اخر الاخبار

31‏/10‏/2011

حمدى قنديل: يكتب الامتحان أمام المشير


لم تكن الأجواء السياسية فى مصر مواتية أبداً للحملة التى أطلقتها تلك المجموعة الغاضبة التى استلهمت من النازية اسمها «مصر فوق الجميع»، وخرجت تدعو للمشير طنطاوى رئيساً للجمهورية، فقد بدت الحملة متناقضة تماماً مع المظاهرات التى تجوب الشوارع كل يوم والتعليقات التى تسود شاشات التليفزيون فى المساء منددة بطريقة المجلس العسكرى فى إدارة شؤون البلاد..
ومع ذلك فقد وزعت الحملة ملصقاتها التى تحمل صورة المشير ببدلته العسكرية فى أماكن ظاهرة فى وسط القاهرة والإسكندرية تحت شعار «مطلب شعبى للاستقرار»، وراح منسقها المغمور محمود عطية يتحدث باسم ما سماه الكتلة الصامتة التى زعم أنها فقدت الثقة فى مرشحى الرئاسة المحتملين وفى النخبة السياسية وفى حركات الاحتجاج التى اتهمها بأنها ممولة من الخارج، ولم يعد لها أمل غير المشير..
بادر متحدث عسكرى بنفى أى علاقة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة بالحملة، وأكد أن المجلس ملزم بتسليم السلطة للمدنيين بعد انتخابات الشعب والشورى والرئاسة.. إلا أن التصريح لم يشف غليل كثيرين، خاصة الذين فقدوا الثقة فى المجلس واعتبروه الخصم المستتر للثورة.. وعاد بعض هؤلاء بذاكرتهم إلى الحدث الذى شغل الناس منذ شهر مضى، عندما نزل المشير لأول مرة للتجول فى وسط العاصمة ببدلة مدنية.. وقتها قال مصدر عسكرى إن طنطاوى كان فى زيارة خاصة، وإنه نزل بعدها دون حراسة لكى يطمئن الشعب على أمان الشارع المصرى..

لم يصدق كثيرون المتحدث العسكرى فى تصريحه الأول أو فى تصريحه الثانى.. الناس مسكونون بوساوس أن المجلس العسكرى لن يترك السلطة، ليس فقط لأن الفترة الانتقالية طالت بأكثر من الشهور الستة المقررة، أو لأن عضواً بالمجلس أعلن صراحة أنها ستمتد إلى عام ٢٠١٣، ولكن لأن المجلس يدير الأمور فى سرية أشبه بطقوس خلية ماسونية دون التشاور مع أى أطراف سياسية أخرى إلا بما تتطلبه دواعى العلاقات العامة ومناسبات التقاط الصور..

مع ذلك فإن مقربين من المشير طنطاوى الذى يبلغ من العمر الآن ٧٦ عاماً، والذى شارك فى كل الحروب التى خاضها الشعب المصرى، يجزمون أنه عازف عن السلطة تماماً، وأنه يتطلع إلى اليوم الذى يسلم فيه قياد البلاد لشخصية منتخبة من قبل الشعب.. ورغم أن كثيرين يمكنهم أن يتقبلوا هذا الرأى إلا أن أحداً لا يثق فى أن المجلس العسكرى سينسحب تماماً من المشهد السياسى، ويرجح هؤلاء أن المجلس سيحاول أن ينتزع لنفسه مكانة خاصة فى النظام الديمقراطى المفترض المقبل، والبعض يتوجس أن المجلس يمكن أن يدفع فى اللحظة قبل الأخيرة بمرشح للرئاسة من الضباط الكبار المحالين للمعاش..

ثمة فريق من الضباط يرون الآن أن مصر لاتزال فى حاجة لرئيس عسكرى، ليس فقط بسبب الفوضى التى اجتاحت البلاد، والتى يرون أنها تحتاج لكثير من الضبط والربط الذى لا يتوافر إلا للعسكر، ولكن أيضاً لأن مصر دولة مواجهة لا يجب أن تستبعد حرباً قادمة تتزايد احتمالاتها مع تنامى مشاعر المصريين العدائية لإسرائيل بعد الثورة.. ويتناسى هذا الفريق عادة الأمثلة العديدة لدول مختلفة حاربت تحت قيادة رؤساء مدنيين، مثل بريطانيا التى شاركت فى الحرب العالمية الثانية بقيادة تشرشل وفى حرب فوكلاند بقيادة تاتشر، أو فرنسا التى خاضت حروباً صغيرة عديدة فى أفريقيا، أو تركيا عندما غزت قبرص.. وبالطبع فإن هؤلاء يغفلون أيضاً أن غالبية وزراء الدفاع فى الدول الديمقراطية ساسة مدنيون، بل إن هذه الوزارة أحياناً ما تولاها نساء، قامت إحداهن، وهى وزيرة دفاع إسبانيا السابقة، باستعراض حرس شرف من جنودها وهى حامل..

المؤكد أن الفريق أحمد شفيق، آخر رئيس وزراء عينه مبارك، يعرف هذا جيداً، ولكنه عندما أعلن منذ أيام أنه سيرشح نفسه لانتخابات الرئاسة حرص على أن يذكرنا بأمجاد أيزنهاور وديجول وأن ينبه أنه ليس من حق أحد منع العسكريين من خوض هذه الانتخابات، وهكذا فإن لم يظهر ضابط جيش جديد على المسرح فسوف يصبح العسكريون الذين يخوضون هذه التجربة ثلاثة إذا أضفنا الفريق حتاتة، رئيس أركان الجيش الأسبق، واللواء بلال قائد القوة المصرية فى حرب الخليج الثانية الذى تمرد على «مبارك» أثناء الحرب وطلب إعفاءه من مهمته.

لكنه مهما اختلفت مشاعر المصريين تجاه شفيق الأقرب إلى مبارك، أو بلال الأبعد عنه، فالمرجح أن النخبة السياسية ستقود حرباً ضارية تجاه المرشحين العسكريين جميعاً، يتوقع أن تناصرها فيها جموع من الناس تواقة إلى مجتمع جديد تماماً، وتعارضها جموع أخرى متأثرة بحلم الاستقرار.. وسوف تكون الحالة الأمنية فى البلاد أثناء انتخابات الرئاسة عاملاً مهماً فى ترجيح كفة أحد الفريقين.

من هنا فإن طرح حملة «مصر فوق الجميع» لانتخاب المشير يجىء فى وقت حساس للغاية.. ورغم أن البعض يعتبرونها موجة من موجات النفاق المألوفة، ويعتبرها آخرون على النقيض حملة رحب بها المشير إن لم يكن قد أوعز بها بنفسه، فهناك من يرجح أن تكون مجرد بالون اختبار نبتت فكرته لدى طرف غير معلوم الآن بالضرورة، وهناك من يجزم أنها دسيسة لمزيد من الوقيعة بين الشعب وبين المشير ومجلسه العسكرى..

سواء كان الأمر على هذا النحو أو ذاك، فالمشير الآن مطالب بشخصه أن ينفى تطلعه إلى منصب رئيس الجمهورية.. ولن يجدى فى ذلك إطلاق مزيد من التصريحات.. نحن ننتظر أن يصدر قرار بإزالة الملصقات على الفور، ودفع الحملة للغرامة المقررة فى القانون بهذا الشأن، والتحقيق مع منسق الحملة لكشف ما وراءها من نوايا، وإعلان نتائج هذا التحقيق.. على أن الرد الجذرى على الحملة المريبة فى كل الأحوال هو أن يسلك المجلس فى إدارة شؤون البلاد مسلكاً ديمقراطياً مسانداً للثورة على نحو لا يترك مجالا لشكوك.. هذا هو الامتحان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق