اخر الاخبار

06‏/10‏/2011

الخروج من المستنقع بقلم محمد المخزنجي



تقول النكتة، أن أحد مذنبى الدنيا عُرضت عليه ألوان العذاب ليختار من بينها، فرأى النار تشوى الوجوه، ورأى الجلود تمزقها مقالع الحديد، ورأى ورأى، وما أن أبصر مذنبين يقفون فى مستنقع فضلات ونفايات تغمرهم حتى أعناقهم، حتى سارع فى فى اختيار هذا النوع من العذاب على اعتبار أنه الأهون، لكنه بعد أن وقف مع الواقفين، رأى أحد الزبانية يعتلى تلة تشرف على المكان ومعه صفارة عندما يُنفخ فيها يتوجب على الواقفين فى المستنقع أن يقرفصوا ليغطسوا فى هذا القرف المهين، ولا يخرجون رؤوسهم إلا بعد صدور صفارة أخرى يطول انتظارها، وتتكرر دورات العذاب!


هى نكتة قديمة، توحى لى بالموقف الذى صرنا إليه، فنحن الآن كالواقفين فى المستنقع ننتظر الأسوأ. و هذا لايعنى أننا كنا سابقا فى الجنة تحت مظلة النظام الساقط، فقد كان جحيما من قرف أشنع، وما هذا المستنقع الذى انحدرنا إليه إلا حساء نفايات إجرامه البليد الغليظ المتكاثف على امتداد السنين. لكننا بدلا من أن نقوم بتجفيف هذا المستنقع وردمه وإقامة حديقة أو ناديا أو مجمعا سكنيا أو مصنعا أو مزرعة بمكانه، تركناه يزداد تحللا، وانسقنا إلى الخوض فيه!



 الهشاشة الأمنية التى نعيشها الآن ليست جديدة، بل هى متفاقمة من زمن اختطاف مؤسسة الشرطة لتكون حارسة أمن ومواكب ومهرجانات وكرنفالات وسرقات وتعديات الأسرة الحاكمة السابقة وبطانة السوء والمحاسيب والمنتفعين من حولها. وعشوائية المجتمع وقمامة الشوارع ليست بالشيء الجديد. أما «عجلة الانتاج «، فقد كانت تدور بطاقة تخريبية على حساب تدمير البيئة والأرض الزراعية التى أشارت التقديرات المستقبلية إلى كامل انقراض رقعتها فى أقل من عقدين، ولصالح مشاريع النهب فى قطاع البناء الذى كان مغارة على بابا لعصابة ناهبى الأرض وبناء مدن لاظهير لها ولا مستقبل، إضافة للصناعات الملوثة للبيئة ونهمة الاستهلاك للطاقة التى كان الغرب يطردها من أراضيه ليستقبلها على أرضنا المحاسيب من عصابة الفساد والتربح الفاحش الحرام.




  أما الاتجاهات المتعصبة التى باتت وقود الهوجة الاجتماعية والسياسية التى نعيشها، فهى ليست إلا حصاد عقود القهر والقمع والإذلال والتفاهة الثقافية وغياب العدل الاجتماعى وافتقاد عدالة القانون وتخريب نزاهة التشريع وإهدار القيم التى رعاها النظام السابق بقيادة رجل يجعلنا بعض ما تم الكشف عنه مؤخرا من سلوكه ومعالجاته للأزمة وماقبلها نستغرب كيف لفارغ بليد إلى هذا الحد أن يتمكن من حكم بلد كمصر على امتداد عقود ثلاثة، بمساعدة عيال ورجال جوف، خاصة فى السنين الوبيلة الأخيرة؟



  المشكلة الآن ليست أننا كنا أحسن وصرنا أسوأ، بل أننا كنا أسوأ ولم نصبح أحسن بعد ثورة حضارية شهدت لها الدنيا. فلماذا؟



 إجابتى الاجتهادية هى أن ما قادنا لنوحل فى هذا المستنقع هو تغييب الصدق فى كثير من مفاصل الفترة الانتقالية بين القوى السياسية التى طفت على السطح والمجلس العسكرى الحاكم، بعد أن صنع الصدق ملحمة تاريخية تناغم فيها أداء جناحى الثورة : الشباب الذين التف حول مطالبهم الواضحة الشعب : « تغيير. حرية. عدالة اجتماعية «، وجيش مصر الوطنى ممثلا فى قياداته التى خاطرت واقعيا بأرواحها لتدعم مشروعية مطالب الأمة وعلى رأسها الإطاحة بمشروع التوريث وردع استفحال الفساد. ثم؟



  انصرف شباب الثورة عن ميادينها لأنهم كانوا أبرياء حقا وبلا أطماع وتحركهم تطلعات لقيم عليا كالحرية والعدالة وسلمية تداول السلطة فى دولة ديموقراطية حديثة، فيما طفت على السطح قوى كانت مختفية أو مقموعة وليس لديها غير رؤى لاتستوعب متغيرات العصر وحماس يوشك أن يكون عدوانيا تجاه كل من يخالفها الرأى، وكان السواد الأعظم من فقراء الأمة يتعجلون الحصول على ما افتقدوه طويلا من الإنصاف والعدالة.



  فى هذه الأثناء تسلم المجلس العسكرى زمام السلطة لفترة انتقالية بتفويض شعبى لايمكن إنكاره، فيما كان هذا المجلس يتعرض لضغوط خارجية وإقليمية توشك أن تكون ابتزازا، ولم يخل الأمر من مظاهر تخريب داخلى تنفذه أياد خفية، وقد صرح أركان المجلس العسكرى فى هذه الملابسات الصعبة بأنهم توافقوا على شيئين : « عدم القفز على السلطة، وعدم اتخاذ أى إجراء يخالف القانون «، بل أفصح كثيرون من أقطابه أنهم مع الدولة المدنية والنظام الديموقراطى. فلماذا رأينا ما رأينا بعد ذلك؟
 لقد أطلت الفتنة برأسها وكان أول الفتنة تلك « التعديلات الدستورية « التى فصَّلتها لجنة أفصح تفصيلها عما وراءها من ضيق المنظور الوطنى الجامع بل بعض الهوى لتمكين تيار بعينه. ثم كان الاستفتاء المؤسس على هذه التعديلات، والذى كشف عما لم تفصح عنه الخبايا والطوايا، بعد أن جاءت نتيجة الاستفتاء بالأغلبية لمن قالو»نعم»، بوهم الحصول على الاستقرار، وبعد حملة غير عادلة ولا صادقة تم فيها توظيف الدين بفظاظة لاصدق فيها ولا عدل لصالح مشروع سياسى ملتبس !
  لم تكن « نعم « فى الاستفتاء فى مجملها تأييدا لهياج بعض السلفية ولا تجييرا لنزوع بعض الإخوان ولا تكريسا لقيادة القوات المسلحة التى لم تكن فى حاجة أصلا لتكريس لأنها كانت مناط إجماع شعبى جارف. كانت نعم ممنوحة لوعد الاستقرار وحلم الطمأنينة تبعا لما روجه المروجون آنذاك. وكانت « لا « ممنوحة للطريق الآمن فى مسار الفترات الانتقالية التى تعقب الثورات، فقد كانت طلبا لأولوية التوافق على دستور جامع، ودولة مدنية ( لا تخضع للتحكم العسكرى ولا للتسلط باسم الدين )، ومنفتحة لتداول سلمى للسلطة على أسس ديموقراطية. ثم تبين أن « لا « مثل « نعم « !
   مضت الشهور وراء الشهور وقارب عام كامل على المرور بعد 25 يناير، بينما افتقاد الأمن يزداد، ومُخرَجات عمل اللواء ممدوح شاهين من اجتهادات واستشارات تزيد بلبلة الناس وتسيء إلى صورة المجلس العسكرى. أما الحكومة فهى تكاد تكون حكومة وكلاء وزارات لا وزراء إلا ما ندر، فلا عجلة الاقتصاد دارت بالسرعة المأمولة، ولا انصلحت الأحوال، وتكاثف الضباب فوق المستنقع الذى نكتشف يوما بعد يوم أننا نخوض فيه ونوغل !

  مؤكد أننا لم نصل بعد إلى مرحلة الغطس فى هذا المستنقع، لكنها ليست مستبعدة إذا استمر التدهور، ولن نكون عندئذ فى انتظار صفارة لنقرفص غارقين فى العفن والوحل، لأن ألأسن هو الذى سيصعد ليعمى العيون ويكتم الأنفاس، كل أنفاس الأمة، فماذا نفعل؟

  ليس أمامنا إلا أن نتصارح، والصراحة تقتضى الاعتراف بأن الأمة فى خطر، ولم تعد هناك نواة مؤسسية صلبة يتماسك حولها كيان «الدولة» غير القوات المسلحة، وقد صار المجلس الأعلى للقوات المسلحة موضع تساؤل كثيرين بعد كل تلك الألغاز التى لايكف عن إطلاقها علينا اللواء ممدوح شاهين ومستشاريه الذى باتوا أشباحا لايظهرون فى الصورة. وبرغم كونى أحد الواقفين فى موضع التساؤل، إلا أننى أحسست بالارتياح لما لم يرتح له كثيرون لهم مبرراتهم، عندما ردد المشير أن مصر « لن تسقط، ولن نتركها تسقط «، وحمدت الله على بعض ذلك الاستمساك وليس كله، لأننى أحس المعنى المرعب لانهيار الدولة، وليس العراق بعد قرار « بريمر « المشئوم بحل الجيش والبوليس فى أعقاب الاحتلال بغائب عن الذاكرة، وليست فوضى الصومال وأفغانستان خافيتين عن الأبصار والبصائر، أما « النموذج « السودانى الذى رسمته عصا البشير الملوحة مع التكبير وبصحبة « إرشادات « الترابى قبل أن تنفض شراكتهما ويتحولان إلى خصمين لدودين، فهاهى النتيجة تفصل جنوبه السودان عن شماله، دون أن يكون ذلك آخر تفتيت لوحدة السودان، للأسف.

  أتصور أن الصراحة تقتضى أن نعترف بأن القوات المسلحة ممثلة بقيادات المجلس العسكرى تريد حصانة ومنعة من أن يعصف بها المُزايدون إن حكموا، كما تقتضى الصراحة أن نعترف بأنه قد وقعت التفافات كثيرة حول مطلب البداية الصحيحة لمسيرة التغيير فى اتجاه دولة حديثة ديموقراطية تحترم دين الأغلبية وتستلهمه كمصدر أساسى للتشريع دون العسف بحق غير الأغلبية فى الاحتكام فى أمورهم الروحية والشخصية لما ترتضيه شرائعم. ويبقى أن نعترف بأنه لا أحد يحتكر تمثيل الأمة، لا الإخوان، ولا السلفيين، ولا اليساريين، ولا الليبراليين، فالأغلبية الحقيقية الكاسحة تكمن فى الوسطية المصرية فى كل شيء، وعلى كل الأطراف أن تتواضع لله، وتضع مطلب الحق فوق شهوة القوة.

   ما المانع فى أن نتصارح، ونعترف بحقيقة ما يطلبه كل طرف فى معادلة الأمة الدولة فى إطار الصالح العام؟ ونتفاوض من موقع المصارحة، ونعترف بخطأ القليل أو الكثير مما أهدرناه من خُطى ونعود عنها لنبدأ بداية صحيحة أولها التوافق والاتفاق على خريطة سير هى من بديهيات كل شروع فى الحركة لدى الأحياء وفى كل الحياة، أى الدستور، الذى توازيه الخارطة الجينية فى كل خلية منحها الله حق الحياة. هذا هو قانون الله لمن يحاججون باسم الله؟
   لابد أن نخرج من هذا المستنقع ونردمه، ونقيم بمكانه كل جميل مفيد صادق شريف، وبأسرع ما يمكننا تداركا لما ضاع من جهد ووقت، ونفوت الفرصة على الـ « نيكروفيلييون «، الذين يمثلون حالة مرضية متطرفة من الجنوح النفسى البشرى التدميرى، يتعلقون فيها بالنفايات والفضلات، ولا يسوؤهم الوقوف حتى أعناقهم فى مستنقعاتها، بل ينتظرون صفارة الغطس؟!

 ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق