اخر الاخبار

04‏/03‏/2012

أى دستور وأى رئيس؟

لا أحد يعرف لماذا قرر المجلس العسكرى، فجأة، تقديم عدد من الأمريكيين والأوروبيين العاملين فى منظمات المجتمع المدنى للمحاكمة فى مصر ومنعهم من السفر، بتهمة تلقى أموال من الخارج والقيام بأنشطة غير مرخص بها. ولا أحد يعرف لماذا تراجع المجلس العسكرى، فجأة أيضا، عن موقفه وراح يضغط على القضاء المصرى لرفع حظر السفر وتمكين المتهمين من مغادرة مصر. وأيا كانت حقيقة الأسباب التى دفعت المجلس لاختلاق أزمة مع الولايات المتحدة ثم تراجعه المهين بعد ذلك، فلا شك أننا إزاء فضيحة كبرى تستحق أن نتوقف عندها وأن نحلل دلالاتها، وهو ما كنت أنوى أن أخصص له مقال اليوم. غير أننى سرعان ما عدلت عن الفكرة، خصوصاً أن مصر بدأت تدخل مرحلة العد التنازلى لأخطر وأهم حدثين فى تاريخها المعاصر: انتخابات الرئاسة وصياغة دستور جديد للبلاد، وبالتالى أصبح الوقت القليل المتبقى أثمن من أن ينفق فى ملاحقة أخطاء وخطايا المجلس العسكرى.

فمنذ أيام أعلنت «لجنة الانتخابات الرئاسية» جدولا زمنيا متكاملا لانتخابات الرئاسة. ووفقا لهذا الجدول ستبدأ اللجنة فى تلقى طلبات الترشح، بدءاً من ١٠ مارس وحتى ٨ أبريل، وستعلن قائمة أولية بأسماء المتقدمين للترشح يوم ٩ أبريل، والقائمة النهائية يوم ٢٦ بعد إتاحة الوقت للبت فى الطعون، ثم ستبدأ الحملات الانتخابية اعتبارا من يوم ٣٠ أبريل وتستمر حتى ٢٠ مايو، وسيبدأ تصويت المصريين فى الخارج يوم ١١ مايو، أى أثناء الحملة نفسها، وسيستمر حتى يوم ١٧ مايو، أما تصويت المصريين فى الداخل فسيجرى يومى ٢٣ و٢٤ مايو، وستعلن النتيجة يوم ٣١ مايو. فإذا لم يتمكن أحد المرشحين من الفوز بأكثر من نصف الناخبين المشاركين فى التصويت فستجرى دورة انتخابية جديدة بين المرشحين الحاصلين على أعلى الأصوات فى الدورة الأولى تعلن نتيجتها، وبالتالى سيحصل أحدهما بالضرورة على أكثر من نصف أصوات الناخبين وستعلنه اللجنة رئيساً منتخباً لجمهورية مصر العربية يوم ٢١ يونيو ٢٠١٢.

على صعيد آخر، بدأ الأعضاء المنتخبون فى مجلسى الشعب والشورى أمس «السبت ٣ مارس» أولى الجلسات المخصصة لاختيار أعضاء الجمعية التأسيسية التى ستتولى صياغة الدستور الجديد. ولأن لدى البرلمان، وفقاً لنص المادة ٦٠ من الإعلان الدستورى، مهلة ستة أشهر، كحد أقصى للانتهاء من مهمة تشكيل الجمعية التأسيسية، ولدى الجمعية التأسيسية بعد تشكيلها مهلة ستة أشهر أخرى، كحد أقصى للانتهاء من صياغة دستور يتعين طرحه خلال خمسة عشر يوماً من إقراره لاستفتاء الشعب عليه، فليس بوسع أحد أن يتكهن بموعد الإقرار النهائى للدستور الجديد. فبينما يعتقد البعض أنه يمكن أن يتم قبل اليوم المحدد لانتخابات الرئاسة، يرى البعض الآخر صعوبة ذلك ويحذر من الآثار السلبية التى قد تترتب على «سلق» دستور يتعين إنضاجه «على نار هادئة». ويثير هذا الوضع، فى تقديرى، جملة من الإشكاليات، بعضها يتعلق بمدى مواءمة البدء فى إجراءات كتابة الدستور وانتخاب رئيس جديد للجمهورية بالتوازى، وبشكل متزامن، لأن الاستعجال قد يؤدى إلى إقرار دستور سيئ وانتخاب رئيس أسوأ، وبعضها الآخر يتعلق بتعقيدات دستورية وقانونية تكتنف كتابة الدستور الجديد، من ناحية، وبأوضاع وملابسات سياسية غريبة تحيط بانتخابات الرئاسة، من ناحية أخرى.

قبل أن نخوض فى تفاصيل هذه الإشكاليات يتعين أن نلفت الانتباه إلى حقيقة أساسية، وهى أن البرلمان الحالى أصبح الجهة المتحكمة فى كلا الأمرين معا، أى فى صياغة الدستور وانتخابات الرئيس، وبالتالى فى صياغة ملامح وبنية النظام السياسى الجديد برمته. ولأن الواقع السياسى الذى تعيشه مصر اليوم لم يكن من قبيل المصادفة، وتم بتخطيط مسبق وبإرادة سياسية واعية، فمن المتوقع أن تكون له انعكاسات هائلة على شكل التفاعلات السياسية فى المرحلة القادمة.

تحكم البرلمان فى عملية صياغة الدستور يبدو واضحاً من نص المادة ٦٠ من الإعلان الدستورى حين منح الأعضاء المنتخبين فى مجلسى الشعب والشورى صلاحيات مطلقة لاختيار أعضاء الجمعية التأسيسية. وتحكم البرلمان فى انتخابات الرئاسة يبدو واضحا من نصوص أخرى فى الإعلان الدستورى منحت الأحزاب الممثلة فى البرلمان سيطرة شبه كاملة تمكنهم من تحديد نوعية وأعداد المرشحين للرئاسة. فهذه النصوص تمنح أفضلية لمرشحى الرئاسة المنتمين على المرشحين المستقلين، ولمرشحى الأحزاب الفائزة بمقاعد فى البرلمان على الأحزاب الأخرى غير الممثلة فى البرلمان، مما ينطوى على تمييز فج بين مواطنين يفترض أنهم يتساوون فى المراكز القانونية.

ولتوضيح هذه النقطة يكفى أن نتذكر أن الحزب الحاصل على مقعد واحد فى أى من مجلسى البرلمان له حق ترشيح أحد أعضائه فى انتخابات الرئاسة، أما المرشح المستقل أو من الأحزاب غير الممثلة بمقاعد فى البرلمان، فيتعين حصوله على تأييد ٣٠ نائبا على الأقل من الأعضاء المنتخبين فى مجلسى الشعب والشورى أو ٣٠٠٠٠ مواطن من محافظات مختلفة وبتوكيلات موثقة فى الشهر العقارى! ومعنى ذلك أن من حق النائب الحزبى المنتخب فى أى من مجلسى البرلمان ترشيح نفسه للرئاسة دون شروط سوى موافقة حزبه، أما النائب المستقل فليس له هذا الحق، حتى ولو كان قد انتخب من جانب مواطنين تفوق أعدادهم أعداد من صوتوا لصالح النائب الحزبى!. فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن إجراء الانتخابات الرئاسية فى ظل غياب دستور دائم يحدد صلاحيات الرئيس القادم ضيق كثيراً من وعاء الترشيح، وثبط من همم العناصر الأكثر جدية وجدارة بتولى المنصب الرفيع، لأدركنا لماذا تبدو الانتخابات الرئاسية، بصورتها الحالية، كجسد بلا روح.

والواقع أننا إذا ألقينا نظرة سريعة فاحصة على قائمة «المرشحين المحتملين» حتى الآن، فسوف يسهل علينا أن نكتشف لهؤلاء المرشحين سمات تلفت النظر وموحية بالدلالات:

 ١- فمن حيث تصنيفهم السياسى، يلاحظ أن هؤلاء المرشحين ينتمون إلى ثلاثة فرق. أحدهم يعبر عن التيار الإسلامى، أبرز مرشحيه: الدكتور أبوالفتوح والدكتور العوا والشيخ أبوإسماعيل، والآخر قريب من النظام السابق أو شغل مناصب مرموقة فيه، أبرز مرشحيه السيد عمرو موسى والفريق أحمد شفيق، وفريق ثالث مستقل، كان الدكتور البرادعى أبرز ممثليه قبل أن ينسحب من السباق، ثم لحقت به موجة جديدة من المرشحين ضمت المهندس يحيى حسين والحقوقى الشاب خالد على.

٢- ومن حيث القوى السياسية الداعمة لترشيحهم، يلاحظ أن أياً من الأحزاب القائمة، بما فيها الأحزاب الممثلة فى البرلمان، والتى كان يفترض أن تقود عملية الترشيح للمنصب الخطير، ليس لها مرشح رسمى من بين هؤلاء جميعاً. فالدكتور أبوالفتوح ليس المرشح الرسمى لحزب الحرية والعدالة، بل وترفض جماعة الإخوان ترشيحه رغم أنه أحد أهم أبنائها ولعب دوراً قيادياً بارزاً فى عملية إعادة بنائها فى السبعينيات، والدكتور «العوا» ليس المرشح الرسمى لحزب الوسط، رغم أنه أحد أبرز مؤسسيه، والدكتور أبوإسماعيل ليس المرشح الرسمى لأى من الأحزاب السلفية، بما فى ذلك حزب النور الذى ينتمى إليه. وما ينطبق على تيار الإسلام السياسى ينطبق بدرجة أكبر على بقية التيارات. ومن حيث جدية هؤلاء المرشحين، يلاحظ أنه ليس من المعروف حتى الآن مَنْ من هؤلاء يمكنه استيفاء شروط الترشح. ولأنه يسهل على أى مواطن أن يعلن عن نفسه «مرشحا محتملا»، فقد طالت قائمة مرشحى الرئاسة أكثر مما ينبغى دون أن يظهر المرشحون الذين يمكن أن تنتظرهم دولة بحجم مصر، ربنا لأن الأجواء لاتزال ملبدة بالغيوم ومفتوحة على كل الاحتمالات.

الاجتماع الذى بدأ أمس للأعضاء المنتخبين فى مجلسى الشعب والشورى لاختيار الجمعية التأسيسية للدستور لم تسبقه مشاورات توحى بالتوصل إلى توافق بين الأحزاب الممثلة فى البرلمان حول معايير وضوابط وآليات اختيار أعضاء الجمعية التأسيسية، لذا فقد تستغرق المناقشات حولها وقتاً طويلاً. وبافتراض أن التوافق يمكن أن يحدث بسرعة، وتشكل بالفعل جمعية تأسيسية خلال أسبوعين أو ثلاثة، إلا أنه يصعب تصور إمكانية الانتهاء من صياغة الدستور الجديد قبل انتخابات الرئاسة القادمة. لذا فسنكون أمام أحد احتمالين، الأول: «سلق» دستور بسرعة، استجابة لضغوط من هنا أو هناك، والثانى: التأنى ومنح العملية ما تحتاج من وقت لإنضاج دستور يليق بمصر الثورة ورفض العمل تحت سيف الوقت، من منطلق اعتبار يوم الانتخابات الرئاسية سقفا زمنيا للانتهاء من صياغة الدستور وطرحه للاستفتاء.

فإذا كان الاحتمال الثانى هو الأرجح، ناهيك عن كونه الأفضل والأكثر مصداقية وطمأنينة بالنسبة للشعب، فلماذا نشغل مجلس الشعب فى هذا التوقيت بالغ الحساسية بهذا الموضوع أصلاً. أليس من حسن الفطن تشكيل لجنة مصغرة منتخبة من البرلمان للتوصل إلى توافق حول معايير تشكيل اللجنة وإعطائها الوقت الكافى للتوصل إلى أفضل الحلول، مع ترك أمر صياغة الدستور برمته إلى ما بعد انتخابات الرئاسة، حتى لا يظل سيف المجلس العسكرى مسلطا على رقبة الجمعية التأسيسية؟ لقد كانت لدينا فرصة حقيقية لكتابة دستور قبل الانتخابات الرئاسية لو كنا قد استعددنا لذلك منذ فترة، لكن الإرادة السياسية لم تتوافر، فلماذا «السربعة» الآن؟

مصر الآن فى مفترق طرق. فإما أن ينجح شعبها فى صياغة دستور يليق بمصر الثورة وفى انتخاب رئيس للجمهورية من بين صفوفها، وإما أن تنجح قوى الثورة المضادة فى كتابة دستور وفى انتخاب رئيس يعيدان إنتاج النظام السابق ويمهدان لممارسة نفس سياساته، ولكن بأسماء ورموز وكوادر جديدة. وعلى شعبها ألا يفقد الأمل أبداً فى قدرته على بناء نظام ديمقراطى يليق بمصر الثورة، مصر الجديدة فعلاً والقادرة على تحريك وقيادة شعوب المنطقة كلها لصنع غد أفضل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق