اخر الاخبار

29‏/06‏/2012

الغرائب الثلاث.. فى انتخابات الرئاسة بقلم جلال أمين



اعترف بأنى لم أذهب للإدلاء بصوتى فى انتخابات الإعادة، لأنى لم أجد أى سبب يدفعنى لانتخاب الدكتور محمد مرسى أو الفريق شفيق. كان (ولاتزال) لدى اعتراضات ومخاوف قوية من اعتلاء أى منهما منصب الرئيس، كما أنى لم تكن لدى ثقة كافية بنزاهة الانتخابات تدفعنى للاعتقاد بأن صوتى يمكن أن يكون له أثر على النتيجة النهائية.

لم أكن الوحيد الذى يفكر على هذا النحو، فلا عجب أن كانت نسبة الممتنعين عن التصويت عالية (بل أرجح أنها كانت فى الحقيقة أعلى مما اذيع). ولكنى من ناحية أخرى، أحترم الرأى الذى كان يقول بضرورة الذهاب للتصويت بالرغم من ذلك، ولو على الأقل لزيادة فرص النجاح لدى المرشح الأقل سوءا. أحترم هذا الرأى، وأحترم من قام باتباعه، ولكن هذا الاحترام لم يكن كافيا لتغيير موقفى.


ظللت خلال الأيام السابقة على إعلان النتيجة لا أستطيع الجزم (لا لنفسى ولا للآخرين) بمن سأرتاح لنجاحه لو نجح، أكثر مما ارتاح لنجاح الآخر. فكلما خطرت لى الأخطار التى يمكن أن تترتب على نجاح أحدهما، مرت بذهنى بعدها على الفور الأفكار التى ستترتب على نجاح الآخر. قبيل إعلان النتيجة بوقت قصير قررت وقلت لأفراد أسرتى إنى فى نهاية الأمر، أفضل فوز الدكتور مرسى (لأسباب سوف يتبينها القارئ فى بقية هذا المقال). فلما أعلنت النتيجة بفوزه بالفعل شعرت ببعض الارتياح ثم عاودنى القلق. ثم خطر لى بالتفكير فى القصة كلها، من بدايتها إلى نهايتها، أن هذه الجولة الأخيرة من الانتخابات تنطوى على غرائب كثيرة تستدعى التأمل، وسوف أختار ثلاثا من هذه الغرائب لعرضها على القارئ.

●●●

من كان يتصور فى 11 فبراير 2011، بعد النجاح فى إجبار رئيس الجمهورية على التخلى عن الحكم، وعن توريثه لابنه أن يكون الخيار المطروح علينا بعد سنة ونصف السنة، هو أن يكون رئيس الجمهورية الجديد إما الدكتور مرسى، أو الفريق شفيق؟

لم يكن هذا متصورا بالطبع لأن أحمد شفيق كان جزءا لا يتجزأ من نظام مبارك، الذى قامت الثورة لإسقاطه، ولأن محمد مرسى كان اسما مجهولا لغالبية المصريين، الثوار منهم وغير الثوار. (أنا شخصيا لم أكن أعرف بماذا أجيب لو سألنى أحد عن الدكتور مرسى فى 11 فبراير، ولا بماذا أجيب لو سئلت عن أحمد شفيق إلا بالقول بأنه كان وزيرا للطيران فى عهد مبارك ثم اختاره مبارك رئيسا للوزراء فى آخر أيامه، وأنه بدا غير متعاطف بالمرة مع الثوار خلال رئاسته للحكومة). كان من المتصور أن تتضمن الأسماء المطروحة أمام الناس لاختيار رئيس من بينها، اسما كالدكتور البرادعى، باعتبار أنه أعلن تعاطفه التام مع مبادئ الثورة من قبل قيامها، وجاء من الخارج للاشتراك فيها، والتفت حوله آلاف مؤلفة من الناس. كان من المتصور أيضا أن يكون من بين الأسماء المطروحة للاختيار منها، أسماء بعض الكتاب المرموقين الذين لم يكفوا عن الكتابة فى فضح نظام مبارك لعدة سنوات قبل سقوطها، وحازوا بسبب ذلك حب جماهير غفيرة من المصريين، أو أسماء بعض النشطاء السياسيين الوطنيين الذين عملوا لعدة سنوات قبل سقوط مبارك من أجل إسقاطه، كالمسئولين عن حركة كفاية أو الجمعية الوطنية للتغيير أو بعض شباب حركة 6 إبريل... إلخ.

ما الذى حدث لكى تستبعد كل هذه الأسماء؟ اختراع شرط أو آخر بقصد استبعادهم، أو تنفيرهم بطريقة أو بأخرى من الاشتراك فى منافسة مشكوك فى نزاهتها، فإذا أصر بعضهم على المشاركة حدث ما لم نخبر به لحملهم على الانسحاب.

انتهى الأمر إذن بعد سنة ونصف السنة بأن طلب إلينا أن نختار بين شخص لو جاء رئيسا لكان معنى هذا أنه لم تقم ثورة على الاطلاق، وبين شخص قيل إنه فى الحقيقة بديل لشخص آخر جرى استبعاده لسبب قانونى لم يكن من المفروض أن يستخدم ولاءه التام لجماعة لا تكف عن إعلان خصامها للعالم الحديث، والذى لا مفر لنا من التعامل معه.

●●●

ثانية الغرائب تتعلق بالصفات الشخصية للمرشحين اللذين بقيا للإعادة لقد بدأت المنافسة فى سباق الانتخابات بعدد كبير من المرشحين كان منهم عدد لا يستهان به من ذوى الجاذبية الشخصية بصرف النظر عن المواقف والأيديولوجيات التى يمثلونها. كان هناك الإسلامى المتشدد، والإسلامى واسع الثقافة، والسلفى الفصيح، والإسلامى المعتدل والمستنير، والوطنى الناصرى، والوطنى ذو السمعة الدولية الطيبة، واليسارى المتشدد، واليسارى المدافع عن حقوق الإنسان، واثنان ممن خدموا النظام السابق بصورة أو بأخرى. كل هؤلاء كانوا يتمتعون بصفات شخصية يطلق عليها أحيانا تعبير (الكاريزما) ضمنت لهم مؤيديين متحمسين. كيف اختفى هؤلاء، الواحد بعد الآخر، لتحل محلهم شخصيتان أقل منهم شعبية بكثير وأقل فصاحة وجاذبية؟ لقد دخل هذان الرجلان محمد مرسى وأحمد شفيق السباق فجأة، بعد أن قطع الآخرون أكثر من نصف الطريق، وكأنهما قد جرى تهريبهما تهريبا إلى داخل السباق لكى يقتصر الخيار عليهما فى النهاية.

إن فى الأمر شيئا مريبا بلا شك. فقد استبعد الآخرون لأسباب متباينة أشد التباين. نعم، هناك من ترك وشأنه اعتمادا على أنه، رغم حاذبيته الشخصية، لا يستطيع أن يعبئ عددا كافيا من الأصوات فلا يمثل تهديدا حقيقيا للآخرين. ولكن الآخرين تم استبعاد بعضهم لأسباب قانونية واهية استلزمت بحثا مضنيا فى الملفات القديمة، أو أوعز للآخرين بطريقة أو بأخرى بأن الانسحاب أفضل لهم. انتهى الأمر إذن ببقاء شخصين لم يستمرا فى السباق بسبب ما يتمتعان به من قوة الشخصية أو لاستقلال الرأى، أو الفصاحة أو القدرة على كسب قلوب الجماهير، بل لمجرد أنهما يستندان إلى دعم قوتين اجتماعيتين قادرتين على تعبئة الأصوات والموارد المالية الضخمة: إحداهما هى قوة النظام الذى ثار الناس عليه ولا يزال يكافح من أجل البقاء، وتدعمها مصالح المستفيدين من هذا النظام طوال الثلاثين عاما الماضية، وتطمع فى المزيد من الإفادة منه لو قدر له البقاء، والأخرى قوة جماعة قديمة ومنظمة تدعمها العاطفة الدينية لملايين من المصريين بصرف النظر عما يمكن أن تنتهجه هذه الجماعة من سياسات فى المستقبل.

●●●

وهنا تأتى ثالثة الغرائب، وهى أنه قبيل الجولة الأخيرة للانتخابات بيوم أو يومين، صدرت مجموعة من القرارات الحاسمة من المجلس العسكرى من شأنها إفقاد ذلك التنظيم (الإخوان المسلمين) الذى ينتسب إليه أحد المرشحين، أى قدرة حقيقية على التأثير فى أى قرارات مهمة. فقد صدرت قرارات بحل مجلس الشعب الذى تسيطر هذه الجماعة عليه، ونقلت للمجلس العسكرى سلطة التشريع، وأعطت له فضلا عن ذلك، حق الاعتراض على تشكيل اللجنة التى ستقوم بوضع الدستور وحق الاعتراض على أى مادة من مواد الدستور بعد وضعه، ناهيك عن انفراد المجلس العسكرى (أو من يحل محله من العسكريين) بسلطة اتخاذ أى قرار يتعلق بالحرب أو بالمؤسسة العسكرية.

هكذا أصبح الرئيس المنتخب (ديمقراطيا) محدود الصلاحيات لدرجة غريبة حقا، لا تتفق بالمرة مع القوة المتدفقة التى فجرتها ثورة يناير، مما يدفع المرء إلى التساؤل عما إذا كانت هذه الثورة فى الحقيقة قد أسفرت فى النهاية عن انقلاب عسكرى، لا أكثر ولا أقل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق