اخر الاخبار

25‏/03‏/2012

من المسؤول عن الثغرة فى معركة العبور الثانية؟ بقلم د. حسن نافعة


يعتقد البعض، وهو ما لاحظته من تعليقات عدد من القراء فى الآونة الأخيرة، أن مواقفى السياسية تغيرت بعد الثورة، مقارنة بما كانت عليه قبلها، وأن كتاباتى أصبحت أكثر تحاملا على التيار الإسلامى وأكثر اقترابا من التيار الليبرالى. وأرجو أن يصدقنى القراء حين أؤكد لهم أننى أمقت التصنيفات الأيديولوجية، ولا أكتب إلا ما يعبر عن قناعاتى الشخصية، بصرف النظر عن اتفاقه أو اختلافه مع قناعات الآخرين، ولا أعتبر نفسى فى خصومة مع أى تيار فكرى، بما فى ذلك تيار الإسلام السياسى الذى كنت ومازلت أعتبره أحد أهم روافد الحياة الفكرية والسياسية فى مصر. كل ما فى الأمر أن حرصى الشديد على استقلالى الفكرى يدفعنى للجهر دوما بما أعتقد أنه يعبر عن فهمى الخاص للمصلحة الوطنية، مهما تصادم مع الأنماط أو القوالب الفكرية السائدة.

ويبدو أن البعض فسر موقفى من استفتاء ١٩ مارس عام ٢٠١١، وكتاباتى النقدية حول طريقة تشكيل الجمعية التأسيسية كأنها مواقف معادية للتيار الإسلامى. كل ما فى الأمر أننى كنت ومازلت أعتقد أن ثورة يناير أتاحت فرصة ذهبية لنقلة حضارية هائلة لو أحسنت إدارة المرحلة الانتقالية، وطرحت تصورات محددة لكيفية إدارة هذه المرحلة كان يمكن أن تجنبنا الكثير من المصاعب التى واجهناها والمتاهات التى دخلنا فيها. حدث ذلك قبل الاستفتاء وقبل الانتخابات البرلمانية، أى قبل أن يتضح نوع الأغلبية التى ستفرزها، غير أن هذه الفرصة أُهدرت للأسف. وحين ثارت شكوكى حول الطريقة التى تدار بها المرحلة الانتقالية لم أتردد فى الإفصاح عن مخاوفى، وحذرت من حدوث «ثغرة» مماثلة لثغرة الدفرسوار الشهيرة إبّان حرب أكتوبر «٧٣»، لكن ما خشيته وقع للأسف.


ولكى يتذكر أولو الألباب أن المواقف التى عبرت عنها فى حينها ليست لها علاقة من قريب أو بعيد بحصول التيار الإسلامى أو عدم حصوله على أغلبية تشريعية، ولم تكن مدفوعة بأى مخاوف من هذا التيار، إليكم مقالا بعنوان: «كى لا تحدث ثغرة جديدة فى معركة العبور الثانية»، نشر فى هذا المكان بتاريخ ٦ مارس ٢٠١١، فيما يلى نصه:


«توجد أوجه شبه كثيرة بين ما جرى فى مصر إبّان وعقب حرب أكتوبر ١٩٧٣ وبين ما يجرى فيها منذ اندلاع ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١. ولأن حرب أكتوبر وثورة يناير تشكلان معا أهم وأخطر تجربتين خاضهما الشعب المصرى فى تاريخه الحديث، يفرض علينا واجب الوفاء لتاريخه أن نتوقف مطولا أمام ما يجرى الآن من أحداث، وأن نحاول تفحص دلالاتها فى مرآة الماضى، لعلنا نعتبر ونتعظ ونستخلص الدروس المستفادة. ولأن الأخطاء التى ارتكبت إبان وعقب حرب أكتوبر أحدثت ثغرة مكّنت لأنواع كثيرة من لصوص السياسة من الاستيلاء فى نهاية الحرب على ثمار النصر الذى لاحت تباشيره فى بدايتها، علينا أن نبذل كل ما فى وسعنا من جهد لتلافى الوقوع فى أخطاء مشابهة، إذا ما أردنا تجنيب ثورة ٢٥ يناير أن تلقى المصير ذاته، ولمنع اللصوص الذين يسعون للاستيلاء على مكاسبها وإنجازاتها من ارتداء عباءتها والتظاهر بحمايتها.


كان الجيش المصرى قد استطاع فى ٦ أكتوبر «٧٣» أن يباغت العدو الإسرائيلى، وتمكن من عبور قناة السويس، أحد أكبر الموانع المائية فى تاريخ الحروب، ونجح فى تحطيم خط بارليف، أحد أشد الخطوط الدفاعية تحصيناً فى تاريخ الحروب، وأنزل بالجيش الإسرائيلى خسائر فادحة فى الأرواح والعتاد لم يعتد عليها فى حروبه السابقة. ولأن ما تم إنجازه خلال الأيام الأولى من الحرب فاق أكثر التقديرات تفاؤلاً فقد كان من الطبيعى أن يقع خلاف فى وجهات النظر بين القيادات السياسية والعسكرية حول أنسب التكتيكات للتعامل مع متطلبات المراحل التالية فى الحرب. وبينما رأى البعض الاكتفاء مؤقتا باحتلال شريط على الضفة الغربية من القناة، فى حدود ما يوفره حائط الصواريخ المتمركز على الضفة الشرقية من حماية، رأى البعض الآخر ضرورة انتهاز فرصة ما وقع من ارتباك فى صفوف الخصم واستثمار ما تحقق من إنجاز لتطوير الهجوم وتحرير المزيد من الأرض ومواصلة الزحف حتى المضايق. ولأن الأخذ بوجهة النظر الثانية، التى انحازت إليها القيادة السياسية، أدى إلى وقوع خسائر جسيمة فى الأرواح والمعدات، فقد ظهرت ثغرة تسللت منها قوات إسرائيلية عبرت القناة وتمكنت من الالتفاف حول الجيش الثالث الميدانى ومحاصرته، ومع تطورها وتنامى خطورتها وقع خلاف ثان حول كيفية تصفيتها.


فبينما فضلت القيادة السياسية أن يتم ذلك بعمل دبلوماسى يتمحور حول وساطة أمريكية منفردة لتسوية الصراع العربى الإسرائيلى، فضلت قيادة الأركان أن يتم ذلك بعمل عسكرى يتمحور حول سحب جزء من القوات المتمركزة فى الغرب لإشراكها فى تصفية البؤرة التى استقرت فى الشرق. ولأن كفة الخيار السياسى رجحت فقد بدأت على الفور (دبلوماسية كيسنجر المكوكية). ولأن استراتيجتها قامت على الربط بين أى تقدم يحدث فى عملية التسوية وبين ضرورة إدخال تغييرات بنيوية على النظام السياسى والاقتصادى والاجتماعى فى مصر، فقد سهلت هذه التغييرات لشريحة محدودة من الشعب المصرى من إمكانية الاستيلاء على ثمار نصر أكتوبر. وهكذا بدأت تترسخ رويداً رويداً دعائم نظام سياسى قام على تحالف الفساد والاستبداد، وأصبح هدمه فيما بعد ضرورة وطنية تكفلت بها ثورة يناير!.


وكما استطاع شعب مصر أن يثبت قدرته على تحدى آلة الحرب الإسرائيلية الجهنمية، والعبور بالبلاد من حالة الهزيمة واليأس إلى نشوة النصر والأمل، ها هو يعود اليوم متسلحا بروح أكتوبر ليثبت من جديد قدرته على إلحاق الهزيمة بتحالف الاستبداد والفساد. وإذا كانت ثورة يناير قد تمكنت بعد ثمانية عشر يوما فقط من الإطاحة برأس النظام الذى شيد هذا التحالف، فإن جذوره ظلت راسخة تشكل خطراً جسيماً على الثورة قد يحول دون تمكينها من تحقيق أهدافها. وفى سياق التعامل مع هذا الوضع بدأت تظهر خلافات بين وجهتى نظر تذكرنا بالخلاف الذى نشب عقب اندلاع حرب أكتوبر وأدى إلى تصفية منجزاتها وسرقة ثمارها. إذ ترى وجهة النظر الأولى أن الثورة حققت أهدافها الرئيسية وبات عليها أن تسلم قيادها إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذى آلت إليه السلطة بحكم الدور الذى لعبه فى حمايتها، وللحيلولة دون أن يؤدى استمرار التظاهر والاعتصام إلى انهيار الدولة نفسها وخراب الاقتصاد الوطنى. أما وجهة النظر الثانية فترى أن الثورة لم تحقق كل أهدافها، وتصر على استمرارها إلى أن تتمكن من تحقيق هذه الأهداف كاملة مهما بلغت التضحيات. وتدل الأحداث التى شهدتها البلاد، منذ إجبار الرئيس السابق على التخلى عن السلطة، على افتقار المجلس الأعلى للقوات المسلحة إلى رؤية واضحة لإدارة المرحلة الانتقالية، وهو ما قد يفضى فى نهاية المطاف، بوعى أو دون وعى، إلى الالتفاف على الثورة واحتوائها تمهيدا لإجهاضها. ولأن سلطة إدارة شؤون الدولة آلت إليه فى ظروف استثنائية، دون أن يسعى هو إليها أو يرغب فيها، فقد بدا المجلس الأعلى للقوات المسلحة وكأن همه الأول ينحصر فى إثبات أنه لا يسعى للاحتفاظ بها، ومن هنا حرصه على ألا تتجاوز الفترة الانتقالية ستة أشهر، مرتكباً بذلك أول الأخطاء التى عكست حيرة وارتباكا وتسببت فى سلسلة من الأخطاء اللاحقة أهمها:


١- رفض المجلس الأعلى للقوات المسلحة حتى الآن تشكيل مجلس رئاسى لمعاونته فى إدارة شئون البلاد، وهو ما عكس تناقضاً فى توجهاته. فمن ناحية بدا المجلس شديد الحرص على الإسراع بنقل السلطة خلال فترة لا تتجاوز ستة أشهر، لكن بدا فى الوقت نفسه غير مستعد، من ناحية أخرى، لإشراك عناصر غير عسكرية فى إدارة البلاد خلال المرحلة الانتقالية.


٢- إصراره فى البداية على استمرار عمل حكومة شُكلت بتكليف من الرئيس السابق، ثم قيامه لاحقا بإدخال تعديلات عليها، رغم وصفها بحكومة «تسيير أعمال»، وحرص فى الوقت نفسه على احتفاظ رموز مكروهة بمقاعد وزارية فيها، إلى أن رضخ فى النهاية لمطالب الشعب بإقالة حكومة «شفيق» وتكليف شخصية تحظى بقبول «شباب الثورة» بتشكيل حكومة جديدة.


٣- إقدامه على تشكيل لجنة لتعديل الدستور، على الرغم من إعلانه تعطيل العمل به، ثم قيامه بإنهاء عملها دون إبداء الأسباب وتشكيل لجنة أخرى، وقصر صلاحيات عملها على اقتراح تعديلات محدودة لا يمكن أن تفى بالغرض أو تؤدى إلى انتخاب أفضل العناصر، سواء لرئاسة الجمهورية أو لعضوية البرلمان، ثم تحديد يوم ١٩ مارس موعدا للاستفتاء على التعديلات الدستورية المقترحة قبل إنضاجها وتحسينها من خلال النقاش العام.


ورغم تقديرى الشخصى للعمل الذى قامت به لجنة تعديل الدستور، فإن من شأن التطبيق الحرفى لمقترحاتها أن يدخل النظام السياسى كله فى متاهة جديدة، وذلك لأسباب عديدة أهمها:


١- أن الشروط التى حددتها للترشح لمقعد الرئاسة، خصوصا ما يتعلق منها بالجنسية، لا تتيح الفرصة بالضرورة لاختيار أفضل العناصر لشغل هذا المقعد وتنطوى على تمييز غير مبرر بين مرشحى الأحزاب والمرشحين المستقلين.


٢- أن انتخابات مجلسى الشعب والشورى التى ستجرى على أساس ما تقترحه من تعديلات ستفرز هيئات قد لا تختلف كثيرا عن تلك التى أفرزها النظام السابق، ومن ثم تساعد على إعادة إنتاجه، خصوصا وأنها أبقت على نسب المقاعد المخصصة للعمال والفلاحين.


٣- لا توجد مهلة زمنية كافية تسمح للأحزاب الجديدة، التى يفترض قيامها خلال المرحلة المقبلة، ولمؤسسات المجتمع المدنى، التى يفترض أن يزداد نشاطها حيوية فى المرحلة المقبلة، بعرض برامجها والتعريف بمرشحيها، ومن ثم لا تتيح فرصة كافية أمام القوى التى ساهمت فى صنع الثورة للاشتراك بفاعلية فى صياغة القوانين الجديدة ورسم مستقبل البلاد.


٤- تقضى التعديلات المقترحة على المادة ١٨٩ بضرورة صياغة دستور جديد خلال فترة لن تتجاوز العام بعد الانتخابات التشريعية المقبلة. ومعنى ذلك أن البلاد ستشهد تنظيم انتخابات تشريعية، وربما رئاسية أيضا، مرتين خلال فترة زمنية لن تزيد كثيرا على عام، وهو أمر مكلف اقتصادياً ومرهق سياسياً فى الوقت نفسه.


ولأن إدارة المرحلة الانتقالية بهذه الطريقة قد تؤدى فى نهاية المطاف إلى إعادة إنتاج بنية النظام نفسها، مع تغيير طفيف فى وجوه وأسماء القيادات، وربما فى بعض أساليب العمل، فمن المتوقع أن تفضى، عملياً، إلى احتواء الثورة وإجهاضها فى النهاية. لذا أطالب المجلس الأعلى للقوات المسلحة بمراجعة وإعادة النظر فى طريقة إدارته للمرحلة الانتقالية بما يتناسب مع مهمتيها الأساسيتين وهما: إزاحة وتنظيف ما تبقى من النظام القديم، سواء على مستوى الأشخاص والرموز أو على مستوى القيم والبنى والسياسات، ووضع الأسس التى تكفل بناء نظام سياسى جديد أكثر ديمقراطية. هذا إذا كان المجلس يرغب حقا فى تبنى مطالب الثورة ومنع وقوع ثغرة تتيح للانتهازيين تصفيتها».


انتهى المقال.


والآن، عزيزى القارئ، أريد أن أطرح عليك سؤالا أرجو أن تجيبنى عنه، قبل أن أحاول بدورى، ربما فى مقال الأسبوع المقبل: ألم تحدث ثغرة فى إدارة المرحلة الانتقالية شبيهة بالثغرة التى حدثت فى حرب أكتوبر، وترتب عليها فى النهاية استعادة مصر سيناء منقوصة السيادة، مقابل احتلال إسرائيل والولايات المتحدة مصر كلها؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق