اخر الاخبار

13‏/10‏/2011

الفرصة الأخيرة بقلم د.عمرو الشوبكى

فتحت أحداث يوم الأحد الدامى الباب أمام أخطر أزمة تواجهها مصر منذ ثورة ٢٥ يناير، وصارت البلاد أمام خطر حقيقى يهدد وحدتها وتماسكها المجتمعى، وبات العمود الأخير للدولة المصرية ممثلاً فى الجيش الوطنى محل اتهام من قطاع من المصريين بعد أن اضطرته ظروف كثيرة لأن يدخل فى مواجهة مفتوحة مع متظاهرين أقباط، سقط على أثرها عشرات الضحايا الأبرياء.. الحقيقة أن تجاهل وجود اعتداء حدث على رجال القوات المسلحة من عناصر غير معروفة دفعتهم إلى استخدام عنف مفرط مع المتظاهرين الأقباط - يعمق من الشروخ الموجودة ويجعل الجيش فى موقع الاتهام الطائفى، كما يصر أن يروج بعض المتطرفين، رغم أنه - هذا الجيش نفسه - هو الذى حمى مظاهرات واعتصامات الأقباط طوال الفترة الماضية، وزادت على ١٢ اعتصاماً أمام ماسبيرو وغيره.
إن الجرح الذى أصاب الأقباط كبير، وإن الضحايا الأبرياء الذين سقطوا دون ذنب، وكثير منهم نشطاء سياسيون وآخرون، خرجوا للدفاع عن حقوق مهدرة وإحساس بالظلم والتهميش والغربة فى مجتمع يتجه بفضل خطاب الأسلمة الشكلى والتدين المغشوش إلى التعصب ضد الأقباط، وممارسة صور مختلفة من التمييز بحقهم.
ولذا كان من المهم البحث عن الأسباب، التى أوصلتنا إلى هذا الوضع، الذى يضعف من هيبة الجيش، ويخصم من رصيده ويورطه فى مستنقع من الصراعات السياسية والطائفية والاجتماعية ليس طرفاً فيها، وباتت تمثل خطراً حقيقياً على كيان الدولة المصرية وصورة الجيش.

إن إدارة المجلس العسكرى «السياسية» وأخطاءه التى وقع فيها طوال المرحلة الانتقالية مسؤولة مسؤولية كبيرة عن المشاهد التى نراها الآن، والمرشحة للتفاقم الخطير (جداً جداً) فى الفترة المقبلة إذا استمر فى الإدارة والحكم، ولم يفتح باباً آمناً لانتقال السلطة إلى المدنيين، وإقامة نظام ديمقراطى، وهو أمر يستلزم المناقشة الصريحة للنقاط التالية:

أولاً: إن الإدارة السياسية للمجلس العسكرى لبلد مثل مصر هى بحكم طبيعة الأشياء عكس ثقافته وخبرته العسكرية، التى ترسخت فى أعقاب هزيمة ٦٧، حين تم بناء الجيش المهنى على حساب الجيش السياسى، فحقق الأول انتصار أكتوبر وجلب الثانى هزيمة ٦٧.

إن المكانة السامية التى يتمتع بها الجيش المصرى فى نفوس المصريين، مسلمين وأقباطاً، باتت مهددة نتيجة استمرار المجلس فى عمل هو بحكم طبيعته لا ينسجم مع طبيعة تكوينه العسكرى، وإن تصور أن إدارة شؤون البلاد مثل إدارة شؤون المؤسسة العسكرية فهو فى وهم كبير وأمر محفوف بالمخاطر، التى حتما ستضر بالوطن والجيش معاً.

ثانياً: إن استمرار التعامل مع الملف الطائفى بالطريقة نفسها، التى كان يتعامل بها النظام السابق، سيمثل كارثة حقيقية ستهدد مستقبل البلد، فهناك مشكلة بين المسلمين والأقباط، وهناك شعور عميق لدى الأقباط بالغبن والتمييز، نتيجة سياسات النظام السابق الذى سمح لهم ببناء دور عبادة، وسمح لآخرين بأن يهينوهم فى دينهم، وهناك خطاب إسلامى متشدد زادت حدته بعد الثورة حتى أصبح التحريض على المسيحيين جزءاً يومياً من خطاب بعض التيارات الإسلامية.. صحيح أن كثيراً من ردات الفعل المسيحية كانت متعصبة ومنغلقة، ورددت خطاباً لا يخدم قضية المواطنة إنما يكرس للعزلة والطائفية، وكررت نظريات المؤامرة نفسها التى يقولها بعض المسلمين عن الغرب، واعتبرت أن القضاء منحاز ضد المسيحيين، وليس مؤسسة تستوجب الإصلاح، وأن الجيش الذى يضم فى صفوفه مسلمين وأقباطاً وقدم فى كل حروبه شهداء من الجانبين وكان مفخرة للوطنية المصرية ولقيم الدولة المدنية الحديثة - أصبح متهما بالانحياز الطائفى وبتعمد إيذاء المسيحيين، وليس سوء تقدير من جانبه وظروف خاصة أحاطت بموقعة ماسبيرو أدت إلى سقوط كل هؤلاء الضحايا.

إن تعامل المجلس العسكرى مع الموضوع الطائفى كما كان يتعامل مبارك بالمسكنات والجلسات العرفية وتقديم حلول شكلية وصغيرة (مثل تنفيذ حكم الإعدام المؤجل على الكمونى قاتل الـ٧ مواطنين مسيحيين أمام دور عبادتهم فى نجع حمادى) على أنها هى التى ستحل المشكلة - أمر فيه كثير من السذاجة وعدم التعلم من أخطاء الماضى.

نعم.. دولة القانون لن يطبقها المجلس العسكرى ولا حكومة انتقالية، لكن يجب أن نبدأ من نقطة أن الطريقة الأمنية المراوغة التى كان يتعامل معها النظام السابق مع الملف القبطى يجب أن تنتهى ونتوقف، وإن إخفاء الحقائق أو تشويهها أمر يجب أن يكون من مخلفات العهد السابق.

ثالثاً: إن مسؤولية المجلس العسكرى كبيرة فى إدخالنا فى هذا المسار المرتبك، الذى يتصارع فيه الجميع على كعكة وهمية، فكما أخرجت ثورة ٢٥ يناير أفضل ما فى الشعب المصرى عادت المرحلة الانتقالية لتخرج أسوأ ما فى المجتمع المصرى من معارك طائفية وفئوية وصراعات سياسية وهمية، فبدلا من أن ندخل الانتخابات التشريعية ولدينا دستور جديد أو دستور ٧١ معدل (الذى صوت عليه أغلب الشعب بالموافقة) دخلنا بلا أى قاعدة دستورية، فانفجر فى وجهنا خطاب مناقشة كل البدهيات، بدءاً من إذا كان المسيحيون مواطنين أم ذميين، وانتهاء بإذا كانت الديمقراطية والأحزاب حلال أم حرام، وهى كلها مشكلات ساهمت فى تعميق مشكلة الاحتقان الطائفى الموجودة فى البلاد منذ عهد مبارك.

رابعاً: إن المعادلة التى أراحت المجلس العسكرى طوال الفترة الماضية هى وجود حكومة ضعيفة تسهل السيطرة عليها، فأصبح المجلس هو السلطة الوحيدة، التى تحكم البلاد دون أى رقابة، ودون أيضاً أن يمتلك أى ذراع سياسية، فخاطب الشعب عبر بيانات مقتضبة لا روح فيها، وإذا تحدث أحد قادة المجلس فى السياسة فغير مضمون أن يؤثر إيجابا فى الناس، فخصم المجلس من «اللحم الحى» أى من رصيد القوات المسلحة الراسخ فى نفوس المصريين.

لقد حان الوقت، ودون أى تردد، أن نبحث عن حكومة إنقاذ وطنى قوية تشارك المجلس العسكرى صلاحياته، ولا تكون مجرد ظل لأوامره، وأن كل يوم يمضى وفيه سلطة فعلية ليس من مهمتها ولا خبرتها الحكم السياسى، مع حكومة مهمتها أن تمارس السياسة ولا تمارسها (إلا بالاستقالة المحترمة التى قدمها د.حازم الببلاوى) - سيكون ذلك كارثة حقيقية على البلاد.

إن ما جرى للأقباط فى ماسبيرو مؤلم وحزين، ولكن يجب ألا يقع البعض أسرى أن الجيش تعمد إيذاءهم لأنهم أقباط، لأن هذا سيكون كارثة على الجميع، فالمؤكد أن هناك ضحايا من أفراد الجيش، وأن هناك رصاصاً أطلق عليهم، وأنه لم تكن لديهم أوامر بإطلاق النار، وأنه يجب ألا تؤدى بنا أخطاء المجلس العسكرى وآلام الكثيرين المشروعة إلى هدم كل شىء على رؤوسنا جميعاً، لأن تجارب التاريخ علمتنا أنه فى لحظات الفوضى وغياب الدولة تكون الأقليات هى الأكثر عرضة للأذى والتهجير، وأن تجربة المسيحيين فى العراق قد تكون عبرة للجميع.

لم تعد هناك فرص كثيرة لإنقاذ هذا البلد، فنحن بالفعل أمام «فرصة أخيرة» لن تتحقق إلا بتشكيل حكومة إنقاذ وطنى قوية، ووضع جدول زمنى لإنهاء حكم المجلس العسكرى، وتوجيه الشكر له على دوره أثناء الثورة، وإن المصريين جميعا (إلا ناقصى الوطنية والموتورين) يحترمون الجيش ويحبونه ويعرفون أنه الحصن الأخير الباقى للحفاظ على وحدة هذا البلد، بمسلميه وأقباطه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق