اخر الاخبار

23‏/03‏/2012

دستور الثورة بقلم زياد العليمى


بتاريخ ١٧ ديسمبر ١٩٩٤ أصدرت المحكمة الدستورية العليا برئاسة رئيسها فى هذا الوقت المستشار عوض المر حكمها القاضى بعدم جواز تولى أى من السلطات الثلاث (التشريعية، والتنفيذية، والقضائية) عملية صياغة أو تعديل الدستور حيث جاء بالحكم: «إن الوثيقة الدستورية تخلق سلطات الدولة بما فيها مجلس الدولة والحكومة، وتقرر مسؤوليتها والقواعد التى تحكمها، وبالتالى لا يجوز لسلطة هى من خلق الدستور أن تخلق الدستور».


وجاء هذا الحكم متمشياً مع ما استقر عليه الفقه الدستورى حول العالم لسنوات طويلة، ففى أى دولة كانت هناك ثلاث سلطات رئيسية، ومن الطبيعى أن تسعى كل من هذه السلطات لإحكام السيطرة على مقاليد الأمور، وتوسيع صلاحياتها على حساب السلطتين الأخريين لتتمكن من تسيير جميع أمور الدولة فى طريق خدمة مصالحها، وهنا يأتى دور الدستور ليضع حداً لدور كل سلطة يمكنها من العمل بحرية، ويخلق تناغما بين عمل كل السلطات ليصب هذا التناغم فى مصلحة الدولة بشكل عام ومن ثم المواطنين.



وفى هذا الإطار كنت أرى أن ما ورد بالإعلان الدستورى من تولية أمر صياغة الدستور لمجلسى الشعب والشورى، هو أحد الأخطاء الكثيرة فى إدارة المرحلة الانتقالية، وكنت أتوقع أن يفطن نواب الشعب باعتبارهم يسعون للتعبير عن آمال وطموحات شعبهم لهذه السقطة، فيقوموا بإصدار قانون تنظيم لجنة صياغة الدستور التى تحدد معايير الجمعية التأسيسية، وكيفية تمثيلها لجميع طوائف الشعب، وطريقة انتخابها من خارج البرلمان لتأتى معبرة عن التنوع الحقيقى الموجود بيننا.


فالقوانين يمكن أن تتغير بتغير الأغلبية البرلمانية، حتى تعبر عن سياسات عامة لتيارات سياسية مختلفة اختارها المواطنون لتحكم من خلال تطبيق هذه السياسات وسن قوانين لتسيير الأمور وفقاً لبرنامجها السياسى الذى انتخبها المواطنون لتطبيقه.


أما الدستور فهو العقد الاجتماعى الرئيسى بين كل المواطنين، والذى يحدد الحقوق العامة والخاصة التى يرى كل المواطنين أنها كفيلة بحماية حقوقه من جور السطات المختلفة أو الأغلبية المتغيرة، وهو الإطار العام المتفق عليه والذى لا يجوز لأى أغلبية أياً كانت المساس به أو سن قوانين بالمخالفة لأحكامه.


ومن هنا فإن طريقة تشكيل أى هيئة تأسيسية لصياغة دستور تكون مختلفة عن قواعد الأغلبية والأقلية، فاللجنة يجب أن تسعى لتمثيل جميع الفئات فيها ليكون الدستور معبراً عن جميع المصريين، فيجب أن يعبر الدستور عما يقبله ويرتضيه الرجل والسيدة، الغنى والفقير، المسلم السنى والشيعى، والمسيحى الأرثوذكسى والبروتستانتى والكاثوليكى، والبهائى، أهل النوبة والبدو وأبناء المدينة والقرى والنجوع... إلخ.


كل هؤلاء مواطنون مصريون لهم الحقوق نفسها وعليهم الواجبات نفسها، فإذا أردنا أن يجتمع كل هؤلاء لبناء وطن قوى موحد قادر على تجاوز كل أزماته، ونبتعد بالوطن عن التناحر العرقى والطائفى علينا أن نسعى لأن يعبر الدستور عن كل هؤلاء بغض النظر عن رأينا الشخصى فيهم.


ففى كل ديمقراطيات العالم من حق المواطنين التظاهر لدعم قانون أو إسقاط قانون، بل يصل الأمر أحياناً إلى خرق القانون بشكل جماعى لإسقاطه، وهو ما فعله المصريون مع قانون الطوارئ مثلاً عندما لم يلتزموا به فى تظاهراتهم وإضراباتهم فسقط على صخرة الإرادة الشعبية قبل إيقاف العمل به، بينما إذا خرج المواطنون لإسقاط الدستور فنحن نتحدث عن ثورة وتغيير كامل لنظام، ولهذا يجب أن يرضى الدستور الأقلية قبل الأغلبية، وأن يمثل الجميع فى هيئته التأسيسية.


كنت أتصور أن نواب الشعب واعون بهذه القواعد البديهية وسيضعون قواعد لانتخاب هيئة تأسيسية لا يمثل فيها البرلمان باعتباره معبراً عن أغلبية وأقلية ستتغير بتغير تصويت الناخبين، وعلى أساس أن البرلمان أحد السلطات الثلاث التى سيحكم قواعدها الدستور، وبالتالى تمثيله فى تأسيسية الدستور تشوبه شبهة تضارب المصالح، فكيف أقبل أن أحدد صلاحياتى وصلاحيات من يتنازعوا معى السلطة بنفسى، وكيف أكون عادلاً فى مثل هذا الموقف.


إلا أننى فوجئت بتصويت أغلبية النواب لصالح أن يتم تمثيل البرلمان فى الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور بنسبة ٥٠%، على أن يختار نواب البرلمان الـ٥٠% الآخرين الذين سيشاركونهم فى صياغة دستور الأمة. إذن فهو دستور مجلس الشعب وليس دستور الأمة المصرية، وعلينا أن نقبل أن يثور الناس ويطالبوا بتغيير هذا الدستور إذا لم يعبر عنهم، وفى حالة تغير شكل الأغلبية فنحن وضعنا قاعدة سيجرى العمل بها فى المستقبل، وأول من سيتضرر منها الأغلبية الحالية، وهى قاعدة استبداد الأغلبية، فإذا ما حصلت تيارات أخرى على الأغلبية فسيحق لها اتباع نفس النهج وستستخدمه، خاصة لو كانت قوى غير ديمقراطية بالأساس مثل فلول نظام مبارك، ولن يجرؤ أى من شاركوا فى صياغة الدستور القادم على أن يواجههم بأن الدستور يجب أن يعبر عن المجتمع كله.


ولهذا أرى أن استحواذ أى سلطة من السلطات الثلاث على عملية كتابة الدستور هو خطأ كبير فى حق الوطن، يجب أن يتجنبه كل من يؤمن بالديمقراطية، وأن يسعى لتغيير تلك القواعد، وإن لم يستطع فعليه أن يعلن بوضوح تبرؤه من هذه القواعد المخالفة لما استقرت عليه الأعراف الدستورية.


وعلى الأقلية البرلمانية أن تبادر إلى ذلك قبل الأغلبية، فقد اختاركم شعب مصر لتكونوا ممثلين حقيقيين له، وحتى تسعوا لاستكمال مهام ثورته، لا أن تكونوا ديكورا فى مشهد معد سلفاً وتساهموا بإضفاء الشرعية على آليات خلق استبداد جديد.


انسحبوا من لجنة صياغة دستور لن يمثل فيه كل المصريين بالتساوى، وبقدر وجودهم الحقيقى فى المجتمع، انسحبوا قبل أن يشعر المصريون بأن هذا الدستور لا يعبر عنهم جميعاً، وأنكم شاركتم فى خداعهم، انسحبوا فلو لم تمثل كل فئات المجتمع فى هذه اللجنة، ولم يشعر كل مصرى بأن هذا الدستور يعبر عنه، سيخرج الملايين مرة أخرى لإسقاطه، حينها سيحاسبونكم وستصبحون فلول العهد القادم بعد أن كنتم ثوار هذا العهد. انسحبوا قبل فوات الأوان، وليكن فعلكم إيجابياً بتشكيل هيئة تأسيسية أخرى يمثل فيها كل المصريين لتكتبوا معاً دستور الثورة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق