اخر الاخبار

14‏/03‏/2012

حول اقتراحات تشكيل الهيئة التأسيسية بقلم د. منار الشوربجى




كلما اطلعت على المزيد من المقترحات المقدمة بشأن معايير تشكيل الهيئة التأسيسية التى ستكتب الدستور، شعرت بمزيد من القلق، فهى رغم الاختلاف بينها فى التفاصيل، مبنية على فكرة واحدة بالغة الخطورة فى تقديرى، وهى تعكس ارتباكاً واضحاً فى تحديد المعايير وخللاً خطيراً فى الرؤية، من شأنه أن يكرس موت السياسة الذى عانينا منه عقودا طويلة فى عهد مبارك.



فأنت إذا تتبعت الاقتراحات المُقدّمَة، ستجد أن الاختلاف بينها ينصرف إلى التفاصيل دون الجوهر، مثل الاختلاف حول نوعية الهيئات والفئات الممثلة فى الهيئة التأسيسية ونسبة تمثيل كل منها، فضلاً عن عدد أعضاء البرلمان فى تشكيل الهيئة، لكن جل المقترحات مبنية على منهج مرتبك، ليس واضحاً فيه طبيعة معيار الاختيار بالضبط، هل هو فعلاً تمثيل «أطياف الشعب المصرى»، أم تمثيل مؤسسات الدولة أم أن المعيار هو الخبرات الفنية والمهنية؟ ففى كل مقترح، تجد المقاعد موزعة بين مؤسسات الدولة كالقضاء والجيش والشرطة، والمؤسسات الدينية كالأزهر والكنيسة، ومعها فى الاقتراح نفسه هيئات المجتمع المدنى كالنقابات العمالية والمهنية والاتحادات التجارية وغرف الصناعة والتجارة وجمعيات حقوق الإنسان والجمعيات الأهلية، بل الخبرات الفنية مثل فقهاء القانون الدستورى وأساتذة الجامعات!


والحقيقة أن هذا الارتباك نابع من أن منهج «تمثيل طوائف الشعب» فى كل تلك الاقتراحات يتبنى رؤية بعينها تُصَنّف المصريين على أساس المصالح المهنية والفئوية فى أغلب الأحوال، وهو ما يعنى بالضرورة أن كل أصحاب مصلحة سيصيغون الجزء الخاص بمصالحهم فى الدستور، على مقاسهم، وهذه الرؤية المعيبة التى تتبناها «ليبرالية المصالح المنظمة» تقوم على أن المصلحة العامة هى حاصل جمع المصالح المختلفة فى المجتمع، فإذا ما أعطينا لكل صاحب مصلحة ما يريده، نكون قد حققنا الصالح العام، وهى أكذوبة كبرى فندها علماء السياسة حول العالم، فالصالح العام مفهوم مختلف تماماً لا علاقة له بالجمع والطرح.


وتبنينا تلك الفكرة خطر على كتابة الدستور بل يضع سابقة بالغة الخطورة ستتكرر فى كتابة القوانين، فتصبح مصر دولة بلا قانون من الناحية العملية، فبدلاً من أن تخضع المصالح المختلفة للقانون الذى يصدر تحقيقاً للصالح العام، تصبح تلك المصالح هى القانون ذاته، حيث تقوم كل منها بالتشريع لنفسها وكتابة القوانين التى تحكم عملها.


والمفارقة الجديرة بالتأمل هى أن أغلب تلك المقترحات غاب عنها فئة السياسيين أو تم تقليص دورهم، وهو ما يعنى غياب الرؤية أصلاً بشأن جوهر عملية كتابة الدستور وأهدافها، فالدستور الذى لا يعبر عن توافق حقيقى بين القوى والتيارات السياسية المختلفة فى المجتمع سرعان ما يسقط، لأنه لا توجد قوى اجتماعية تحميه كونه يعبر عنها، ومن هنا، فإن كتابة الدستور لابد أن تقوم على توازنات دقيقة وتوافقات حقيقية، ومثل تلك التوازنات والتوافقات لا يتوصل لها سوى السياسيين، فأساتذة الجامعات وخبراء حقوق الإنسان والقانون الدستورى لا يمثلون سوى خبرات فنية تتم الاستعانة بهم من جانب السياسيين وليس العكس، وتهميش السياسة هو تكريس لمنطق حكم مبارك الذى أدى لموت السياسة الذى عانينا ولا نزال نعانى من تبعاته حتى الآن.


وتستحيل كتابة دستور رصين دون وفاق وطنى، ومناخ عدم الثقة والمعارك الدائرة الآن بشأن الهيئة التأسيسية والدستور مصدرها الحقيقى انعدام الثقة بين التيارات السياسية فى مصر، ومن هنا، فإذا ما تخلينا عن فكرة تشريع كل أصحاب مصلحة لأنفسهم، فبإمكاننا أن التفكير جدياً فى طريقة لا تؤدى فقط لكتابة دستور يليق بمصر وإنما تؤدى أيضا للخلاص من الصراع الأيديولوجى الذى لا تملك مصر ترف استمراره على حساب القضايا الحيوية لأبنائها.


فمن الممكن مثلا أن نقسم الهيئة التأسيسية إلى مجموعتين تعملان على مرحلتين، المجموعة الأولى من ٢٨ عضواً والثانية من اثنين وسبعين، أما المجموعة الأولى، ولنسمها لجنة الوفاق الوطنى، فهى تتوزع بالتساوى بين سياسيين يمثلون التيارات السياسية الأربعة فى مصر، الإسلامى والليبرالى والقومى واليسارى، يختارهم كل تيار بنفسه، وتكون مهمة هذه المجموعة هى الحوار المباشر بهدف التوصل إلى المتفق عليه بين التيارات الأربعة، والتفاوض بخصوص المختلف عليه بينها بهدف الوصول إلى حد أدنى يقبله الجميع، ويَحسُن أن نمنح تلك اللجنة الوقت الأكبر من المدة المخصصة لكتابة الدستور، لأن مهمتها هى الأكثر صعوبة، وينتهى عمل هذه اللجنة بصياغة التوافق الذى تم الاتفاق عليه فى عبارات واضحة لتكون ملزمة عند صياغة مواد الدستور، أما صياغة مواد الدستور نفسها، فتتولاها الهيئة التأسيسية كلها، فبانتهاء عمل لجنة الوفاق ينضم أعضاؤها لباقى أعضاء الهيئة التأسيسية الاثنين والسبعين الذين يتم اختيارهم وفق ما يراه البرلمان، ولأن لجنة الثمانية والعشرين قد توصلت لوفاق قبله الجميع والتزم به، فإن عملية اختيار الاثنين والسبعين عضواً لن تكون خلافية، لأن هؤلاء أيا كانت هويتهم سيلتزمون بالمسار الذى حدده الوفاق الوطنى، وتكون مهمة لجنة المائة هى صياغة الدستور بناء على الوفاق الوطنى بالاستعانة بخبرات فنية من خارج اللجنة إذا لزم الأمر.


والهدف من تقسيم لجنة المائة إلى لجنتين هو أنه يستحيل فى تقديرى أن تتم كتابة دستور دون وفاق وطنى، ويستحيل فى الوقت ذاته على عدد ضخم مثل مائة فرد أن يتوصلوا لذلك الوفاق. والحقيقة أن ما قدمته هنا مجرد اجتهاد من الممكن تعديله، ومن المؤكد أن هناك ما هو أفضل منه.. لكن المهم هو إعطاء الأولوية للوفاق الوطنى والبعد عن حكاية تشريع كل جماعة لنفسها

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق