين وبوليفيا وكوستاريكا والسلفادور. ولا توجد دولة مسلمة لا يظهر الإسلام أو إشارة له فى دستورها صراحة سوى تركيا بعد التعديل الدستورى فى عام 1928، ولبنان وألبانيا وعدد من الدول الشيوعية السابقة فى وسط آسيا.
ويبدو من العرض السابق أن الدستور المصرى فى صيغته المعاصرة لا يخرج بالضرورة عن الإطار الليبرالى حتى وإن ظلت المادة الثانية على وضعها الحالى شريطة التطبيق الأمين لنصى المادة الخامسة والمادة أربعين من الدستور. فالمادة الخامسة تقرأ: «ولا تجوز مباشرة أى نشاط سياسى أو قيام أحزاب سياسية على أى مرجعية أو أساس دينى أو بناء على التفرقة بسبب الجنس أو الأصل».والمادة الأربعون تقرأ:

«
المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة».
إذن الدستور الحالى لا يقف بذاته عائقا ضد مساحة كبيرة من حرية الفكر والحركة لإخواننا المسيحيين، لكن المعضلة هو مدى استعداد القطاع الأكبر من إخواننا المسيحيين لأن يقتربوا أكثر من مشاكل مصر بروح وطنية تستوعب مطالبهم كمجموعة متميزة من أبناء الوطن ولكن تضيف إليها مطالب بالمزيد من الحقوق السياسية للمصريين أجمع. ولا أملُ أبدا من تكرار عبارة مكرم باشا عبيد: «نحن مسلمون وطنا ونصارى دينا، اللهم اجعلنا نحن المسلمين لك، وللوطن أنصارا.. اللهم اجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين»، آمين.

عصابات الحكام الطغاة..فهمي هويدي

الآن أدركنا أنهم لم يكونوا زعماء سياسيين، ولكنهم كانوا زعماء عصابات أغارت على عواصمنا فهدمت حصونها واحتلتها سنين عددا مارست خلالها نهب البلاد وإذلال العباد. فها هو العقيد القذافى الذى ظل جاثما على صدر ليبيا طوال 42 عاما حفلت بمختلف صنوف النزوات وأشكال الجنون قرر أخيرا إعلان الحرب على شعبه وإبادة كل من ضاق ذرعا بحكمه
.
إذ حين فاض الكيل بالناس وخرجوا مطالبين بالحرية والكرامة فى «يوم الغضب» (15/2)، فإن العقيد رد عليهم برصاصات المدافع الرشاشة وقذائف الطائرات التى أغرقت ليبيا فى بحر من الدم، واستعان فى ذلك بمرتزقة أفارقة وطيارين من صربيا وأوكرانيا. وكانت النتيجة حتى الآن سقوط ألفى قتيل على الأقل غير آلاف الجرحى.
فى خطابه وصف شوق الليبيين إلى الحرية والكرامة بأنه نوع من الجنون، واعتبر جموعهم الغاضبة مجرد حشرات وجرذان وصعاليك يتعاطون المخدرات، إذ استكثر عليهم انتفاضتهم ضد ملك الملوك وولى أمر المسلمين وأقدم الحكام على وجه البسيطة. فضلا عن كونه رمز المجد والعزة (هكذا وصف نفسه). والملهم الذى أهدى البشرية «الكتاب الأخضر» لكى يخرجها من الظلام إلى النور.
اقتنع الأخ العقيد بأن الليبيين «لم يفهموه» فقرر القضاء عليهم وهدم المعبد فوق رءوسهم، كما تحدثت الأنباء عن تدبير لتفجير حقول النفط والغاز، تمهيدا لإحراق البلد ومعاقبة شعبه بحرمانه من عوائدها.. التى ظل يتمرغ فيها هو وأبناؤه ومقربوه طوال العقود الأربعة الماضية، وكان ذلك بمثابة تمثيل بائس لجريمة نيرون آخر أباطرة الرومان، الذى تجبر حتى قتل أمه وزوجته، وعين جوادا له ضمن «النبلاء»، وكان وراء إحراق روما، قبل أن يهرب وينتحر فى نهاية المطاف (سنة 68 ميلادية).
ابنه سيف الإسلام الرجل الثانى فى العصابة قالها صراحة فى خطاب متلفز: سنحتكم إلى السلاح، سنبكى على مئات الآلاف من القتلى، وسيتم حرق وتدمير كل شىء فى ليبيا وسنحتاج إلى 40 سنة أخرى لكى يستقر الأمر فى البلاد. قال أيضا إن المصريين والتونسيين سيقتسمون ليبيا مع أهلها، وسيشاركونهم فى النفط وفى بيوتهم وأرزاقهم.
وهو يستخف بالليبيين قال لهم إن النظام الأول (الذى قاده القذافى الأب) انتهى، وسيتم تعديله بالكامل للانتقال إلى نظام مختلف، بعلم جديد ونشيد جديد! لكن العقيد سيبقى بطبيعة الحال بعد أن يحيل بلاده أنقاضا!العصابة فى تونس انفضح أمرها قبل أيام قليلة، حين أظهرت شاشات التليفزيون كيف كان زعيمها الهارب زين العابدين بن على يكدس ملايين الأموال النقدية وعلب المجوهرات النفيسة وراء مكتبات وهمية غطت جدران قصره. إذ لم يكتف الرجل وزوجته وأسرته بما نهبوه من أراض وقصور وما استأثروا به من وكالات تجارية، ولا بما هربوه فى حسابات سرية خارج البلاد، وإنما أحاطوا أنفسهم فى بيوتهم بتلال ملايين العملات الأوروبية، لكى لا يغيب المال المنهوب عن أعينهم لحظة من الزمن.
العصابة فى مصر انفتح ملفها مؤخرا، وإذا كانت فى ليبيا قد لجأت إلى إبادة المعارضين، ورأينا فى تونس كيف لجأت إلى نهب الأموال، فإنها فى مصر ركزت بوجه أخص على نهب الأراضى، الذى أزعم أنه أسوأ من نهب الأموال وتكديس الثروات. لأن الأموال تروح وتجىء. أما العقارات فإنها تروح ولا تجىء. صحيح أن ما أعلن عنه حتى الآن هو مجرد اتهامات وادعاءات طالت عددا غير قليل من المسئولين وكبار رجال الأعمال يتقدمهم رئيس الوزراء السابق الدكتور أحمد نظيف، إلا أن أحدا لا يختلف فى مصر حول وجود الظاهرة المروعة التى تجاوزت نهب أراضى الدولة إلى نهب وإهدار المال العام.
يؤيد ذلك ما تحفل به الصحف اليومية من معلومات صادمة تتحدث عن ملايين الأراضى التى بيعت بأبخس الأسعار، ومليارات الدولارات التى ضاعت على الدولة (وهربت إلى الخارج). من ثم فإن حجم النهب وحده الذى يجرى التحقق منه، أما مبدأ النهب الذى تم على نطاق واسع غير مسبوق فمسلم به. وإلى جانب التحقيقات الجارية الآن بخصوص عمليات النهب تلك، فإن جهودا حثيثة أخرى تبذل لتجميد واسترداد ما تم تهريبه إلى الخارج من أموال قدرت بالمليارات أيضا.
نستطيع أن نجد نماذج أخرى لحالات قهر الشعوب والانقضاض على المال العام فى أقطار عربية أخرى لم تسقط أنظمتها بعد، ولكن القاسم المشترك بين هذه الحالات وغيرها أنها تمثل دولا غابت عنها الديمقراطية، وبالتالى ألغى فيها دور المجتمع وغابت عنها قيمة الحساب والمساءلة. ومن ثم أطلقت فيها يد القابضين على السلطة لكى يعبثوا بثرواتها فضلا عن مصائرها. والمسألة ليست لغزا لأنه فى غياب الديمقراطية فإن موارد البلاد وثرواتها تصبح مالا سائبا. وقديما قالوا إن المال السائب يعلم السرقة.

الإبداع الثوري..حسن حنفي

.
وقد أثبتت الثورة المصرية، بعد الثورة التونسية في أقل من شهر، أن الوعي العربي قادر على الإبداع الثوري الفردي والجماعي، النخبوي والشعبي، وتجاوز النماذج الثورية المعروفة، الفرنسية والبلشفية والأميركية والصينية والتركية والأوروبية الشرقية. فلكل ثورة نموذجها الخاص، وإبداعها الأخص طبقاً لظروفها التاريخية وخصائص شعبها. بل إنها نجحت في تجاوز نموذجها الذي اتبعته هي نفسها منذ أكثر من نصف قرن بالثورة عن طريق الجيوش بقيادة "الضباط الأحرار". فالثورة كالفن والفكر والعلم إبداع، وأهم ما يميز الإبداع: الحدس المفاجئ، وعدم التوقع، والقفزة، والجدة والابتكار.قام بها الشباب الذي لم يرَ في حياته ثورة على مدى ثلاثين عاماً، بل انتفاضات وهبَّات شعبية وقتية مثل الهبَّة ضد العدوان الإسرائيلي على غزة، أي ضد العدوان الخارجي وليس ضد المعاناة الداخلية إلا حركة السادس من أبريل لعمال المحلة الكبرى ضد الفقر، واحتجاجات هنا أو هناك من حركة "كفاية" أو حركة 9 مارس ضد القهر ومن أجل الحريات العامة. ويضم الشباب جماهير الشعب وليس فقط النخبة السياسية للأحزاب على اختلاف مشاربها واتجاهاتها، الشرعية والمحظورة.وكانت قيادات الثورة جماعية. ولم تكوِّن أمناء الثورة إلا بعد انتصارها من أجل التفاوض على تحقيق مطالبها بعد تحقيق المطلب الأول وهو إسقاط رأس النظام. مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي ضمن الثورة، وتعهد بتحقيق مطالبها المشروعة، وأقنع الرئيس المخلوع بالتخلي عن الحكم حفاظاً على أمن البلاد. وقد جرت العادة على انشقاق الأحزاب بسبب الزعامات الفردية، والصراعات الشخصية، وتسمية أجنحة الحزب بأسماء زعمائها. فالثورة ثورة الشباب، ثورة المحتجين، ثورة المتظاهرين، ثورة ميدان التحرير، ثورة الثوار، إنكاراً للذات وتخليّاً عن الفردية إلى الجماعية بإصرار ممن فجروها على شبكات الاتصال أولًا، وعادة الإعلام في التركيز على أحدهم بعد أن أطلق سراحه حتى يتحول إلى نجم إعلامي. وتزيد مقدمته شهرة إعلامية بأنها أول من قدمته وحاورته.وكانت الأهداف واضحة منذ البداية حتى النهاية "الشعب يريد إسقاط النظام". فالرئيس ليس فقط بشخصه بل بنموذجه ونظامه ودولته التي أسسها. ففي كل مؤسسة هناك رئيس مثله. يمثل القهر والفساد سواء كانت مؤسسة اقتصادية أو تعليمية أو مالية أو أمنية تشريعية أو تنفيذية. والتفَّت حول هذا الشعار كل التيارات السياسية والفكرية في البلاد، أصولية أو علمانية، قومية أو ناصرية أو ليبرالية أو ماركسية. وصلى المسلمون والأقباط في الميدان نفسه. وحرس المسلمون الكنائس. وحرس الأقباط المساجد حتى لا يسمحوا للنظام بالقيام بلعبة الطائفية، ويجهض الثورة، ويبرر لنفسه البقاء باسم الأمن والاستقرار.كان برنامج الثورة تلقائيّاً، تحرير المواطن من القهر، وتعذيب أقسام الشرطة وقانون الطوارئ والأحكام العرفية والمحاكم العسكرية وقراراتها التي لا تتحمل النقض أو الإبرام، وكفاية المواطن حاجاته الأساسية من خبز وسكن ودواء وتعليم أي تحريره من الفقر والذل والهوان. وهو يرى بناء القصور والمنتجعات السياحية والمدن الجديدة بالمطارات الخاصة وحمامات السباحة. تجاوزت الأيديولوجيات الليبرالية والاشتراكية، القومية والماركسية. فالواقع أبلغ من كل أيديولوجية استطاعت الثورة تحريك الملايين في مصر، من أدناها إلى أقصاها، من الساحل الشمالي إلى العريش، ومن الإسكندرية إلى أسوان، ومن الوادي إلى الواحات، وبؤرتها ميدان التحرير. وهو ما لم يحدث منذ 17-18 يناير 1977 الهبة الشعبية ضد غلاء الأسعار عندما استعد الرئيس للرحيل.ولم تستطع أجهزة الأمن بكل خططها الوقوف أمام الثورة بالعصي والخوذات، ثم بالرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع، ثم بالرصاص الحي، وغزوة الإبل والخيل، ثم بالانسحاب من الميدان وتكليف "البلطجية" وخريجي السجون وفلول الحزب الحاكم بالتصدي للثوار حتى يبدو النظام غير مستقر، وعمليات النهب والسلب ذريعة لتدخل الشرطة والأمن. وطالت المدة، وصمد الثوار في المواجهات الهامشية، يوماً وراء يوم، أسبوعاً وراء أسبوع حتى سقط رأس النظام بعد أسبوعين. وقد كانت الهبَّات تعرف في مصر بأنها لا تزيد عن يوم وليلة لغياب عصب ثوري للجسد الثوري.ويتجلى الإبداع الثوري في الطريق السلمي للثورة. فلم تصطدم برجال الشرطة وأجهزة الأمن بل هي التي اصطدمت بالجماهير الثائرة بالعنف بشتى أنواعه. في حين مارست الثورات السابقة الفرنسية العنف بالمقصلة، والبلشفية بالرصاص، والأميركية بالحرب. فالحق هدف، والسلم وسيلة. تكفي الملايين الهادرة وقدرتها على تجميع ملايين أخرى في شتى المدن المصرية. تحتل الميدان الرئيسي وسط القاهرة. ثم تحاصر مجلسي الشعب والشورى ومجلس الوزراء ووزارة الداخلية ومبنى الإذاعة والتلفزيون، واتجاهها في اليوم الأخير إلى قصر العروبة ومنزل الرئيس. وتعاونت الثورة مع الجيش بعد أن نزل في الشوارع لاستتباب الأمن. وقابلته بالأحضان والقبلات كما فعلت الثورة في تونس. وهربت الشرطة قصداً أو عجزاً. فالشعب مع الجيش، والجيش مع الشعب. الجيش ابن الشعب، والشعب أبو الجيش.وتجلى الإبداع الثوري أيضاً في أسماء الأيام والأسابيع للثورة: جمعة الغضب، جمعة الرحيل، أسبوع التحدي، أسبوع الصمود. وتدل كلها على العزيمة والإصرار، ورفض الحلول المؤقتة التي تهدف إلى الالتفاف على الثورة حتى تحاصرها وتقضي عليها، انتقاماً منها. فقد تحول الزمن إلى ثورة، وعقارب الساعة إلى مراحلها. نفَسها طويل. وما زالت مستمرة حتى لا يُغدر بها وتصبح "الثورة المغدورة" كما هو معروف في أدبيات الثورات. تنتج مقومات استمرارها من ذاتها بالاعتصام والتعاون وضرورات الحاجات اليومية تطوعاً وتبرعاً بالطعام والدواء بالماء والعلاج في مستشفيات ميدانية بأجهزة طبية حديثة لعلاج المصابين وإنقاذ الشهداء.شعاراتها تجذب الانتباه "الشعب يريد إسقاط النظام". وتثير الخيال. والأشعار الشعبية تطلقها أفواه الشعراء الشعبيين. المسرحيات الوقتية عن الظلم والقهر والفقر يمثلها سكان العشوائيات. والأغاني التلقائية تطلقها الحناجر في مجتمع عرف الأناشيد الصوفية والموالد الدينية. فالفن من الشعب وله. واليافطات المرفوعة عليها شعارات خلاقة "ارحلْ يعني أمشي، هو أنت ما بتفهمشي". والرسوم وراء الكلمات والأقنعة والأردية والدمى كلها تمثل كارنفالاً للثورة بدلًا من الإعلام الرسمي الحكومي الذي ظل يُسبح بحمد النظام المتساقط. وتتجلى روح الشعب الخلاقة في النكات الشعبية، وروح الفكاهة التي لا تفارق المصريين في أحلك اللحظات. ووراء ذلك كله تصدح الأغاني الوطنية من سيد درويش تستعيد ثورة 1919 ومن الأغاني الوطنية في الستينيات لأم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم حافظ عن الشعب والوطن التي كانت تغنى لثورة 1952. وكذلك أغاني أحمد فؤاد نجم "يا مصر قومي وشدي الحيل". وترفع صور عبدالناصر تطل على الملايين، فروح مصر الوطن تُبعث من جديد في جسد مصر الذي أوشك على التحلل. هذا هو الإبداع الثوري الذي سيظل ساريّاً في روح مصر حتى تعود إلى عزتها وكرامتها ومركزيتها في المنطقة.
لقد اتهمت المجتمعات العربية بأنها مجتمعات تقليدية، تقدس الماضي، وتغفل الحاضر، وتنسى المستقبل. في حين أن المجتمعات الغربية مجتمعات تجديدية، تسعى نحو الحداثة بل وما بعد الحداثة. تقطع مع الماضي، وتوغل في الحاضر، وتسعى نحو المستقبل