اخر الاخبار

28‏/06‏/2012

الديمقراطية الوليدة بين مُصيبتين ومُقاومتين بقلم عمرو عزت



أذكر جيدا، مساء 10 فبراير 2011 في ميدان التحرير، بعد خطاب المخلوع المستفز الذي حاول فيه التشبث بما لا يزال يلمسه من أطراف الكرسي.. انقسمنا: هناك من أعلنوا استمرار الاعتصام في الميدان حتى سقوط مبارك، وهناك من عزموا التوجه إلى قصر العروبة سَيرا على الأقدام، وهناك من توجهوا لمحاصرة ماسبيرو.
على رصيف الكورنيش المواجه لماسبيرو، جلست على الأسفلت يغلب على مشاعري الشعور بالشفقة الشخصية على مبارك وهيئته وخطابه المُزريين، لم أكن أعرف إن كان سيتنحّى قريبا أم لا، ولكن ما أعرفه أن ثورة تنطلق ويبدو أن هناك الآن ما يكفي من الثوار الذين لن يتراجعوا، وأن الطريق لا زال طويلا أمام هذه الثورة.


تجاذبت أطراف الحديث مع أصدقاء، كانت الأغلبية تشعر أن البائس سينزاح أو سيُزاح قريبا من فوق كرسيه، فتحدثنا عمّا بعد مبارك..
-.. إنْ قام الجيش بالاستجابة لنا وإسقاط مبارك، هل هناك قوة سيتركون لها إدارة المرحلة الانتقالية؟
-.. لا يبدو ذلك..
.. إذن، سيُدير الجيش البلد؟
.. يبدو ذلك
-.. يا دي المصيبة!
إنْ تمكنت الثورة من إفراز قوى وقيادات، يمكن الضغط لكي تدير المرحلة الانتقالية أو تنازع الجيش ذلك، ولكن على كلٍّ الثورة لا تزال في الشارع، لن يتمكنوا أبدا من إعلان انقلاب عسكري إن كنا لا نزال في الشارع متمسكين بضرورة بناء ديمقراطية جديدة.
ولكن من ستأتي به الديمقراطية الجديدة؟
-.. مممم إن لم تتمكن الثورة من إفراز قوى وقيادات جديدة، فغالبا سيفوز التنظيم الانتخابي الجاهز: «الإخوان».
-.. يا دي المصيبة!
حدثت كلتا المُصيبتان.. العسكر كانوا هم من أداروا المرحلة الانتقالية وقاموا بهندسة عملية العَك الديمقراطي، والإخوان تصدّروا السباقات الانتخابية كلها.. صحيح أننا نتنفس الصعداء لأننا لم نصل إلى الأسوأ، ولم تفلح كل محاولات العسكر، بالعك الديمقراطي أو بالانقلاب، في توصيل مندوبهم ومندوب الثورة المضادة، أحمد شفيق، إلى كرسي الرئاسة، ولكن علاقة العسكر بهندسة الديمقراطية بعد ثورة هي علاقة المخرّب الذي يريد تغليف الفشل وسوء النية والوصاية والتسلط بإجراءات قانونية وبيروقراطية وأحكام قضائية شامخة متزامنة في صدفة مستقلة تمام الاستقلال. وعلاقة الإخوان بالديمقراطية بعد ثورة تعبر عنها تصريحات محمد مرسي في لقائه بالمجلس العسكري، التي نقلت عنه وكالات الأنباء أنه شكر المجلس العسكري وأشاد بحكمته في إدارة البلاد واحترام إرادة الشعب.


ويبدو أنه يحق لنا أن نتساءل فعلا عن علاقة مرسي بالديمقراطية إن كان يرى أن ما حدث خلال العام ونصف العام الماضيين هو بناء ديمقراطية، وإن كان يقولها مجاملة فيحق لنا أن نسأله عن علاقته بالثورة التي كانت صلابتها في وجه أعدائها هو السبيل الوحيد لفتح باب الديمقراطية الذي سهر العسكر على غلقه سنواتٍ طوال.


في لقاء بين أفراد من قيادات حملة مرسي قبل جولة الإعادة، وبين مجموعة من المدوّنين والكتاب والنشطاء الشباب، كان بعض قيادات الحملة يحاولون تفهم ما دفع بعضنا لـ«عصر الليمون» قبل التصويت لمرسي، وتفهم دوافع بعضنا الآخر في المقاطعة أو الإبطال رفضا لكلا الخيارين.


قلت إنني لا أثق لا في قدرة تنظيم الإخوان على قيادة عملية ثورية ولا عملية ديمقراطية، هم فقط ناجحون في الفوز في الانتخابات، ولكن بناء الديمقراطية لأول مرة  يتطلب تفهما وإيمانا مبدئيا بالحريات لا أجده في الإخوان ولا قواعدهم الانتخابية التي تحتشد في مؤتمرات يصرخ فيها صارخون بنصر الإسلام وشريعته، بينما تحفل المؤتمرات الانتخابية مع «النخبة» بكلام عن مدنية الدولة والحريات والديمقراطية.


التنظيم، الذي يرى في الديمقراطية وسيلة سلطة وأداة في يد التيار الإسلامي لتقويم المجتمع، لا يصلح لبناء ديمقراطية حقيقية تكون أداة المجتمع لتقويم السلطة وتغييرها وصد تغوّلها تجاه حرياته وحقوقه.


ولكن هاتين المُصيبتين كانتا حكم الأمر الواقع، الذي لم تفلح طاقة الخيال الثوري في تجاوزه إلى غيره، ولكن هاتين المصيبتين كانتا دائما في مواجهة مقاومتين، المقاومة الأولى كانت المقاومة الثورية الشرسة لحكم العسكر وإدارته الرديئة، وكانت هذه المقاومة تعلن أننا نستحق أكثر وطموحنا أعلى من فترة انتقالية تحت حكم العسكر يتم فيها امتصاص طاقة الثورة وآمالها وطموحها في تغيير جذري لصالح ديمقراطية مقيدة هزيلة.


والمقاومة الثانية كانت محاولات القوى الثورية في توفير بديل للتنظيم الانتخابي العريق المتمثل في الإخوان المسلمين.. محاولات لحملات جديدة تتشكل تنظيميا للمرة الأولى مثل حملات أبو الفتوح وحمدين صباحي وخالد علي لتوفير بديل مقاوِم، وحقق كل منهم على حدة نجاحا نسبيا، ولكنهم مجتمعين فشلوا في تكوين مقاومة واحدة كانت ضرورية لخوض جولة الإعادة.


ورغم كل ازدرائي لحملة أحمد شفيق ويأسي من حملة محمد مرسي، واعتقادي أن عداء الحملة الأولى للثورة لا يعني أن الأخرى تنتمي لها، فإن كلا منهما شكل مقاومة لوصول أحدهما للسلطة باكتساح كبير، ليصل مرسي في النهاية إلى كرسي الرئاسة بفارق ضئيل في مواجهة مقاومة شرسة.


في مواجهة المصيبتين: سوء هندسة الديمقراطية الوليدة، ووصول قوة محافظة متسلطة إلى كراسيها، إلا أن المقاومتين تحملان الأمل: المقاومة الشرسة والطموح لديمقراطية حقيقية وأفضل لا يهندسها العسكر، والمقاومة داخل العملية الانتخابية نفسها لصنع بدائل مختلفة عن القوة الأكثر تنظيما واستعدادا.


يبدو لي أن الديمقراطية ليست أملا نهائيا، إنها أداة فيها من المشاكل والعيوب وثغرات تسلط الأفراد المنتخبين والأغلبية غير المؤمنة بالحريات والحقوق، وفيها من مساحات الإبداع والمقاومة ما يحاول تحسين ذلك ومواجهته، الديمقراطية ليست واحة التغيير بل ساحة معركة التغيير.


كل ما يقال الآن عن اللحظة التاريخية التي يدخل فيها معارض إلى قصر الرئاسة بأصوات الناخبين، والتفاصيل التي تروى عن ورعه وبساطته وجماله، كلها بالنسبة إلى جيلنا ليست غاية المُراد، ربما تكون بالنسبة إلى أجيال أخرى ضربا من الخيال العلمي، ولكن كل ذلك أقل من طموحنا وأملنا، ولا نجد في ذلك عزاء ولا بهجة إلا بقدر أن مقاومتنا كانت لها الفضل في تخفيف تغوّل المصيبتين.


ولكن بهجتنا الحقيقية وتفاؤلنا يكنان في ذلك العزم البادي على كل هؤلاء «الثوار» الذين أصبحوا مخلصين للثورة في كل مكان، هؤلاء العازمين على تطوير «المقاومتين» في مواجهة «المصيبتين» وإذكائهما بمزيد من الخيال والجهد، فبهما تستمر الثورة وتفتح المزيد من الأبواب لكي يمكن فعلا بناء ديمقراطية جذرية حقيقية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق