اخر الاخبار

07‏/10‏/2011

سيناء البوابة الشرقية.. الجغرافيا والتاريخ والهوية بقلم محمد عفيفي

منذ أولى الحملات العسكرية للفراعنة الأقدمين عبر سيناء لتأديب البدو الآسيويين، وحماية الحدود، إلى سقوط الجنود الشهداء المصريين فى حادث الحدود الأخير على يد الجيش الإسرائيلى (البدو الآسيويين!!) لا تزال أرض سيناء تمثل الكرامة والعزة لمصر وللمصريين.

ولقد جذب ذلك اهتمام العديد من أصحاب الدراسات فى مجالاتٍ شتى، من تاريخ وجغرافيا والعلوم الاستراتيجية، حتى أصبحت سيناء بحق ليست مجرد رقعة جغرافية، ولكن جزءا من الهوية المصرية.

 نعوم شقير: التاريخ والجغرافيا فى خدمة الاستخبارات
ومن أهم الدراسات التى تناولت سيناء من منظور تاريخى وجغرافى، دراسة نعوم شقير «تاريخ سيناء القديم والحديث وجغرافيتها» الذى صدر فى عام 1916، والذى يُعد بحق ليس مجرد كتاب عن سيناء، ولكنه بمثابة موسوعة عن تاريخها وجغرافيتها.
نعوم شقير هو أحد الشوام الذين هاجروا إلى مصر حوالى عام 1884، حيث استقر به المقام بها، وعمل فى الإدارة الحكومية فى مصر. والسؤال هو ما الذى دعا أحد الشوام المهاجرين إلى كتابة مثل هذا الكتاب الموسوعة عن سيناء؟
فى الحقيقة عمل نعوم شقير فى قلم المخابرات المصرية التابع آنذاك لسردار «قائد» الجيش المصرى، الذى هو فى الحقيقة بريطانى، بعد خضوع مصر للاحتلال البريطانى فى عام 1882. وفى هذا الإطار قام نعوم شقير بالعديد من المهام الاستخباراتية فى سيناء، كما رافق القادة الانجليز فى جولاتهم هناك، وشارك أيضا فى المفاوضات المصرية ــ الانجليزية مع الدولة العثمانية أثناء أزمة طابا الأولى عام 1906، لرسم الحدود بين مصر وفلسطين التى كانت خاضعة آنذاك للسلطان العثمانى.
من هنا جاء اهتمام نعوم شقير بسيناء، التى خبر قبائلها وطرقها وجغرافيتها، ووضع كل خبراته الحياتية والمعلومات التى جمعها عن سيناء فى هذا الكتاب الذى أشرنا إليه. ولذلك كان من الطبيعى أن يُهدى نعوم شقير كتابه إلى «حضرة صاحب المعالى الجنرال الفريق السير رجينولد ونجت باشا.. سردار الجيش المصرى وحاكم السودان العام».
وبصرف النظر عن ولاء نعوم شقير للاحتلال البريطانى لمصر، فإن كتابه، والنظرة الاستراتيجية لسيناء فيه تستحق التأمل والنظر.

من أول صفحة فى الكتاب يلفت انتباهنا الحس الاستخباراتى والنظرة الاستراتيجية لسيناء، فالعنوان الجانبى الأول فى الصفحة الأولى لكتابه هو «سيناء حصن طبيعى لمصر». ويؤكد نعوم شقير على مدى الأهمية الاستراتيجية لسيناء منذ القدم، وأنها بمثابة أمن قومى لمصر قائلا:
«عرفت مصر منذ القديم أهمية سيناء من الوجهة الحربية فوضعتها تحت السلطة العسكرية» وذلك نظرا لأهمية سيناء البوابة الشرقية لمصر، والتى يأتى عبرها دائما ــ كما سنوضح فى مقالاتٍ لاحقة ــ الخطر وأشهر غزاة مصر.
ويوضح نعوم شقير أيضا الأهمية الحضارية والتجارية لسيناء، وأن سيناء ليست منطقة فصل بل وصل بين مصر وجيرانها عبر العصور:

«شبه جزيرة سيناء هى قنطرة النيل إلى نهر الأردن والفرات، هى الوصلة البرية بين أفريقيا وآسيا».
ويضع نعوم شقير بعض الملاحظات المهمة والخطيرة حول علاقة مصر بسيناء، وهى فى الحقيقة ملاحظات ما زلنا نشاهد آثارها السلبية حتى الآن، وتؤثر أحيانا على الرابطة الأبدية بين سيناء ووادى النيل، حيث تثير حفيظة أهل سيناء وتجعلهم يتساءلون عن العديد من أوجه الاهمال من جانب القاهرة لسيناء الحبيبة.
يلاحظ نعوم شقير قلة الدراسات المصرية آنذاك عن سيناء، ويرصد أيضا ضعف معرفة المصريين بأحوال سيناء: «سيناء على اتساعها وشهرتها التاريخية وقربها من مصر (القاهرة) مجهولة عند عامة المصريين»
وهو ما يأخذه أهل سيناء حتى الآن علينا جميعا، فنحن لا نعرف من سيناء إلا شرم الشيخ، وليس هناك اهتمام حكومى جدى إلا بالسياحة والبترول.
ويجرنا ذلك إلى الملاحظة الثانية لنعوم شقير حول علاقة القاهرة بسيناء، وهى عدم الاهتمام الجدى بسيناء إلا فى أوقات الخطر والحروب، وهو فعلا ما نلاحظه جميعا فى العقود الأخيرة. وفى ملاحظة مهمة يذكر نعوم شقير أنه مع اندلاع الحرب العالمية الأولى:
«اشتد طلب الجمهور لتاريخ سيناء لوقوع الحرب فيها»
وهى ملاحظة غاية فى الأهمية، فالحكومات المصرية لا تولى سيناء الاهتمام الكافى إلا فى أوقات الأزمات، ثم بعد هدوء الأحوال يعود النسيان من جديد لهذا الجزء المهم والاستراتيجى من أرض الوطن.

ولعل هذا ما دفع نعوم شقير إلى إبداء ملاحظة أخرى مهمة حول نسبة الأمية والضعف الثقافى فى سيناء:
«ليس فى بادية سيناء كلها من يُحسن القراءة والكتابة»

 وفى الحقيقة لا تزال سيناء تعانى من خطيئة الحكومات المتعاقبة فى عدم الاهتمام بالجانب التعليمى والثقافى فى سيناء؛ فحتى الآن لا توجد جامعة حكومية على أرض سيناء، والنشاط الثقافى والمهرجانات تزخر بها العاصمة ولا يُلتفت إلى سيناء. ولعل هذا ما دفع وزارة الثقافة الحالية إلى تقديم مشروع «استراتيجية ثقافية لسيناء» إلى مجلس الوزراء، والذى نرجو أن تتم ترجمته إلى واقع عملى وملموس، وألا ياخذ هذا المشروع طريقه إلى الأدراج والحفظ، مع هدوء الأحوال والاضطرابات فى سيناء، أو مع تغير الحكومة الانتقالية ومجىء حكومة جديدة ذات اهتمامات أخرى.


حسين مؤنس.. الخطر الآسيوى
يُعتبر حسين مؤنس واحدا من أهم الكُتاب والمفكرين المصريين فى النصف الثانى من القرن العشرين. فبصرف النظر عن إبداعه الأدبى، وكتاباته الصحفية، يُعد حسين مؤنس أحد أعمدة المدرسة التاريخية الحديثة، وقد عمل مؤنس كأستاذ للتاريخ الإسلامى فى جامعة القاهرة والعديد من الجامعات العربية. ومن بين العديد من كتاباته الأدبية والفكرية والتاريخية يعتبر كتابه «مصر ورسالتها»، الذى صدر فى عام 1956، من أهم الكتب التى تناولت الشخصية والهوية المصرية من منظور تاريخى وجغرافى. لكن هذا الكتاب لم يجد، للأسف، الكثير من الاهتمام والشرح والتحليل.
ويرصد مؤنس فى كتابه أهمية الموقع الجغرافى المتميز لمصر كملتقى لقارات العالم القديم، وسيناء كمعبر بين آسيا وأفريقيا، وفى نفس الوقت يوضح الثمن الذى كان على مصر أن تدفعه جراء ذلك:
«لكن انتفاعنا بموقع بلادنا الجغرافى ليس بالأمر الهيِّن. فهو ككل شىء قيِّم فى هذا الوجود له ثمن لابُد أن يؤدى كاملا قبل أن نجنى ثماره. وهذا الثمن هو الدفاع عنه وذياد الطامعين فيه عن حياضه... فلابُد لأصحاب موقع جغرافى كموقع مصر من أن يظلوا على الأهبة أبدا، ولا معدى لهم عن أن يبذلوا دماءهم دواما فى سبيل الحفاظ على هذا الموقع وخيراته»
وهكذا يُنبه حسين مؤنس إلى بُعدين فى دلالات موقع مصر الاستراتيجى؛ الجانب الإيجابى من حيث الأهمية، والجانب السلبى من حيث جذب الغزاة الطامعين. ويرى مؤنس، مثله مثل معظم المحللين للتاريخ الاستراتيجى لمصر، أن الخطر يأتى دائما من الشرق، وعبر بوابة سيناء.
وعلى الرغم من كون مؤنس أستاذا للتاريخ الإسلامى، إلا أن الطابع الليبرالى وانتماءه إلى جيل ما بعد ثورة 1919، جعله يفضل فكرة انتماء مصر إلى عالم البحر المتوسط، حضاريا على الأقل، وسيرا على مدرسة أستاذه طه حسين. وفى عباراتٍ واضحة يقول مؤنس:

«قولنا إننا شرقيون إنما هو موقف سياسى ساقتنا إليه ظروف تاريخية».
ويوجه مؤنس ملاحظة لاذعة حول حكام مصر من الغزاة والفاتحين ذوى الأصول الآسيوية، الذين أتوا إلى مصر عبر البوابة الشرقية سيناء ويخص بالذكر منذ الفتح العربى، رغم أن مؤنس أستاذ للتاريخ الإسلامى:
«إن حكام مصر الإسلامية من الفتح العربى إلى أوائل القرن التاسع عشر كانوا آسيويين. بعضهم أتى من آسيا واستقر فى بلادنا حاكما، والبعض الآخر ولد فيها وظل محافظا على آسيويته».
ويأخذ مؤنس على هؤلاء:
«ليس هنا موضع تحليل سياسات أولئك الحكام أجمعين، ولكن موضع الإشارة إلى حقيقة واحدة هى التى تعنينا هنا: هى أن أولئك الناس جميعا أقاموا فى مصر ما أقاموا، وعيونهم مثبتة نحو الشرق، نحو آسيا»، وهنا يجرنا مؤنس إلى نقطة شائكة فى السياسة المصرية، وهو رأى تتبناه بعض الاتجاهات القومية المصرية المحافظة، إذ يرى أصحاب هذه الاتجاهات أنه عبر رمال سيناء، والبوابة الشرقية، تم جر مصر إلى العديد من المغامرات والطموحات العسكرية الفاشلة، وأن رمال سيناء طالما ارتوت من دماء المصريين جراء سياسات تم توريط مصر فيها. وأنه كان من الأجدى العودة إلى الانتماء التقليدى لمصر عبر نهر النيل (البُعد الأفريقى) أو المجال الحيوى، أو الاهتمام بالبُعد الحضارى لمصر والتطلع إلى أوربا (البُعد المتوسطى).
وفى عبارةٍ صادمة، ولكنها جديرة بالنظر والمناقشة، يقول مؤنس:
«السبب الرئيسى فى ضعف الأثر الذى تركه أولئك الحكام الآسيويون فى مصر هو أنهم أرادوا توجيه سياسة مصر وحياتها وجهة آسيوية... وما انتعشت مصر من جديد إلا عندما عادت منذ القرن التاسع عشر إلى نشاطها الأفريقى، وانفتح أمامها باب البحر الأبيض المتوسط من جديد. هنا ولدت مصر من جديد وبُعِثت بعثا حقيقيا».
هكذا ستصبح البوابة الشرقية، سيناء، بطريقٍ غير مباشر، محط اهتمام ونقد أصحاب الفكر القومى المصرى المحافظ. هذه المقولات التى ستتطور فى مراحل لاحقة إلى أسئلة حرجة عبَّر عنها بعض المفكرين المصريين، حول أن مصر وعبر سيناء قد تورطت فى العديد من الحروب، وبذلت الكثير من الدماء فى سبيل فلسطين. وهو ما عبَّر عنه البعض من أبناء جيلنا، ونرفضه بطبيعة الحال، بأسلوب ساخر فى شرح معنى كلمة «فلسطين»: فلسطين «أولها فلس وآخرها طين». وهو نفس الاتجاه الذى حاول السادات بشكلٍ ما أن يستثمره بعد كامب ديفيد، بأن حرب 1973 هى آخر الحروب.


جمال عبدالناصر: «رفح ليست آخر حدود بلادنا». (فلسفة الثورة).
ويُثير جمال عبدالناصر فى كتابه «فلسفة الثورة» الكثير من النقاط المهمة حول سيناء البوابة الشرقية، وبالتالى السياسة الشرقية لمصر، أو ما يسميه هو «الدائرة العربية»، ضمن نظرية الدوائر الثلاث (العربية، الأفريقية، الإسلامية) التى عكست اهتمامات السياسة الخارجية الناصرية. ويوضح ناصر بداية اهتماماته الشرقية، والتى بدأت مع تصاعد المشكلة بين العرب واليهود فى فلسطين. هذه الاهتمامات الأولى التى وجدت صداها فى الشارع المصرى، أكثر من الدوائر الرسمية، كما هو الحال دائما بالنسبة لمصر وقضية فلسطين.
إذ خرجت المظاهرات فى مصر فى سنوات الثلاثينيات من القرن العشرين، لا سيما مع اندلاع ثورة 1936 فى فلسطين. وهنا يسأل جمال عبدالناصر (الشاب) نفسه:
«لماذا أخرج فى حماسة، ولماذا أغضب لهذه الأرض التى لم أرها؟ لم أكن أجد فى نفسى سوى أصداء العاطفة».

ثم يشرح ناصر كيف تبلور لديه الاتجاه نحو الشرق، وإدراك أهمية الدائرة العربية لمصر بعد دخوله إلى الكلية الحربية. حيث بدأ ناصر يدرس التاريخ العسكرى، وتاريخ ما يسمى بحملات فلسطين منذ أيام الفراعنة، لتأديب البدو الآسيويين وهو ما سنشرحه تفصيلا فى المقالات التالية حتى حملات إبراهيم باشا. ويُشير ناصر إلى أن هذا الاتجاه قد تأكد لديه بعد ذلك أثناء دراسته فى كلية أركان الحرب، حتى يصل ناصر إلى قناعة:
«لما بدأت أزمة فلسطين كنت مقتنعا فى أعماقى بأن القتال فى فلسطين ليس قتالا فى أرض غريبة، وهو ليس انسياقا وراء عاطفة وإنما هو واجب يحتمه الدفاع عن النفس».
وفى صفحاتٍ تالية من كتابه «فلسفة الثورة» يشرح لنا ناصر كيف خرجت مدفعية البطل أحمد عبدالعزيز عبر سيناء متجهة إلى فلسطين لتدك المستعمرات الإسرائيلية جنوب القدس أثناء حرب 1948.
ويتحدث ناصر بعد ذلك عن مشاركته فى هذه الحرب، وكيف انتهى بعد عودته من الحرب إلى قناعة وحتمية تاريخية هى:
«أن رفح ليست آخر حدود بلادنا».

وهكذا يرجعنا ناصر إلى التاريخ والجغرافيا وإلى قناعات حكام مصر منذ عصور الفراعنة وإلى يومنا هذا، أن رفح ليست آخر حدود مصر، وأن الدفاع عن مصر لا يبدأ من سيناء، ولكن من ما وراء سيناء، وأن الانكفاء على الداخل وترك البوابة الشرقية هو أولى خطوات الهزيمة، وفتح الباب للغزاة، فالخطر يأتى من الشرق.
جمال حمدان: سيناء «ترومبيل مصر»
ليس هنا مجال الحديث عن المفكر النابغة جمال حمدان، وعن حياته الساخنة ونهايته الدرامية. ولكننا هنا نتحدث عن الخلطة السرية التى ابتكرها حمدان بين الجغرافيا والتاريخ فى الحديث عن «شخصية مصر» متحدثا عن عبقرية الزمان والمكان.

 ولكى نفهم مدى علاقة جمال حمدان بالموضوع الذى نتناوله بالدراسة وهو سيناء «البوابة الشرقية»، نذكر ما قاله الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فى مقدمة كتابه «حرب الثلاثين سنة، أكتوبر 1973، السلاح والسياسة»، إذ يقول هيكل إنه خطر بباله أن يُهدى هذا الكتاب إلى جمال حمدان:
«هذا العالم المصرى الفذ الذى أعطى المكتبة العربية أثره المتميز شخصية مصر»
ومنذ البداية ينتصر جمال حمدان فى كتابه للبُعد الآسيوى فى شخصية مصر، هذا البُعد الذى يظهر فى شخصية مصر عبر البوابة الشرقية، سيناء. وعندما يبدأ حمدان حديثه عن سيناء يصفها فى عباراتٍ لا تخلو من خفة دم وروح السخرية لدى المصرى قائلا:
«هى بوابتها الرئيسية ومدخلها الأول، كانت بجدارة (ترومبيل مصر) منه دخلت جميع الموجات التى اكتسحت البلاد فيما عدا أقلية نادرة».

ويُشير حمدان إلى ظاهرةٍ مهمة فى جغرافية وتاريخ مصر منذ القدم وحتى الآن، وهى أن الدلتا فى الحقيقة مفتوحة ومكشوفة من الشرق، وهى المقولة التى ستؤكدها حقائق التاريخ وسنتناولها فى المقالات التالية. فإن السيناريو المفضل لمعظم غزاة مصر عبر العصور هو اختراق سريع لسيناء يؤدى إلى الوصول إلى الدلتا، وتهديد حقيقى للأمن المصرى فى عقر الدار. ولذلك يصف حمدان طريق سيناء، لا سيما طريق الشمال طريق الفرما، بأنه «طريق الغزاة» لكثرة ما عبره من جيوش.
وبفضل سيناء موقعا وتاريخا يعقد حمدان مقارنة طويلة بين مصر وتركيا، والتوجه الجغرافى والتاريخى لكلٍ منهما. فتركيا هى دولة آسيوية بمعظمها الجغرافى، بينما هى بأقلها الجغرافى أوروبية، من خلال إقليم تراقيا. وكذلك الحال فى مصر فهى أفريقية بمعظمها الجغرافى، وآسيوية بأقلها، من خلال سيناء.
وكما يلعب هذا القليل الجغرافى دورا تاريخيا كبيرا فى حياة تركيا من خلال سياستها الأوروبية، تلعب سيناء نفس الدور فى توجه تاريخ مصر نحو الشرق. وبالتالى يصف حمدان تركيا من خلال تراقيا، ومصر من خلال سيناء بأنهما:
«كلاهما جسر بين قارتين، وبين عالمين»
ويعتبر حمدان بحق المفكر الشارح لاستراتيجية العهد الناصرى، فهو يرى أن الثقل الأكبر من السياسة القومية لمصر قد اتجه فى عهد ثورة يوليو إلى الجبهة الآسيوية. ويُثنى حمدان على ذلك التوجه ويرى أنه يُساير الحتمية التاريخية لمصر:
«إنه عود فى الحقيقة على بدء قدم التاريخ، وقد أكدت فلسطين على التوجه وحتميته تماما»
من هنا ازداد التوجه فى العهد الناصرى شرقا، وتبنى النظام فكرة القومية العربية، وأدرك ناصر أن حدود مصر لا تنتهى عند رفح.
من هنا يرى محمد حسنين هيكل فى كتابه عن المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل أن أهداف إسرائيل قد تحققت من وراء عقد معاهدة سلام مبكر مع مصر. وطبيعى أن الهدف الرئيسى لإسرائيل وراء عقد هذه المعاهدة كان الحيلولة دون وقوع حرب جديدة مع مصر، لكن الهدف غير المعلن لإسرائيل كان:
«كسر تأثير المقدسات، المحرمات فى الصراع العربى الإسرائيلى، ثم تأكيد عزل مصر فى أفريقيا وإبعادها عن آسيا، وهذه وفقا لهيكل غايات تحققت أو هى بسبيل التحقيق».
لقد ترتب على نزع سلاح سيناء تراجُع الدور العربى لمصر، ودخول كل من إيران وتركيا كقوى إقليمية كبرى فى المشرق العربى. بل أدى إلى تقوقع مصر داخل حدودها غير الطبيعية، ونقصد بها وادى النيل، إلى أن أصبحت سيناء منطقة عازلة بين مصر ودورها الطبيعى التاريخى، وأصبح الخطر رابضا على الحدود الشرقية، قادرا وبفضل نزع سلاح سيناء على العودة إلى السيناريو القديم لغزاة مصر: اختراق سريع لسيناء والوصول إلى شرق الدلتا وتهديد القاهرة. وهو نفس السيناريو، مع بعض التغيرات، فى محاولة شارون الاستعراضية فى ثغرة الدفرسوار والوصول إلى طريق السويس ــ القاهرة.
فهل الخطر يأتى دائما من الشرق؟ وهل سيناء ورفح هما نهاية الحدود المصرية؟ وما هى قصة سيناريو اختراق سيناء والوصول إلى الوادى مع غزاة مصر عبر العصور؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق