اخر الاخبار

02‏/03‏/2011

د. يوسف زيدان يكتب: الآفاق المصيرية للثورة المصرية (٢/٧) .. سيولُ الثورةِ وأنهارُ النهضةِ



متى يصير السيلُ المنهمرُ نهراً، وكيف تكون فورةُ الثورة مقدمةً للنهضة؟ .. قبل الخوض فى هذا الموضوع، تجب الإشارةُ إلى أن مقالة الأربعاء الماضى التى ابتدأتُ بها هذه «السباعية» مسلِّطاً الضوء على فحوى (الديمقراطية) لفظاً ومعنى، كانت فى حقيقة أمرها محاولة لتوجيه الأنظار إلى ضرورة الحفاظ على «قوة الثورة المصرية» خشية أن تتفرَّق سيولها العارمة فى الأرض بدداً، بسبب ظنِّ البعض منا بأن (الديمقراطية) المرجوَّة هى العصا السحرية التى يمكن أن تفعل بذاتها المعجزات. مع أننا رأينا فى بلدنا وفى البلاد التى تثور اليوم من حولنا، أو سوف تثور غداً، أن الأنظمة الديكتاتورية كانت تحكم باسم «الشعب» وتحت راية الديمقراطية، ادعاءً وكذباً وزوراً
.
ففى مصر حكم الحاكمون ونهب الناهبون تحت مظلة (الحزب الوطنى، الديمقراطى) وفى تونس ساد الفساد تحت راية (حزب التجمع الدستورى، الديمقراطى) وادَّعى حاكم اليمن الحالى لحزبه «الشعبى» مبادئ ستة، وجعل اسمه (حزب المؤتمر الشعبى العام: وحدة قومية، وحدة عربية، تنمية، ديمقراطية، تسامح، وسطية) وفى ليبيا جعل القذافى من «الشعب» عنواناً للدولة (الجماهيرية الشعبية الاشتراكية العظمى) وتفنَّن من بعد ذلك فى تبديد ثروات البلاد وفى أذية العباد.. وهذه كلها، وغيرها كثيرةٌ، دلائلُ حاسمةٌ على ابتذال مفردات «الديمقراطية» و«الشعب» و«الوطنية»، وجعلها عنواناً زائفاً لأنظمةٍ ظالمةٍ لحكامٍ ظلوا طويلاً يتربعون فوق قمة التلِّ المختلِّ، حتى جرفتهم مؤخراً سيولُ (الثورة) الداعية للحرية الحقة، والديمقراطية القويمة
* * *
.
والثورات كالسيول الجارفة، تبدأ بالرذاذ الذى يتساقط متفرِّقاً من السماء الملبَّدة بالغيوم، ثم لا يلبث أن يتكاثف فى قطرات منذِرة بانهمار السيل العارم.. ومن هنا قالوا قديماً: أول الغيث قطرة، ثم ينهمر
.
وعندما تطاير فى مبتدأ الأمر رذاذُ الثورة المصرية، ظنَّ الذين يحكمون مصر، ويمصُّون دماءها، أن الأمر محضُ حوادث عابرة، سوف تمرُّ سريعاً ويهنأ من بعدها الحاكمون، ويرث الوارثون، ويرتع الناهبون.. مع أن هذه المقدمات الثورية (الرذاذ) كانت تتوالى تباعاً، من فوق السطح المصرى ومن تحته. فكان منها حوادثُ «مشهورة» ومشارٌ إليها، وأخرى «خافتة» تختبئ تحت الركام السياسى، مثلما يكمن الجمرُ فى قلب الرماد
.
ومن هذه المقدمات (المشهورة)، المشار إليها سراً وعلانيةً، أمورٌ مثل: إتمام الرئيس مبارك لأعوامه الرئاسية الثلاثين، والسعى الحثيث لتوريث الرئاسة لابنه؛ وهو ما كان يقدح فى حقيقة النظام «الجمهورى» فى مصر، ويحذف من القاموس السياسى مفاهيم الجمهورية والديمقراطية واحترام إرادة الشعب، فضلاً عن نمط الحياة «الملكية» لا الجمهورية، التى يعيشها الرئيسُ وأسرته والحاشية الفاسدة المحيطة به، وسُكناهم القصور الشاهقة التى انتزعها «الضباط الأحرار» من أصحابها، والقصور الشهباء التى تم بناؤها لاحقاً بأحجار القهر والنهب المنظم لثروات البلاد. فى وقتٍ صار فيه ملايين من المصريين يعيشون فى المناطق العشوائية والقرى المنسية، ويُطردون من شوارع المدن فى الأوقات التى تمرُّ فيها مواكبُ (الحاكمين) كيلا تتأذَّى عيونهم برؤية أناسٍ (محكومين) غير مرغوب فى رؤيتهم، وهو الأمرُ الذى وصل يوماً فى الإسكندرية إلى الحدِّ الذى أُوقفت فيه الشوارع كلها، وقد احتبست بها الناسُ من دون أن يجدوا سبيلاً للمرور. يومَها وضعتْ الحاملُ وليدَها على الرصيف، وتعالت صرخاتُ الأطفال الجائعين العائدين من المدارس، وهطلت دموع الأمهات جزعاً عليهم. وما كان ذاك كله إلا لضمان العبور الآمن لموكب الرئيس (المصرى) بحبس خمسة ملايين إنسان (مصرى) فى البيوت والطرقات، من قبل الظهيرة إلى ما بعد الغروب
.
ومن جملة المشهور والمشار إليه من مقدمات الثورة المصرية التى بدأ انفجارها يوم الخامس والعشرين من يناير: مآسى وتعاسة الانتخابات الأخيرة لمجلس الشعب، الحرصُ الحكومى على إذكاء نيران الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، النظرُ بازدراء إلى المعارضين للنظام الحاكم، ازديادُ النهب المنظم للأراضى، افتضاحُ الثمن البخس فى عقد «مدينتى» وفى اتفاق «تصدير الغاز لإسرائيل».. وغير ذلك كثير
* * *
.
ومن وراء ما سبق، ومن أمامه، تتالت المقدماتُ (المستترة) المنذرةُ بانهمار سيول الثورة. فإذا كانت ثورة الشعب التونسى، بحسب ما اشتهر عند الناس، قد انطلقت شرارتها لأن الشاب «البوعزيزى» صبَّ على نفسه البنـزين وأشعل النار اعتراضاً على ظُلم الشرطة. فقد حدث فى الإسكندرية، الصيف الماضى، أن ضابطاً سخيفاً فى الشارع الهادر المسمَّى (خمسة وأربعين) بمنطقة سيدى بشر «القِبلية» البائسة، أوقف شاباً يعمل فى المركبة التى يسمِّيها المصريون (التوك توك) وأراد أن ينتزع منه المركبة لأنها لا تعلِّق لوحة أرقام، فهدَّد الشاب بأنه سيحرق نفسه إن حدث ذلك، لأنه لا يملك لكسب قوته وقوت أسرته إلا ذلك «التوك توك» الذى اشتراه أصلاً بالتقسيط، ولم يسدِّد ثمنه بَعْدُ. وإمعاناً فى استعطاف الضابط وإشعاره بهول العواقب، صبَّ الشابُّ المصرى على نفسه البنـزين، فضحك الضابط ساخراً، ومَدَّ له «الولاعة» استخفافاً، فقام الشاب بإشعال النار فى نفسه، ومات. وانتشرت الواقعة بين ملايين الناس فى الإسكندرية وما حولها، مع أن الإعلام (المصرى) تجاهلها
.
ومن تلك المقدِّمات المستترة: قمعُ الشرطة لأولئك المتظاهرين ضد حملة التوريث فى الإسماعيلية، وقتل اثنين منهم.. محاكمةُ المهندس الذى كتب على الجدران (لا للتوريث) بتهمة ازدراء الرئيس.. تأخُّر سن الزواج بسبب الصعوبات الاقتصادية.. البطالةُ الصريحة والمقنعة.. التحايلُ الحكومى لتغطية الجريمة التى وقعت فى منطقة سيدى جابر بالإسكندرية، عندما قتل «المخبرون» الشاب خالد سعيد.. هيجانُ خواطر المتفاعلين على الإنترنت.. الاحتقارُ الذى عَمَّ وطمَّ، وصار قاعدةً للتعامل مع المحكومين.. تزايدُ معدلات «القراءة» بشكل لافت فى السنوات الأخيرة.. ظهورُ جيلٍ يسعى للمعرفة الحقة، ويفتش عنها بينَ أوراق الكتب التى تستحق أن تُقرأ، وصفحات الإنترنت التى تستحق أن تُزار
* * *
.
الثورة المصرية إذن، لم تكن حدثاً مفاجئاً إلا بالنسبة لأولئك الذين تَعَاموا عن التعامل مع مقدِّماتها، وتجاهلوا (القطرة) التى يبدأ بعدها السيلُ و(الحسرة) التى تملأ نفوس الناس فى عموم الأنحاء المصرية. ولذلك، فمع أن «ميدان التحرير» صار رمزاً لثورة المصريين، إلا أن هطول السيول الثورية جرى تحت سماء مصر كلها، وكان اندفاق مياهه الهادرة فى السويس من قبل القاهرة، وفى الإسكندرية من قبل بورسعيد، وفى الدلتا من قبل الوادى.. وخلال أيام قلائل غمرت سيولُ الثورة أرض مصر كلها
.
والمولَعون بإطلاق التسميات، جعلوا من (الشباب) عنواناً لهذه الثورة، من دون اعتبار إلى أن مبادرة الشباب المصرى جاءت بحكم «طبيعة» هذه الشريحة العمرية، الدافعة إلى التقدُّم بخطوة أو اثنتين، لأن الشباب شعلة، وما لبثت أن لحقت بها الجموعُ المصرية على اختلاف شرائحها العُمرية، وتوجُّهاتها الفكرية، وأطيافها الاجتماعية، فاكتسب السيلُ المصرى، حسبما ذكرتُ فى مقالة نُشرت هنا فى غمرة الأحداث العارمة: المعنى الحقيقى، والأصيل، للثورة
.
غير أن السيول تكون نافعة، حين تشقُّ لنفسها مجرى للمياه، فلا تتبدَّد مياهها. وهى تكون ضارة، بالقدر الذى لا تجد فيه هذا المجرى الجامع للمياه، فتكثر أضرارها حين تكتسح السهول والوديان.. والحال كذلك فى الثورات، التى إذا لم يصبح لها مسارٌ تتدفَّق فيه قوتها لتكون نهراً يَهِبُ النماءَ والخضرة للمستقبل الآتى، فإنها تضرُّ بأكثر مما تنفع، وتدمِّر من دون قدرة على البناء
* * *
.
نأتى ثانيةً للسؤال: متى يصير السيلُ المنهمر نهراً، وكيف تكون فورة الثورة مقدِّمة للنهضة؟ .. إن إجابتى عن هذا السؤال (مع أن الأسئلة عندى أهمُّ، وأحبُّ، من الإجابات) تبدأ عند إدراكنا للحقائق والبديهيات التالية
:
لا يوجد سيلٌ ينهمر بلا نهاية، ولا توجد ثورةٌ تنطلق بلا غاية. والعبرة فى هطول السيول تكون بقَدْر الماء الهابط من السماء. والقيمة الحقيقية لكل ثورة تُقاس بقدرتها على تحقيق غايتها، والارتقاء بالثائرين إلى واقعٍ أفضل.. وقد استهدفت ثورتنا المصرية غايةً كانت تبدو بعيدة المنال، هى (إسقاط النظام) ابتداءً من خلع «الرئيس» ومروراً بقطع رؤوس «الفساد» وانتهاءً بضمان حياة كريمة للشعب
.
ولم يكن انزواءُ الرئيس مبارك، بخلعه أو تخلِّيه أو تنحِّيه أو رحيله، أمراً هيناً. بصرف النظر عن تسمية هذا الفعل الذى تحقَّق، وعن ذلك اللَّغَط الدائر بيننا اليوم حول: هل يحكم (مبارك) من شرم الشيخ، أم هو قد اختفى بالفعل من المشهد السياسى؟ فهو لَغَطٌ لا طائل تحته. فالرئيسُ مبارك صار برغبته أو رغماً عنه (الرئيس السابق) ولم يعد هناك أىُّ مجال لمجرد التفكير فى عودته، أو فى أن ابنه المدَّعى «جمال» سوف يكون يوماً رئيساً لمصر، أو لأىِّ بلد آخر. وقد اقترن بذلك سقوطُ حكومة «نظيف» إلى غير رجعة، وتساقُطُ قرابة العشرين من رموز الفساد السابق فى مصر (من أمثال: العادلى، عز، جرانة..) وإيداعهم فى الحبس، وحبس أموالهم إلى حين الانتهاء من محاكمتهم ومحاسبتهم. وأظنُّ أن عشرين آخرين من هؤلاء «الرموز» سوف يلحقون قريباً بمن سبقهم، فتوضع أيديهم فى الأغلال وتُغلُّ عن التصرُّف فيما نهبوه من أموال البلاد والعباد.٠ والبناياتُ الضخمة، كما قال شوبنهور، عسيرٌ رفعها إذا هوت، وسقوطها لا يكون إلا مروِّعاً
.
وباستثناء الذين قَتلوا أو تمَّ القتلُ بأوامر منهم، فإننى لا أرى أىَّ داعٍ للفتك برموز الفساد السابق أو الانتقام منهم. بل أرى أن هؤلاء الناهبين السالبين، ممن هم اليوم فى قبضة العدالة أو ممن سيقعون قريباً فى قبضتها، يجب أن نستردَّ منهم ما سلبوه ونهبوه، ثم نُلقى بهم فى مزبلة النسيان، كى نلتفت إلى الأهمِّ من الهدم (البناء) والأجدى من الفتك (التحضُّر) والأليق من الانتقام (اللحاق بقافلة التقدم) .. لا سيما أن العالم ينظر اليوم إلينا، ليرى ما سوف يفعله المصريون بثورتهم، وإلى أين سيتَّجهون بها
* * *
.
ومن الحقائق والبديهيات المهمة، الواجب علينا مراعاتها فى أيامنا الحالية، ضرورةُ الانتباه إلى تلك «الروح الثورية» التى صبَّتْ مؤخراً فى نهر التحضر، وظهرت فى مبادرات أولئك الذين يقومون اليوم بتجميل المدن المصرية، وتنظيفها وإعادة الألق إليها، بدهان الحوائط والأرصفة، وتنظيم المرور فى شوارعها.. فهؤلاء عندى هم الامتداد الحقيقى للثورة المصرية، وهم حقاً روح «الورد اللى فتَّح فى جناين مصر» وليس فقط فى ميدان التحرير بالقاهرة وحىِّ الأربعين بالسويس وساحة «القائد إبراهيم» وطريق الكورنيش بالإسكندرية
.
ويلحق بهؤلاء الثوريين الراشدين، الذين تتراوح أعمارهم حول حدود العشرين، أولئك الذين سارعوا إلى العمل عندما سنحت أول فرصة، وانهمكوا فى أعمالهم مجتهدين ومُدركين أن الروح الثورى الذى توهَّج قبل شهر فى الميادين الهادرة يجب أن يصبَّ فى أنهارٍ واعدةٍ بالخضرة والإثمار
.
ولكن، وعلى النقيض من هؤلاء الذين امتدَّت فيهم الثورة المصرية على نحوٍ رشيد، نجد فريقاً من المصريين يهينون الثورة، ويبدِّدون قوتها فى أرض الابتذال والسماجة. فمن هذا الفريق جماعات معطِّلة لثمار الثورة، مبدِّدة لسيولها العارمة. من أشهرهم اليوم جماعة (المتظاهرين للأبد) الذين يجب الوقوف قليلاً عندهم
:
ارتاح البعض ممن شاركوا فى اهتياج الثورة إلى حالة التنفيس عن الغضب النبيل، الداعى إلى إنهاء الظلم، ثم نسوا أن حالة الاهتياج الثورى إنما هى حالةٌ مؤقتة، لابد أن تتلوها حالاتٌ رشيدة لا تتم فى الميادين والشوارع، بل تكتمل فى مجالات العمل ببذل المزيد من الجهد، ورسم خطط الإصلاح (الحقيقى) للأحوال العامة، ومراقبة الخطى الساعية للنهوض بالبلاد من كبوتها.. لكن هؤلاء «المتظاهرين للأبد» لا يحبون بذل المجهود أو متابعة المشهود أو العكوف على رسم ملامح المستقبل، وكأنه قد طاب لهم التبطُّل عن العمل والتعطُّل عن الإنجاز، فصاروا يتمنون قضاء العمر جالسين فى الطرقات، رافضين لكل الحلول حتى لو كانت حلولاً عاجلة ومؤقتة
.
والأعجب فى أمر هؤلاء أن فريقاً منهم لم يكن أصلاً مشاركاً أحداث الثورة، وإنما كان متصلاً بها كواحد من أعضاء الحزب المسمَّى الآن على «الفيس بوك» باسم (حزب الكنبة). وهى تسمية هزلية تسخر من هؤلاء الذين اتخذوا أيام ثورة المصريين موقعاً استراتيجياً أمام شاشات التليفزيون. وكان أقصى جهد بذلوه هو القيام لعمل كوب شاى أو فنجان قهوة، والعودة بسرعة إلى الكرسى أو الكنبة، لمتابعة ما يجرى على الساحة المصرية عبر شاشات التليفزيون، ثم التحدث حول الأمور العامة مع معارفهم فى التليفونات المحمولة.. وقد أدرك هؤلاء بعدما اتضحت الرؤية وانزوى الرئيس أنه يجب عليهم القيام بأمرٍ ما، من دون النهوض من فوق (الكنبة).. كأن يرفضون بالتليفون كل حَلٍّ مقترح لإصلاح الأحوال المتردِّية، التى ساءت بسبب قعودهم الدائم على أى (كنبة) أو (مصطبة سلطوية) من قبل قيام الثورة، ومن بعد نجاحها. والمثال على هؤلاء هذا «المندوه» دوماً فى برامج التليفزيون لتقديم تحليلاته المتقلِّبة التى تصيب الناس بالدوار، وذاك «الكاتب» الذى لم تكن الناس تقرأ ما يكتبه، وكان قد انزوى من قبل قيام الثورة وظل أثناء احتدامها صامتاً، وفجأة، خرج على وسائل الإعلام ليرفض كلَّ شىء، ويُدين كل وزير فى الحكومة المؤقتة، ويهاجم كل إنجاز تم فى السنوات الماضية.. حتى لو كان إنجازاً بحجم، وأهمية، مكتبة الإسكندرية
.
ومن علامات (النفاق) فى موقف هؤلاء الراغبين فى امتداد التظاهر للأبد أنهم من بعد طول سكوت وكثرة تعامل مع رموز الفساد السابق، صاروا فجأة مادحين للشباب الذى ابتدأ الهياج الثورى، فنراهم دوماً يصفون هذا الشباب بأنه (رائع) وهى كلمة تعنى فى فصيح العربية معانى سلبية، وكان الأليق بهم ما داموا يريدون النفاق والمديح الذى لا يحتاجه الشباب أصلاً، ولا يلتفتون إليه، أن يصفوه بأنه (بديع) لأن الرائع تعنى المخيف والمرعب، ومن هنا نقول: روَّعنى هذا.. هذا مروِّع.. ترويع الآمنين.. إلخ
.
ومن تجلِّيات هذا النوع المناقض للثورة، الداعى إلى (التظاهر للأبد) قيامهم بالتظاهرات المطالبة بتحقيق الفوائد الجزئية المسمَّاة «المطالب الفئوية» التى لم تلبث أن صارت مؤخراً «مطالب شخصية».. فهذا الموظف تذكر فجأة أن رئيس المؤسسة التى يعمل بها كان قبل سنوات قد تخطاه فى الترقية، وذاك العامل (المظلوم) الذى انتبه بعد حين إلى أن زميله يتقاضى راتباً يزيد على راتبه، ولا بد على زعمهم من العدل، حتى لو كان هذا (المظلوم) لا يقوم أصلاً بما عليه من واجبات العمل
.
ومن تلك التجلِّيات صخبُ المطالبين بإسقاط كل رئيس.. فما دام الرئيس مبارك قد سقط مع نظامه الفاسد، فالواجب أن يسقط من بعده كل رئيس، حتى لو كان رئيس جماعة من عمال نظافة، أو مشرفاً على مجموعة عمل صغيرة، أو رئيس وحدة محدودة العدد بإحدى المصالح الحكومية.. لأن الثورة فى وعيهم القاصر، ما دامت قد نادت بإسقاط (النظام) فلا بد من انهيار جميع النظم وإحلال (الفوضى) فى الأنحاء كلها
* * *
.
وبعدُ، فقد أوشكتْ المساحةُ المخصَّصةُ لهذه المقالة على النفاد، ولا يزال هناك عديد من الظواهر السلبية المحيقة بالثورة المصرية، المهدِّدة بإهدار سيولها العارمة فى الأرض بدداً.. ولسوف نعود، الأربعاء القادم، للكلام عن بقية الجماعات التى تعوق تحقيق الخير المنتظر من الثورة، وعن مبدأ (سلب السَّلب) الذى سوف أستعيره من الفلسفة الماركسية. وهى فلسفةٌ مهمة لا أحبها، ولكنى أحترمها

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق