اخر الاخبار

23‏/03‏/2011

سقط النظام ولم تسقط أساطيره


يبدو لى أن هناك من لم يدركوا بعد مغزى الثورة ولا ما ثار الناس من أجله أصلا، فالبعض يردد مقولات من مخلفات النظام السابق، إما عمدا أو دون وعى بدلالاتها

.
خذ عندك مثلا الحديث عن «الأغلبية الصامتة» الذى يتردد كثيرا هذه الأيام. وحكاية الأغلبية الصامتة تلك لاديمقراطية بامتياز. فهى تعبير لم يستخدمه تاريخيا إلا من خسروا معركة الديمقراطية، فالرئيس الأمريكى السابق نيكسون كان ممن أبدعوا فى استخدام ذلك التعبير فى وجه الاحتجاجات التى انفجرت ضد حرب فيتنام ثم ممارساته اللاديمقراطية. ورموز نظامنا السابق استخدموه أيضا بينما هم يدبرون للإجرام الذى سميناه موقعة الجمل، ولا يُستخدم هذا التعبير إلا من أجل ترهيب الأصوات التى ترفع المطالب الديمقراطية عبر الزعم بأنها لا تمثل إلا قلة محدودة وسط الأغلبية التى هى صامتة! والذين يرددون هذا التعبير عليهم أن ينظروا لطوابير الاستفتاء، فالذى يظل صامتا حتى الآن لن يتكلم أبدا بالمناسبة. ثم ما الذى يدعو من يرفض شيئا اليوم للصمت بعد انهيار جدار الخوف إلا إذا كان ما يرفضه حقا هو سقوط النظام السابق؟
ومقولة الأغلبية الصامتة من ميراث النظام السابق مثلها مثل مقولات كثيرة غيرها يجمع بينها أنها تتسم بدرجة عالية من احتقار المصريين أو الاستخفاف بعقولهم. من ذلك ما لايزال البعض يردده حاليا من أن بسطاء المصريين قد يدفعون بنا من خلال تصويتهم إلى الهاوية أو إلى الدولة الدينية، وتلك مقولة نخبوية مغالية فى غطرستها يؤمن من يرددها أنه أذكى من باقى المصريين
.
وهى تنويعة من تنويعات المقولة الشهيرة للنظام السابق التى زعمت أن الشعب المصرى ليس مؤهلا لممارسة الديمقراطية، ويبدو أن الذين يرددون هذه المقولة لم يستوعبوا بعد أنه يستحيل على من ثاروا على الاستبداد والفساد أن يقبلوا الوصاية على المصريين تحت أى مسمى، ولا أعرف من أين جاءت لهؤلاء تلك الثقة المفرطة فى أنهم يفهمون أكثر من ملايين المصريين الذين خرجوا للشوارع وعبروا عن ذكاء ووعى فطرى فذ، أثار اهتمام العالم. ثم من الذى قال إن الناس الذين نزلوا للشوارع لإسقاط النظام كانوا كلهم من حملة الدكتوراة أو حتى من حملة الشهادات العليا؟ ألم تكن كل فئات وطبقات الشعب المصرى حاضرة؟ وهل اقتصر السلوك السياسى الحضارى وقتها، بل طوال يوم الاستفتاء، على الطبقات العليا والمثقفين؟
وكما كان النظام يردد مقولات ما أنزل الله بها من سلطان، فقد قام أيضا بصناعة الكثير من الأساطير. لكن الغريب أن إسقاط النظام لم يسقط تلك الأساطير. فلايزال الكثيرون يتحدثون عن الإخوان وكأنهم فعلا قاب قوسين أو أدنى من حكم مصر. فالنظام السابق صنع تلك الأسطورة لأسباب معروفة وهى تخويف الخارج والداخل من أن سقوطه سيعنى الدولة الدينية
.
ما لا أفهمه حقا هو كيف يتحدث البعض بالطريقة نفسها وبمنطق عهد سبق، بعد أن اندلعت ثورة كبرى لم تكن إخوانية، ولا كان الشباب الذى أطلق شرارتها الأولى إخوانيا وإنما كانت ثورة شاركت فيها مصر كلها بما فى ذلك الإخوان، والحقيقة أنه لا يوجد دليل واحد على أن الإخوان بإمكانهم الاكتساح لتولى السلطة إلا ما يقوله الإخوان أنفسهم وما كان يقوله نظام مبارك. والآن تحديدا أكثر من أى وقت مضى اختلف الأمر كثيرا لسببين، أولهما أن صاحب القدرة التنظيمية يكتسح بشرط عزوف الناس عن المشاركة وهو ما ثبت عكسه فى الاستفتاء، وثانيهما أن بعض رموز الإخوان تستحق جائزة هذه الأيام على قدرتها المبدعة على استفزاز الناس والاستخفاف بعقولهم
.
فأنت حين تقول مثلا إن برنامج حزب الإخوان سيقصر حرمان المرأة والأقباط من الترشح للرئاسة على الإخوان فقط بينما يحق للآخرين أن يرشحوا من يشاءون فى الأحزاب الأخرى، فإنك تعلن أنك ستنشئ حزبا يمثل دولة داخل الدولة، يعتبر نفسه فوق الدستور والقانون الذى يحظر التمييز بين المصريين. ثم إذا كنت تميز على أساس الجنس والدين، فما الذى يدعونا يا ترى لأن نتوقع منك ألا تفتش فى ضمائرنا مثلا لتميز بيننا على أساس مدى تديننا وفق معاييرك؟
لكن الأسوأ من ترديد مقولات وأساطير ما قبل الثورة هو سلوك من انتموا للنظام السابق، خصوصا الإعلاميين الذين كانوا جزءا من النظام ودافعوا عنه. فمن ظلوا يدافعون عن النظام السابق وينظرون له حتى آخر نفس قاموا فى اليوم التالى مباشرة بالحديث بكل إيجابية عن الثورة، ثم انطلقوا مؤخرا يُنظِّرون لها، وكأن المصريين بلا ذاكرة، وبينما يتبنى بعضهم خطابا خبيثا يدس السم فى العسل راح البعض الآخر يحكى لنا- بمناسبة وبلا مناسبة- عن المرات التى انتقد فيها النظام، وكأن أحاديثهم الإعلامية ومقالاتهم ليست موثقة، وهو تدليس يماثل تماما التواطؤ مع الاستبداد، وهؤلاء إذا ما أرادوا العودة للحياة العامة بكرامة فليدركوا أولا أنهم مدينون للشعب المصرى باعتذار صريح عن تواطئهم وسكوتهم على الفساد والاستبداد. وللمرة الألف، أقول لمن لم يفهموا بعد مغزى الثورة، احذروا الاستخفاف بالمصريين أو بعقولهم
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق