اخر الاخبار

02‏/03‏/2012

آثار النوبة وأهلها بقلم د.حسن نافعة

ذكّرنا رحيل الدكتور ثروت عكاشة بآثار النوبة والحملة الدولية لإنقاذها فى ستينيات القرن الماضى، وهو موضوع قد يبدو بعيدا عن اهتمام المصريين فى اللحظة الراهنة، لكنى أعتقد أنه يقع فى قلب هذا الاهتمام، لذا ربما يكون من المفيد تذكير الشباب بالأجواء التى أحاطت بمعركة إنقاذ آثار النوبة، لعله يستطيع أن يستخلص منها دروساً تعينه على صنع مستقبل أفضل. ولأن مصر بلد زراعى يعتمد فى بقائه على مياه النهر، ويعيش أهله على رقعة محدودة جدا من الأرض القابلة للزراعة، فقد كان من الطبيعى أن يحرص زعماؤه الوطنيون، خاصة فى مراحل النهضة، على الاهتمام بتوسيع رقعة الأرض الزراعية وتوفير مياه الرى اللازمة لها، وهو ما قام به الرئيس «عبدالناصر» - على سبيل المثال - حين خاض معركة كبرى من أجل بناء السد العالى.ولأن تنفيذ هذا المشروع العملاق ترتب عليه احتمال غرق مجموعة من أهم الآثار الفرعونية، كمعبدى أبوسمبل ومعابد فيلة وكلابشة وغيرها، فقد بدت مصر فى ذلك الحين وكأن عليها أن تختار بين بناء السد العالى، رمز المستقبل الواعد، والمحافظة على الآثار المهددة بالغرق، رمز الماضى العريق. ولأن ثروت عكاشة كان عاشقاً كبيراً للفن والحضارة ووطنياً مخلصاً فى الوقت نفسه، فقد رفض هذا الخيار تماما وأصر على أن تجمع مصر بين الحسنيين، وهو ما اعتبره كثيرون حلماً بعيد المنال، غير أن مصر عبدالناصر ووزير ثقافته كانا على مستوى التحدى.

فى ٨ مارس ١٩٦٠، ومن مقر اليونسكو فى باريس، وقف ثروت عكاشة وإلى جواره السيدة/ كريستيان دى روش نوبلكور، عالمة المصريات الفرنسية الشهيرة، لتوجيه نداء للمساهمة فى إنقاذ آثار النوبة، مدشناً بذلك حملة عالمية غير مسبوقة، جسدت لأول مرة فى التاريخ مفهوم «التراث المشترك للإنسانية». وقد استمرت هذه الحملة وما تخللتها من عمليات إنقاذ لأكثر من عشرين عاما، شارك فيها معظم الدول والشعوب، وتكلفت مئات الملايين من الدولارات، وحققت نجاحات فاقت كل التوقعات، لذا بدت وكأنها سيمفونية تضامن عالمية يقودها ثروت عكاشة، السياسى والفنان والمثقف المصرى الكبير، وهو أمر له دلالات مهمة وثيقة الصلة بما يجرى على الساحة السياسية المصرية الحالية، من هذه الدلالات:

١- إن مصر الرسمية والشعبية فى تلك الفترة، بحاضرها ومستقبلها، لم يمنعها شىء أبدا من الاهتمام بماضيها وتراثها. فلو كانت تنظر إلى تماثيلها باعتبارها «أصناما» لكانت تركتها تغرق، ولوجدت فى بناء السد العالى فى ذلك الوقت فرصة للتخلص من هذه الأصنام، وهو تعبير نسمعه الآن يتردد أحيانا، ونتمنى ألا يحدث أبدا.

٢- إن العالم الخارجى ليس شراً كله، وإن التضامن الدولى حقيقة قائمة وليس وهماً، وإن الدعم الذى يقدم أحيانا من خلاله ليس دائما وبالضرورة مغرضاً أو مشروطاً، لذا يمكن فى أحيان كثيرة توظيف النزعة الخيّرة لدى البشر، وهى نزعة قائمة وموجودة لدى كل الشعوب بصرف النظر عن عقائدها الدينية أو مذاهبها السياسية أو انتماءاتها الطائفية، لإقامة مشروعات مفيدة ونافعة للدول المتلقية للمعونة، دون المساس بكرامتها أو خدش حيائها.

٣- إننا نهمل أحيانا - فى سياق حماسنا للمشروعات العملاقة ذات الآثار الإيجابية الكبيرة بالنسبة للتنمية - قضايا إنسانية بالغة الأهمية. ومن المعروف أن بناء السد العالى كان قد أدى إلى تهجير آلاف النوبيين الذين اختفت قراهم تحت مياه بحيرة ناصر، ولم نقدم لهم ما يكفى لتعويضهم عن الأضرار التى لحقت بهم أو حتى نعاملهم بما يستحقونه من احترام.

تستعد مصر الآن لانتخابات رئاسية، نأمل أن تكون حرة ونزيهة، ولأنها المرة الأولى التى تتاح فيها لشعب مصر فرصة حقيقية لانتخاب رئيسه، نأمل أن تشكل تلك الانتخابات بداية لعصر جديد يتمكن فيه من بناء نظام ديمقراطى حقيقى يعتز فيه بحاضره العربى والإسلامى، ويفخر فيه فى الوقت نفسه بماضيه الحضارى التليد، ويهتم بالإنسان بوصفه إنساناً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق