اخر الاخبار

02‏/03‏/2011

من قاهرة المعز إلى الولايات المتحدة الأمريكية /د. منار الشوربجي



لو أن كاتب سيناريو كتب قبل شهور قليلة قصة تدور وقائعها فى ولاية أمريكية تندلع فيها مظاهرات كبرى، فتكون مصر هى الملهم الرئيسى للمتظاهرين، لقلنا وقتها إن الكاتب يهذى أو يعيش فى كوكب آخر. لكن مثل هذا السيناريو بات اليوم يصلح للأفلام التى تحمل عنوان: «حدث بالفعل
».
ففى ولاية ويسكنسن الأمريكية، خرجت مظاهرات حاشدة ضد حاكم الولاية الجمهورى سكوت واكر، المدعوم من حركة الشاى اليمينية، فالرجل منذ توليه خفّض الضرائب على الشركات الكبرى، بينما أجبر الاتحادات العمالية والمهنية على تقديم تنازلات تتعلق بالتأمينات والمعاشات، ثم راح يسعى من خلال المجلس التشريعى للولاية، الذى يسيطر عليه حزبه، لإصدار قانون يفرّغ دور الاتحادات من محتواه
.
لكن اللافت للانتباه هو أن تلك المظاهرات رفعت منذ اليوم الأول شعارات ولافتات تستلهم صراحة الثورة المصرية. ففى ولاية تشهد حاليا موجة صقيع، رفع المتظاهرون لافتة كتب عليها: «لم أكن أعرف أن جو القاهرة بهذه البرودة»، وأخرى كُتب عليها: «سيروا كما يسير المصرى»، وثالثة تسأل: «القاهرة فى ١٨ يوماً فماذا عن ويسكنسن؟
».
واللافتات التى حملها الأمريكيون مصدر فخر لكل مصرى، بعد أن صارت ثورته العظيمة مصدر إلهام لكل صاحب حق فى العالم. لكن يبدو أنه بينما استلهم الشرفاء فى أمريكا ثورتنا، فقد اختار تيار اليمين هناك أن يتعلم من عبقرية نظامنا السابق فى الاستبداد
.
خذ عندك مثلاً، أنه تم تنظيم مظاهرات «مضادة» خرجت لتأييد حاكم الولاية، الذى صرح بأنه تلقى مئات الآلاف من الرسائل المؤيدة له من «الأغلبية الصامتة»، بل أكثر من ذلك، فإن الملياردير اليمينى المعروف «إد كوتش»، الذى كان قد أنفق مبالغ طائلة لدعم انتخاب حاكم الولاية ــ نظم حملة دعاية مدفوعة الأجر لتأييده حين اندلعت المظاهرات
.
وفوق هذا وذاك، ثبت أن حاكم الولاية كان قد فكر جديا فى زرع بعض العناصر وسط المتظاهرين، لتقوم بممارسات من شأنها تشويه صورتهم وتأليب الرأى العام عليهم، لكنه تراجع فى اللحظة الأخيرة، ليس لأن ما فكر فيه يعرض حياة المشاركين فى مظاهرات سلمية للخطر، وإنما لأنه خشى أن يؤدى انفلات الأوضاع إلى موقف يضطر فيه للجلوس على مائدة المفاوضات مع المتظاهرين، بما قد يعنيه من تقديم تنازلات لهم
.
ليس هذا فقط، إذ تم استهداف شبكة الإنترنت، حيث تعرض للحجب فعلا موقع للمتظاهرين كان يحوى معلومات تنظيمية وإرشادية، كما تم فصل الشبكة تماما عن مكان اتخذه المتظاهرون مقرا رئيسيا لهم
.
ثم نشرت الصحف أن حاكم الولاية، سكوت واكر، هدد المتظاهرين باستخدام الحرس الوطنى لتفريقهم، وتحمس أحد مسؤولى الولاية من المؤيدين له فطالب باستخدام الذخيرة الحية. وكان نتيجة ذلك أن استحضر المعلقون الثورة المصرية فقالوا إن ولاية ويسكنسن فى انتظار «موقعة الجمل» على الطريقة المصرية، بينما ارتفعت اللافتات لتطلق على حاكم الولاية سكوت واكر اسم «حسنى واكر» وتدعو إلى «ترشيح مبارك حاكما للولاية»! أما قناة فوكس نيوز الإخبارية اليمينية، فقد ذكّرتنى بإبداعات التليفزيون الرسمى أثناء الثورة. فبينما كان استطلاع للرأى أُجرى فى ولاية ويسكنسن قد أكد أن ٦٢% من أبناء الولاية يؤيدون مطالب المتظاهرين، عرضت القناة اليمينية الاستطلاع فإذا بها تقول إن ٦٢% ضدها! ثم خرج الإعلامى اليمينى الشهير جلين بيك ليقول لمشاهديه إن هناك «ثلاث مجموعات تسعى لإقامة حكومة عالمية». والمجموعات الثلاث، وفقا للخواجة بيك، هى: «الأمم المتحدة، والإخوان المسلمون، واتحادات العمال فى أمريكا»! أى والله
!
والحقيقة أننى مع المحتجين فى ويسكنسن وغيرها من الولايات الأمريكية التى امتدت لها المظاهرات. فهم يدافعون عن قضية نبيلة تستحق دعم عشاق العدل والحرية فى شتى أنحاء العالم. والقضية واحدة فعلا، فالثورة المصرية اندلعت من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية معا، بعد أن سيطرت طبقة محدودة على الثروة والسلطة. وأمريكا ليست استثناء من حالة عالمية تشهد إفراطا فى الانحياز للرأسمالية المتوحشة على حساب الأغلبية الساحقة من المواطنين
.
والمفارقة الكبرى فى أحداث ويسكنسن هى أن الأداء الكارثى لليمين الأمريكى ضد تلك المظاهرات السلمية أثبت فساد افتراءات ذلك التيار التى صدع بها رؤوسنا. فهذا اليمين الذى فعل كل ذلك بالمتظاهرين فى ويسكنسن هو نفسه الذى لم يكف عن الزعم بأن الثقافة العربية الإسلامية تتناقض مع جوهر الديمقراطية، الأمر الذى يُستخدم طبعا لتبرير مزاعمهم حول ضرورة تصدير الديمقراطية الأمريكية.ولعلنى أطمئن اليمين الأمريكى، الذى بدا أحيانا وكأنه لا ينام الليل حزنا على غياب الديمقراطية عندنا وتوقا لتقديم خدماته لنا على ظهور الدبابات.. أقول لهم نحن بخير طالما أننا لا نتعلم منكم،
فالعالم، بما فيه الولايات المتحدة نفسها، يعج بالتجارب الإنسانية الملهمة التى تستحق أن نتعلم منها. فحركة الحقوق المدنية الأمريكية ألهمت فى الستينيات العالم أجمع. أما الذين يزرعون البلطجية وسط الشرفاء ويستخدمون المال لتزوير الواقع، سواء هنا فى مصر أو فى أمريكا أو فى أى مكان فى العالم، فلا يجوز إلا أن نخضعهم للدراسة باعتبارهم كائنات يهمنا أن نعرف أسباب انحرافاتها
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق