
«البيوت ليست أسراراً».. مثل جديد وجدت أنه الأدق فى وصف أحوال سكان الأطراف فى مختلف حدود مصر باتجاهاتها الثلاثة، لاسيما أن دورة حياة يومهم تتسم بتطابق يتناقض مع اختلاف عاداتهم وتقاليدهم وأعمالهم، وهو التطابق الذى خلق توحداً «لا إرادياً» فى مطالبهم. أوجاع وآلام سكان المدن الحدودية بقراها ونجوعها مترامية الأطراف، تلخصت في أن الفقر والإهمال والعنصرية هى أكثر العوامل المشتركة لقاطنى الأطراف، أو بالأحرى «ضحاياها»، لكن رصدها فى الحلقة السابعة والأخيرة كان أكثر تدقيقاً ومقارناتها أضيق نطاقاً، إذ حرصت على القيام بسلسلة زيارات إنسانية لسكان آخر بيوت مصر، الملاصقة للحدود مع ليبيا وفلسطين وإسرائيل والسودان، للتعرف على المختلف فى حياتهم
ومطالبهم، فكانت آلامهم متعددة بحكم الاختلافات الجوهرية فى الجغرافيا والأعراق، لكن بقى مرضهم واحداً، تشخيصه هو «الحرمان من الحياة». لم يكن ظنى إثماً حين توقعت أن بداخل هذه البيوت قنابل موقوتة من الظلم والقهر والفقر، فقد كان الواقع أشد قسوة، فبيت يحلم ربه بأن يجد الرزق الحلال الذى يكفيه ورعيته ليوم آت، وآخر قرأ الفاتحة ترحماً على قضية الانتماء التى أفنى نصف القرن دفاعاً عنها، لتكون جائزته أربعة جدران وباباً لبيت فى قلب الصحراء بلا أدنى خدمات، وثالث مات صاحبه على أعتابه حزناً على بوار أرضه المجاورة لنهر النيل، ومازالت زوجته، التى تجاوزت الثمانين من عمرها، تناضل من أجل قطرة ماء. زيارتنا الأخيرة لم تكن لبيت ولا لخيمة، بل لمجمع عشوائى من عشش الصفيح والخيش الممتدة فى قلب صحراء النقب وصولاً إلى الخط الحدودى الذى يفصلنا عن أشد الناس عداوة لنا. فيها وجدت العشرات يحيون عيشة الجاهلية، لا يحلمون بترف الماء النظيف والكهرباء والتعليم والصحة، لكن يبقى أملهم الوحيد فى الحصول على ما يثبت مصريتهم.أكثر من ساعة قطعتها السيارة من مدينة طابا جنوب سيناء بمحازاة الشريط الحدودى بين مصر والأراضى المحتلة، إلى أن وصلت منطقة تسمى «تجمع الأوسط» بقرية بغداد التابعة لمدينة الحسنة فى وسط سيناء، حيث تعيش قبيلة «العزازمة»، بلا خدمات ولاحقوق ولا حتى جنسية. و«العزازمة» وفق ماقرأت عنها، هى إحدى أهم القبائل التى تسكن صحراء النقب، وكانت مساكنهم موزعة مابين الأراضى المصرية والفلسطينية، قبل أن تفصلها الحدود التى يقع جزء منها فى سيناء والآخر فى الأراضى المحتلة، والتى تم ترسيمها بعد الحرب التركية- البريطانية عام 1910، ليتوزع أبناء «العزازمة» إلى قسمين، أحدهما داخل مصر التى كانت تخضع للاحتلال البريطانى، والآخر يتبع تركيا التى كانت تسيطر فى ذلك الوقت على منطقة الشام، بما فيها فلسطين، وظل هذا الوضع حتى حرب 1948، فخضع الجزء الفلسطينى للاحتلال الإسرائيلى، ومنذ هذا الوقت أصبحت قبيلة العزازمة منقسمة الهوية فى الجانب المحتل، ومنعدمة الهوية فى مصر. بمجرد وصولنا إلى مدخل تجمع الأوسط، طلب منى دليلى ورفيق رحلتى السائق «سالم» النزول من السيارة، لاستبدالها بأخرى نقل من النوع «الماردونا»، ذات الدفع الرباعى، كانت فى انتظارنا بناء على اتصالات أجراها «سالم» ونحن فى الطريق. ..المزيد.

«حسبنا الله ونعم الوكيل».. هكذا بدأت الحاجة طاهرة صاحبة آخر بيت على حدود مصر الجنوبية حديثها، مفوضة أمرها لله فى تعب وعناء استمر حوالى 32 عاماً فى زراعة ورعاية حديقتها، التى أفنت عمرها على رعايتها، ومات زوجها وهو يسقى نخيلها. تقول الحاجة طاهرة: «بدأت زراعة هذه الحديقة أنا وزوجى بعد أن أعادنا الرئيس الراحل أنور السادات إلى قريتنا قسطل، لينقذنا من مصيبة التهجير إلى نصر النوبة بأسوان، والتى لم نرتح فيها، وشعرنا فيها بأننا أغراب حتى عدنا إلى أرضنا، وبدأنا فى زراعة الأرض بكل أنواع الفواكة من المانجو والرمان والبرتقال والليمون والنخيل، لدرجة أن زوجى ظل يزرع ويعمل فى الحديقة حتى آخر لحظة فى عمره، فمات وهو يسقى النخيل». وتضيف: «من بعد زوجى ظللت أهتم بالحديقة بمفردى، لأن ابنى يعمل مدرساً بالأزهر فى نصر النوبة، وطبعاً كنا نعتمد على البئر الخاصة بشركة مساهمة البحيرة، باعتبارها المصدر الوحيد للمياه فى قسطل، إلى أن بدأت كل مشاكلى بتعطل ماكينة الرفع الخاصة بالبئر منذ أكثر من عامين، وتخلت شركة مساهمة البحيرة عن تصليحها، فأصبحت لا أجد الماء لأسقى الزرع، فمات معظمه، وأوشكت الأرض على البوار». ..المزيد».

منقول من جريدة المصري اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق