اخر الاخبار

19‏/03‏/2011

«التعديل» في الميت حرام.. أليس كذلك يا «إخوان»؟!

جمال فهمي

في آخر مرة تمتعت فيها بالإقامة المجانية في سجون عصابة الأستاذ حسني مبارك حاورني عنوة ضابط من قطعان مباحث أمن الدولة (التي ذهبت في ستين داهية قبل أيام)، وفي سياق كلامه المنقوع في اللزوجة وجدته يسألني فجأة متوسلاً بنوع من التذاكي الغبي: ألست ناصرياً ويسارياً؟ قلت نعم، أنا كذلك فعلاً ما لم يكن لجنابك رأي آخر.

لم يفهم الشطر الثاني من إجابتي فاضطررت لتكرار الشطر الأول فقط، غير أنه عاد وسألني بينما شبح ابتسامة صفراء يظلل وجهه الكئيب.. طيب وهو في رجل ناصري يساري يكتب مدافعاً عن «الإخوان» كما تفعل أنت؟!.. استطعبت وقلت له:
ـ أي «إخوان» تقصد؟!
ـ الإخوان المسلمين يا أستاذ.. كيف وأنت الناصري تدافع عن هؤلاء الناس؟!
هكذا هتف متصنعاً الانفعال والحماس فقررت أن أغيظه وأسلي نفسي قليلا فرددت  على الفور سؤاله بسؤال وقلت له: هل عند سعادتك «كتالوج» بمواصفات الناصريين واليساريين يخلو من الدفاع عن حق «الإخوان» أو غيرهم في التعبير عن أفكارهم وآرائهم حتى لو كانت هذه الأفكار والآراء تختلف أو تتصادم مع أفكارنا ومواقفنا؟!.
ومازلت أذكر أنني أنفقت وقتاً طويلاً جداً مع هذا الرجل المباحث وأنا أشرح له معني كلمة «كتالوج» ومعني صياغة سؤالي  على هذا النحو.. وقتها كذب وطمأنني أنه فهم خلاص ما أقصد ثم اكتفي بالقول: يا أستاذ «الإخوان»اللي أنت بتدافع عنهم دول لو وصلوا للحكم ح يذبحوكم من غير رحمة.
تجاهلت غباوته المتأصلة وجهله العميق وقلت له بمنتهي الجدية ما معناه:
ـ هناك مشكلة حقيقية أعاني منها وأنا أتكلم معك الآن خلاصتها أنني وأمثالي ، وجنابك وأمثاله نكاد نكون من كوكبين مختلفين يسكنان في مجرتين تسبحان بعيداً عن بعضهما في هذا الكون الفسيح، لهذا أنت لن تفهمني أبداً.. ومع ذلك دعني أقول لك إننا لسنا كهؤلاء الذين تعمل حضرتك في خدمتهم.. فأمثالنا يؤمنون إيمانا صادقاً وعميقاً بقيم الحرية والديمقراطية التي جوهرها التنوع والاختلاف وكفالة حق الجميع في التعبير عما يعتقدون مهما كان وبلا موانع أو قيود سوي تلك المبادئ العليا التي صارت مستقرة في الضمير الإنساني مثل نبذ التحريض  على العنف والكراهية أو التمييز بين الناس  على أساس اختلاف أجناسهم وأعراقهم وألوانهم وأديانهم وعقائدهم، وعليه فإن كل من يؤمن بقيم الحرية والديمقراطية لابد أن يكون لسان حاله دائماً: «أنا مستعد أنا أدفع حياتي ثمناً لحقك في إبداء الرأي الذي قد اختلف معه أو يناقض معتقداتي وأفكاري».
قلت هذا ونظرت إلى سحنته الشمعية الباردة فوجدتها زادت برودة وانحفرت عليها سيماء وملامح بلاهة أضحكتني، لكني قطعت الضحكة وباغت الرجل المباحث بسوال كانت إجابته أول وآخر كلام صادق يتلفظ به في كل هذا الحوار العقيم.. قلت له:
ـ إذا وصل الإخوان للسلطة ودبحونا ـ كما تقول ـ أين ستقف أنت يا تري؟ معنا أم معهم؟.
ـ يا أستاذ إحنا دايما مع اللي بيحكم.. يعني ح نفذ أوامرهم وندبحكم ذبحا حلالا إن شاء الله.. هي دي شغلتنا.
هذه العبارة وهذا المشهد استعدته وأنا أتابع وأتأمل بمزيج من الدهشة والشفقة ذلك الموقف التاريخي (تاريخي هنا بمعني إنه تكرار ملل لمواقف تاريخية مماثلة) الذي تتخذه الجماعة حالياً من ثورة الشعب المصري من أجل الحرية والكرامة ذلك الذي تصاعد وتكثف وتجلي في تأييد السادة الإخوان ترقيع جثة دستور نظام مبارك الذي أسقطه الشعب .
فأما الشفقة فمرجعها إلى كل هذا البؤس الفكري والعقلي (حتي لا أقول الخلقي) الذي يجعل جماعة تنسب نفسها للإسلام تحتفظ لمدة ثلاثة أرباع قرن بهذا القدر من الجمود ومعاندة التطور وعدم التعلم من خطايا وأخطاء الماضي.
أما الشعور بالدهشة والعجب فلا يملك المرء مهرباً منه وهو يري إخوانا «الإخوان» ورمش واحد لا يهتز في أجفانهم بينما هم يقفون في خندق واحد وعلاقة شراكة واقعية مع مخلفات نظام مبارك أو ما يسمي «الحزب الوطني» الذي يؤنس الآن وحدة الجماعة وانعزالها (مع توابعها) بعيداً عن كل قوي وتيارات وأطياف المشهد السياسي الوطني، إذ يجمعهما موقف التأييد الصاخب للتعديلات الترقيعية الدستورية التي لا هدف ولا غاية لها إلا مراوغة أهداف الثورة وإهدار دماء الشهداء بمحاولة الالتفاف  على أهم مطالب الشعب وهي الاجتثات التام لكل أسس ومرتكزات النظام الفاسد البائد.. دستوراً ومؤسسات وسياسات.
ولعل ما يعزز مشاعر الشفقة ويجعلها تتغلب على أسباب القرف من موقف "الجماعة" هذا ، أن ضيق الأفق والانتهازية اللذين ينزان منه إنما يستندان إلى أوهام وقراءة مغرورة وجاهلة للواقع وخريطة القوي في المجتمع فضلاً عن الوعي الشعبي المتألق الذي كشفت عنه الثورة المجيدة.
فبينما بدا واضحاً لكل صاحب بصر وبصيرة أن القطاع الأكبر والأوسع من المصريين بات يستطيع التمييز (بدرجة معقولة من السهولة) بين الدين وقدسيته وبين المتمسحين في هذه القدسية ولا يتورعون عن ابتزالها في صراعات السياسة، فإن جماعة الإخوان وأتباعها سعت لاستباق التغيير والتفاعلات المستجدة التي أطلقتها الثورة فقررت انتهاز اللحظة الراهنة للافلات «بصفقة جديدة» مع من بيدهم الأمر الآن تمكنها من استخدام ميزة أنها الوحيدة تقريبا بين سائر القوى السياسية الوطنية التي التمتع بتنظيم عصبوي متورم ومغلق في حصد أو «نشل» نتائج انتخابية تفوق بمراحل حصتها ونفوذها الحقيقيين في المجتمع والانسلال بهذه بالغنيمة من خلال جمعية ناخبين مهترئة ومعيوبة ومزورة من المنبع جري تلفقيها في ظل النظام الفاسد والرئيس المخلوع.
إنه الوهم فعلاً .. لكن للأسف هناك ثمناً باهظاً دفعه ومازال يدفعه الوطن بسبب هذا النوع من الأوهام وذاك الجنس من «الجماعات» التي ربما لا يفوق جمودها وتخلفها إلا ضعف التزامها بالمبادئ ومصالح المجتمع والناس فيما هي تغتصب شعارات الانتساب للدين الحنيف.
إنه أمر محزن ومؤسف حقاً لا تخفف من وطأته على النفس حقيقة أن دروس التاريخ تقطع بأن «جماعة الإخوان» كانت دائماً في طليعة من يدفع ثمن التساهل الأخلاقي والبؤس العقلي والانتهازية السياسية.. ولا حول ولا قوة إلا بالله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق