اخر الاخبار

19‏/10‏/2011

الإسلام والحرية والعلمانية (٣ -٥) بقلم جمال البن

فى المقال السابق أوضحنا موقف الإسلام من الحرية، وبوجه خاص حرية الفكر والاعتقاد، وفى الجزء الثالث نشرح موقفه من العلمانية، ذلك أنهما عندما استبعدا الله، أَلَّهَا الإنسان، عبر عن ذلك أول حكماء اليونان «الإنسان مقياس الأشياء»، وهو المعنى الذى كرره «كانت» و«هيجل» بتعبيرات أخرى مثل «الإنسان غاية فى ذاته». فالحضارة الأوروبية هى السليلة
 الشرعية لليونان والرومان، وعندما أرادوا النهضة أخذت هذه النهضة شكل إحياء Renaissance الحضارة اليونانية/الرومانية.
وكما تكوّن «الإنسان» المُؤَلَّه فى أثينا وفى روما، فإنه- فى صورة الفرد المحـرر- نشأ فى محضن «البـورو» أو «البورج» فى القرن الثانى عشر، والثالث عشر فى بريطانيا وفرنسا، وهذا الفرد هو الذى حملت الحضارة الأوروبية المعاصرة شارته التى تقوم على الحرية لا الإيمان، والتعاقد لا الالتزام، الفرد وليس الجماعة، وهكذا ظهرت البورجوازية بواجهتيها
 السياسية وهى الديمقراطية، والاقتصادية وهى الرأسمالية، ومما لا يخلو من دلالة أننا لا نجد فى التاريخ الأوروبى من اليونان حتى اليوم ذكرًا للرسل والأنبياء، فقد حلَّ الفلاسفة والأدباء والمفكرون محلهم، ووضعوا «الضمير» وغرسوا الوجدان بما أبدعوه من فنون.

وفى جميع الحالات من أقدم عصور اليونان حتى نهاية التاريخ، على ما ذهب إليه فوكوياما، كان الاستمتاع والربح والسيطرة هى الأهداف العظمى لهذه الحضارة، وكانت القيم الحاكمة فيها هى الحرية والقوة والنظام (أو القانون)، ولم تأبه الحضارة الأوروبية بقيم كالرحمة والخير والصفح والعدل والحياء.

فى هذه الحضارة تكون الدنيوية أو العلمانية جزءًاً لا يتجزأ منها، يسرى فيها مسرى الدم فى العروق، ولا يتصور شىء آخر خلافها.

ولكن هذا «الشىء الآخر» حدث مع دخول المسيحية بِمُثل وقِيم تختلف عن قيم ومثل الحضارة الأوروبية الدنيوية، ومع أنها كدين لا تستهدف السيطرة أو الحكم، لأن هذا يخالف طبيعتها، وقد قال المسيح «دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، ونفى أن تكون مملكته فى هذه الدنيا، ولكن الذى حدث هو أنه ما إن تظهر الأديان حتى تظهر فى مرحلة لاحقة المؤسسة الدينية المحتكرة

 المنتفعة، حتى يبرز الكهنة الذين يوجدون فى كل معبد، والسدنة الذين يحرسون كل هيكل، وجباة العُشور الذين يفيدون من العقيدة التى أصبحت مذهبًا، والإيمان الذى تجمَّد فى كنيسة.

وللمؤسسة الدينية طبيعة تختلف تمامًا أو حتى تتنافى مع طبيعة الأديان، فطبيعة المؤسسة ذاتية، وطبيعة الأديان موضوعية، وتتعرض المؤسسة الدينية لعملية من التداخل السيكولوجى

 توحد بين الدعوة وأشخاص الدعاة بالمؤسسة، والذين يتحدثون باسم الديـن، وبعد فترة يصبحون- هم بأشخاصهم- محل الدعوة نفسها، أو يصبحون هم والدعوة شيئًا واحدًا، وأخيرًا، هم الدعوة، وبهذا يطرحون على الدعوة كل ما فى النفس البشرية من طموح وقصور.

 ويتكرر هذا بالكامل فى المؤسسة السياسية ذات الطابع الأيديولوجى الشمولى، شيوعية، أو فاشية، حيث يقوم الحزب بدور الكنيسة، ويصبح قادته أساقفة الكنيسة الذين يحتكرون وحدهم تفسير النظرية.

وبالنسبة للمسيحية بالذات، فإن عوامل معينة اعتبرت الكنيسة المُمَثِّلة الوحيدة والمشروعة للديانة، كما أن ظروف أوروبا فى القرون الوسطى جعلت الكنيسة هى السلطة المركزية الوحيدة وسط أرخبيل الدويلات التى كانت تغطى سطح أوروبا، وتقسمها إلى مئات الدويلات،

يحكم كل دويلة دوق أو كونت أو لورد.. إلخ، وكانت قواعد الطوائف تفصل ما بين المدن وبعضها، فضلاً عن الفواصل الجغرافية من جبال أو أنهار، قبل ظهور وسائل النقل والاتصال الحديثة.. إلخ، فى هذه الملابسات كانت الكنيسة الكاثوليكية هى القوة الوحيدة ذات السلطة

المركزية والرئاسة الموحدة، وكان الأساقفة ورسل البابا هم الذين يجوبون أوروبا ويخترقون حواجزها، فضلاً عن أن بعضهم كان يحكم بالفعل دويلات منها، وفى الداخل كان الجمهور

 الأوروبى ينظر إلى الكنيسة باعتبارها «أمنا الكنيسة» التى يُعَمِّد فيها أطفاله، ويعقد فيها زيجاته ويدفن فيها أمواته، وكانت الكنيسة هى التى تتولى التقسيم الإدارى فى المدن والقرى إلى «إبراشيات».

وقد عملت الكنيسة على توحيد أوروبا فى مناسبتين، الأولى: عندما توجت شارلمان فى سنة ٨٠٠ م، ووكلت إليه توحيد الولايات والمقاطعات.. إلخ، فقام بهذا. والثانية: عندما أرادت أن توقف الحروب داخل أوروبا ما بين الأمراء وأن توجهها إلى الشرق، فأعلن البابا أربــان الثانى فى ١٠٩٥م الحروب الصليبية التى وحدت ســـــــــيوف أوروبا ووجهتها نحو الإسلام.

 وحاول بعض الملوك الأقوياء التخلص من وصاية الكنيسة، فتصدت لهم وأخضعتهم، وقد يصور ذلك ما حدث للإمبراطور الجرمانى هنرى الرابع الذى أعلن البابا جريجورى السابع حرمانه، فاضطر سنة ١٠٧٧م لأن يذهب إلى البابا فى قرية كانوسا حيث كان هناك، وأن يقف على بابه ثلاثة أيام، قبل أن يسمح له بالمثول بين يديه ويظفر بالصفح عنه.

وحفلت المدة من ١٠٧٧م حتى منتصف القرن السادس عشر بالمنازعات، حتى استطاع الملك هنرى الثامن ملك إنجلترا أن يتحرر من وصاية الكنيسة الكاثوليكية وأن ينصب نفسه «حاميًا للعقيدة»، كما ظهر مارتن لوثر وخلص ألمانيا من وصاية الكاثوليك، وفى النهاية انحسم الصراع لمصلحة الملوك والقوميات.

وكان السبب الأكبر فى هزيمة الكنيسة أنها قاومت الحريات: حرية العقيدة، عن طريق إقامة محاكم التفتيش الرهيبة، وحرية الفكر بتقييد طبع الكتب وتحـــــريم تداول كل الكتابات التى تخالف وجهــــة نظر كنيسة روما بمقتضى ما يسمونه الجـدول Inde) Librorum Prohibtorum) الذى تعود فكرته وقراره الأول إلى مجمع نقيه سنة ٣٢٥م، عندما حرم كتاب الأسقف أريـوس المعنون Thalia، ويعود تاريخ ظهوره الفعلى مع تطبيقــه على ما سبق إلى

 مجمـع ترينتــى سنة ١٥٦٤م، وهذا الجدول يصدره البابا ويعاد طبعه كل عام، ويتضمن أسماء الكتب التى تحرم الكنيسة طباعتها وتداولها، ويدخل فيها بالإضافة إلى نصوص التوراة والأناجيل غير المعتمـدة لديها كتب كثيرة منها كتب لجاليليو، وهوبز، وديكارت، وجان جاك روسو، وفولتير، ومنتسكيو، وكانت، وجوته، وإسبينوزا، وجون ستيوارت ميل، وفيكتور

 هوجو، وفورييه، وماركس، وبرجسون.. إلخ، وتمسكت الكنيسة بحماقة بفكرة ثبات الأرض وأنها لا تدور، واعتبرتها قضية مقدسة ثلاثاً، وأنها أهم من أى قضية تتعلق بالعقيـــــــــدة المسيحية، ووقفت الكنيسة دائمًا فى صف النبلاء واللوردات وقاوموا أولى الانتفاضات

الجماهيرية فى بريطانيا، التى حملت اسم ثورة الفلاحين فى القرن الرابع عشر، كما قاومت الكنيسة البروتستنتية- وعلى رأسها وقتئذ مارتن لوثر نفسه- قومة الفلاحين الألمان فى القرن السادس عشر، ودعا مارتن لوثـــــر النبلاء إلى سحقها بكل قوة. ويوضح استعراض الوقائع السـابقة أن نشاط الكنيسة، وليس المسيحية، كان العامل الحاسم الذى جعل الحكم ثيولوجيا، أما

 المسيحية نفسها فهى بعيدة تمامًا عن محور الصراع وغايته وقولة المسيح «دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله» معروفة، كما يدل الدليل السلبى على النتيجة نفسها، أعنى أن انتفاء وجود المؤسسة الدينية أو إبعادها هو الذى لم ير داعياً لوجود العلمانية، لأن وجودها هو الأمر

 الطبيعى فى أوروبا، فالكنيسة هى العامل الرئيسى سلبًا وإيجابًا، وليس المسيحية، التى لا تزال موجودة فى أوروبا ويعتبرونها من الأصول التى قامت عليها الحضارة الأوروبية جنبًا إلى جنب التراث الإغريقى والرومانى، وكان لابد أن ينشأ صراع ما بين المجتمع الأوروبى، الذى يعود بجذوره إلى أثينا وروما، والسلطة الكنيسية التى جاءتها من الشرق، وظل المجتمع



الأوروبى ممثلاً فى مفكريه يصارع الكنيسة وقيمها حتى الثورة الفرنسية ١٧٨٩م التى كانت أولى بوادر انتصار هذا المجتمع على الكنيسة.

وشيئًا فشيئاً استرد المجتمع الأوروبى من الكنيسة السلطات والصلاحيات التى كانت تمارسها، ولم يبقَ لها من دور إلا تعميد الأطفال أو تزويج الشباب أو دفن الموتى، وعندما قنعت الكنيسة بذلك لم يضن عليها المجتمع الأوروبى الذى استرد «دنيويته» بجزء من الكعكة، فأفسح لها

جانبًا بين المؤسسات الأخــــرى، وفى بعض الدول كألمانيا تقوم السلطات بخصم نسبة مئوية للعمل الخيرى من الأجور وتحولها للكنيسة، وبهذه الطريقة استعادت أوروبا الدنيوية التى هى فى أصل حضارتها واحتفظت فى الوقت نفسه بالكنيسة، كما كانت روما تحتفظ بنُصُب للإله

 المجهول (كان من المألوف فى بعض المعابد الرومانية أن يقام نصب يكتب عليه «الإله المجهول»، ولعل هذا كان أصل فكرة «الجندى المجهول» فيما بعد وما أشبه). ولو تصورنا مسيحية بدون كنيسة، لكان من المحتمل ألا يقوم هذا الصراع الطويل الذى استهدف استرجاع الدنيوية، لأن المسيحية وإن كانت قيمتها تختلف عن قيم الدنيوية الأوروبية فلم يكن منها ضير ما ظلت تقوم بدعوتها «بالحكمة والموعظة الحسنة»، وإعطاء ما لقيصر لقيصر..

ولكن الكنيسة وليست المسيحية هى التى استهدفت السلطة، وهى التى قاومت العلماء والمفكرين وأقامت محاكم التفتيش وفرضت رقابة قاسية على إصدار الكتاب.. إلخ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق