اخر الاخبار

06‏/04‏/2012

طارق البشري: الواقع السياسى الحاضر


(1)

نحن الآن نقترب من نهاية المرحلة الانتقالية، وهى تتمثل فى إجراءات ترشيح رئيس الجمهورية وانتخابه، وفى تشكيل الجمعية التأسيسية لإعداد دستور مصر الجديد، وبتمام هذين الأمرين يتحقق إن شاء الله أهم الإجراءات الثورية التى نتجت عن ثورة 25 يناير سنة 2011، وذلك وفقا للخطوات التى رسمها استفتاء 19 مارس سنة 2011 للمرحلة الانتقالية، والتى تضمنها فيما تضمن الإعلان الدستورى الصادر فى 30 مارس سنة 2011 لتنظيم المرحلة الانتقالية.
 إن عاما وشهرين مضت على بدء الثورة، وهى ثورة ذات طابع ديمقراطى فى الأساس، قامت للعدول بمصر عن نظام الاستبدادى الفردى، ولاتخاذ أسلوب ديمقراطى لحكومة الدولة ولإدارة المجتمع المصرى، وبناء ما يقتضيه هذا الأسلوب من مؤسسات تنظيمية تضمن اتباعه واطراده مستقبلا.
 وأهم ما يتعلق بالنظام الديمقراطى فى ظنى أمران:



أولهما أن الديمقراطية هى أسلوب حكم وإدارة، أسلوب حكم الدولة للشعوب وأسلوب إدارة للمجتمع ومؤسساته، وهو يعتمد فى الأساس على الجماعية لا الفردية فى اتخاذ القرار من أية جهة، وتعدد الهيئات التى تصدر القرار وتوازنها بحيث لا تملك هيئة ما تجاه الأخريات أن تلغيها أو تنفيها، كما يعتمد على تداول المواقع فى السلطة فلا يشغل موقعا ما شخص ما لمدة تطول عن عدد محدود من السنوات.

ولكن كل ذلك فى شأن الدولة يكون تنظيما أجوف إن لم يتضمن سياسات عينية تتعلق بالصالح الوطنى العام للجماعة الوطنية وتلتزم بالمصالح العليا للشعب. وهذا يقتضى تحرير الإرادة الوطنية من أى إملاءات للقوى الخارجية عليها، فلا تقوم ديمقراطية حقيقية بغير مضمون وطنى حقيقى، ويستحيل قيام نظام ديمقراطى إذا بقيت إملاءات المصالح الأجنبية مسيطرة على الإرادة المحلية، سواء بالنسبة للدولة وأجهزتها أو بالنسبة لمؤسسات المجتمع الأهلى من أحزاب وجمعيات.

وإن خبرة السوابق التاريخية المعروفة تظهر انه إذا كان أمكن فى بعض الفترات فى بعض البلاد قيام أنظمة وطنية غير ديمقراطية، فإنه يستحيل أن يقوم نظام ديمقراطى غير وطنى، لأن ذلك يكون أشبه بأن يقول قائل إن شعبا يمارس إرادته الحرة ليحقق ما يضره ولا يحقق مصالحه، إن هذا «محال فى القياس بديع» كما يقول الشاعر القديم.

وفى ظنى أن مصر منذ حكمها حسنى مبارك وبسبب سياساته، قد صارت إرادتها الوطنية محتلة بالمشيئة الأمريكية الصهيونية، بسبب خضوع حسنى مبارك لهذه المشيئة وإنفاذه لها، وتسبب ما اتخذه من سياسات فى إفقاد مصر مناعتها الوطنية خلال تفكيك وضعها الاقتصادى لتصير فى حال احتياج دائم لمعونات الخارج ولسد عجز نظامها الاقتصادى ولسد احتياجاتها للسلع الضرورية الشعبية كالقمح مثلا.

لقد حكم الإنجليز مصر وسيطروا على إرادتها الوطنية باحتلالهم العسكرى لها وباحتلالهم السودان الآتى منه مورد المياه الوحيد لمصر. وكان يقال على ألسنة الكتاب والساسة «بالجيش والمياه» تستعمر مصر. وقد تحررت إرادة مصر الوطنية لا بجلاء الجيش الإنجليزى عنها فقط، ولكن باستقلال السودان عنهم وببناء مصر السد العالى الذى يضمن لها مخزون مياه وقتا أطول يمكنها من تدارك أمورها، لا كما كان الشأن فى الماضى تتحكم فيها سدود النيل فى السودان.

وفى عهد حسنى مبارك كانت تحتل الإرادة الوطنية المصرية بوجود حسنى مبارك ورجاله على رأس حكومة مصر وإنفاذهم المشيئة الأمريكية الصهيونية، ولكنها تحتل أيضا بالاحتياج الاقتصادى للخارج. وقد طردت ثورة 25 يناير حسنى مبارك ولكن بقى الاحتياج الاقتصادى منفذا للمشيئة الأمريكية حتى يتعدل وضعه إلى ما يمكن مصر من قدر من المناعة الاقتصادية تمكنها من استرداد عافيتها الوطنية فى تحرير إرادتها الذاتية. ولذلك فإن سعى سياسة مصر لتحرير إرادتها الوطنية من خلال التنظيم الديمقراطى، لابد ان تواكبه سياسة اقتصادية تحقق لها أهم ما يمكن من تنمية اقتصادية واكتفاء.

ونحن فى ذلك لا نحتاج فقط إلى ساسة ديمقراطيين، ولكننا نحتاج إلى مجموعة اقتصادية تمكن من البدء فى إنجاز هذا العمل ورسم سياساته وخططه وتعمل على تحقيقه، تحريرا للإرادة الوطنية التى لا يتحقق أى تنظيم ديمقراطى فعال إلا من خلال الالتزام بها.


(2)

وثانى ما يتعلق بالتحقيق الديمقراطى هو الجانب التنظيمى والديمقراطية بحسبانها تنظيما وأسلوب عمل لا يتحقق إلا من خلال أبنية تنظيمية تمارسها، وهى تمارس من خلال العلاقات التى تقوم بين قوى سياسية واجتماعية تتمثل فى تنظيمات وتتخذ أشكالا وهيئات تجمع كلا من هذه القوى وتشكل إرادتها الخاصة فى كل من الأمور الجارية فى المجتمع. إن أى مجموعة متجانسة من البشر أو من المصالح لا تصير قوة سياسية أو اجتماعية إلا إذا أمكنها أن تنتظم هى فى تشكيل مؤسسة يبلور موقفها ويعبر عنه ويتعامل به مع القوى الأخرى، أى يشكل إرادتها السياسية أو موقفها الاجتماعى أو الثقافى.

ولا يكتمل التشكل الديمقراطى للمجتمع إلا من خلال ما يظهره الواقع السياسى والاجتماعى والثقافى من التوازنات بين هذه القوى المنظمة، حسب نسب وجودها وفاعليتها إزاء بعضها البعض، وحسب قواها السياسية والشعبية، ونفوذها الاقتصادى أو السياسى أو الثقافى أو الإعلامى. وهناك من القوى المنظمة ما يعتمد على قوته الاقتصادية مثل رجال الأعمال، ومنها ما يعتمد على قوته الشعبية مثل النقابات والأحزاب العمالية والفلاحية، وهناك ما يعتمد على قوته الثقافية مثل التنظيمات الدعوية، وهناك ما يعتمد على قوته الإعلامية التى تملك وتسيطر على أجهزة إعلام مرئية ومقروءة ومسموعة ذات انتشار واسع، وهناك طبعا ما يعتمد فى قوته على نفوذه داخل أجهزة الدولة وهيئاتها، سواء العسكرية أو الأمنية أو المدنية، ولكل من هذه القوى أثره وله وجوه وضغوطه فى تعاملاته مع القوى الأخرى.

ونحن نتعلم من «علم الاستبداد» أن المستبد الفردى، ليضمن بقاء استبداده إنما يلجأ إلى تفكيك كل القوى السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية، حتى لا تقوم إزاءه أية قوة تجبره على شىء، لأنه يعرف يقينا أنه لا قوة قادرة على فرض أى أمر إلا أن تكون منظمة فى تشكيلات تمكنها من إصدار قرار معين ويمكنها من الفعل المنظم على تنفيذه أو طرحه فى الحياة الجارية. وكانت طول مدة حكم حسنى مبارك مما أمكنه من أن يفكك غالب التشكيلات التنظيمية التى كان يمكن أن تقوم فى مواجهة إرادته الشخصية، وما استعصى عليه لجأ إلى إجراءات القمع الشديد، لذلك كان من أخطر ما يواجه مصر الآن هو ما اعترى جهاز إدارة الدولة ذاته من تفكك مقصود وما اعترى المجتمع الأهلى من فقر فى تنظيماته السياسية مثل الأحزاب، والاجتماعية مثل النقابات.

والحاصل أنه فى سياق ثورة 25 يناير سنة ٢٠١١، أنها حراك شعبى استحق وصف الثورة بما طمحت إليه من الإطاحة بمن يسيطرون على الدولة وما نشدته من إقامة نظام ديمقراطى للبلاد، وقد مكنتها من ذلك حركة شعبية هائلة احتشدت بتصميم رائع على تحقيق هذين الهدفين. إلا أنها كانت حراكا شعبيا أقوى وأشمل من القيادات والعناصر المنظمة التى كانت موجودة، فلم يستحق أى منها أو أى تحالف منها أن يوصف بأنه «قيادة الثورة» لأن أيا منها لم تكن له القدرة على الهيمنة على حراكها. كان ثمة تنظيمات ولكنها فى فعلها التنظيمى لا تقاس بالمد الثورى الحاصل ولا بالحشد الجماهيرى الذى تجمع واستمر، وقد كان من شأن هذا النقص أن يعوق تحقق الهدف إلا أن يستمر الحشد حتى تتكون القيادة، وهو أمر لم يكن فى الحسبان حدوثه سريعا.

وقد سدت هذا الفراغ فى الفعل الثورى حركة القوات المسلحة التى انضمت إلى الجماهير المصرية فى حركتها، بدلا من أن تواجهها دفاعا عن نظام حسنى مبارك، لقد أمر حسنى مبارك قوات الجيش أن تنزل إلى الشوارع لتواجه ثورة الشعب، فنزلت إلى الشوارع ولكنها انضمت إلى الشعب ولم تطلق عليه رصاصة واحدة، ثم قامت بالعمل التنظيمى المطلوب بخلع حسنى مبارك تناغما وتواكبا مع الشعب فى يومى 10 و11 فبراير سنة 2011، ومن ثم فهى شريك فى الثورة، وقامت بعمل من أعمال الحسم فى الإطاحة بالحكم القائم وفتح الطريق لبناء النظام الديمقراطى المرجو للدولة والمجتمع.


(3)

إن من يثور ويحقق نتائج الإطاحة بالنظام القديم هو من يحكم من بعد، هذه قاعدة سياسية شبه مطردة والقاعدة الثانية: إن العبرة فى ذلك هى بالقوى السياسية المنظمة ذات التكوينات التى تبلور إرادة سياسية محددة وحركة سياسية منضبطة ومحكومة منها، والحاصل أن ثورة 25 يناير منذ بدئها وحتى الآن لم تسفر إلا عن قوتين نظاميتين أساسيتين، وإمكانات ظهور قوة أخرى لم تتشكل على نحو إيجابى بعد.

القوة الأولى المنظمة، هى قوة الدولة وتنظيمها، والدولة المقصودة هنا هى الجيش والشرطة والجهاز المدنى للخدمات والمرافق والمصالح، تحرك الجيش حركته المعروفة أثناء الثورة حتى اجتمع مجلسه الأعلى بغير قيادة رئيس الجمهورية وأصدر قراره رقم 1 فى 10 فبراير استجابة للحراك الشعبى البديع السابق والعام، فسقط رئيس الجمهورية ونظام حكمه فى 11 فبراير، والشرطة كانت تتعامل مع نظام حسنى مبارك ضد الحركة الشعبية ولكن أحد آثار الثورة ان تنحت من الوظيفة السياسية التى كانت موكلة بها واقتصرت على وظيفتها الأمنية، وهذا ما أربك أداءها إلى الآن. والجهاز المدنى كان ضعيفا مفككا فكمن تحت مشيئة الحراك الثورى ومن ثم كانت القوة النظامية لجهاز الدولة متمثلة فى القيادة العسكرية.

والقوة الثانية المنظمة، هى قوة جماعة الإخوان المسلمين، وقد ساهمت فى العمل الشعبى الذى شكل الجسم الأساسى للثورة الشعبية، بحيث لولا شباب الإخوان لما كان الحراك الشعبى على هذه الصورة المصممة المستعدة لتقديم التضحيات، ولكن لم تكن جماعة الإخوان بالنسبة لهذه الثورة كما كان حزب الوفد مثلا بالنسبة لثورة 1919. لقد كانت الجماعة قوة مؤثرة وفعالة ولكنها ليست قوة حاكمة بما يمكن من القول إنها كانت قيادة لهذه الثورة، ولا كان لها من الحشد الشعبى ما يقارن مثلا بوفد 1919. بدليل أن وفد 1919 فاز فى أول انتخابات شعبية بعد الثورة بأربع سنوات فى سنة 1924 بأكثر من 90٪ (من مقاعد المجلس النيابى)، بينما الإخوان فازوا فى أول انتخابات شعبية بعد الثورة بأقل من سنة واحدة (أى فى زخم ثورى أشد) بنحو 47٪ (من المقاعد) على أنه يبقى لهم انهم كانوا أكثر القوى تنظيما وضبطا على الساحة الشعبية، ويكاد يقف بعدهم بمسافة ما التنظيمات التى استطاع الاتجاه الدينى السلفى أن يبلورها ويشكلها وينمو بها فى ذات الفترة من الثورة.

والقوة الثالثة: تتشكل فى التنظيمات الحزبية والشخصيات السياسية المستقلة التى خرجت من مرحلة حكم حسنى مبارك ضامرة من الناحية الشعبية ولكنها تتكون من نخب ثقافية واجتماعية لم يسمح لها فى العهد السابق بتنمية صلاتها بالجماهير فانفصلت وانعزلت عنها واقتصر تشكلها على هذه النخب ذاتها وعلى النشاط الإعلامى. الذى كان متاحا لها دون العمل التنظيمى الشعبى، وأن من يتابع أحداث المعارضة المصرية من سنة 2005 حتى قيام الثورة، يلحظ أن هذه النخب بذلت جهودا جاهدة فى الإثارة المعارضة ضد نظام حسنى مبارك، ولكنها لم تستطع أن تتصل بحركات شعبية احتجاجية بلغت المئات فى ذات الفترة، وعمت فى مواقع العمل الصناعى والإنتاجى ومجالات التجمع الشعبى. وهى بعد الثورة لم تستطع أن تكون تنظيمات قادرة على قيادة قدر معتبر من الجماهير يمكنها من شغل الموقع الذى تطمح إليه فى تقرير سياسات البلاد، واستعاضت عن ذلك بالنشاط الإعلامى فى المجالات المرئية والمقروءة والمسموعة، وأن ضمور نشاطهم التنظيمى قد شكل عجزا فى تقديراتهم لتوجهات الجماهير الشعبية. فطالبوا بما أضر بهم سياسيا. طالبوا بتأجيل الانتخابات فاستفاد السلفيون من ذلك ضدهم، وطالبوا بانتخابات القائمة بدلا من النظام الفردى فاستفاد منه السلفيون ضدهم. وهكذا ولم يفطنوا إلى أن انتخابات القائمة تحتاج أكثر ما تحتاج وأهم ما تحتاج إلى أحزاب قوية رصينة معروفة بأشخاصها ومبادئها وتاريخها لدى الجماهير، وهذا بالضبط ما كان ينقصهم، وقد استغلت أدوات الإعلام نشاط هذه القوة، لأن أهم أجهزة الإعلام الخاص يسيطر عليه رجال أعمال لهم نفوذهم ومطامحهم ونظرتهم إلى وجوب استبقاء الوضع الاقتصادى المصرى على ما هو عليه قبل الثورة، لأنه ذات الوضع الذى انتعش فيه نشاطهم وتجارتهم.

ونخلص من ذلك إلى أن المعول عليه فى علاقات القوى السياسية التى تؤثر فى أنظمة الحكم هو بالقوى النظامية ذات القرار والقدرة على التحكم فى التحريك السياسى. والقوى النظامية كما سبقت الإشارة هى جهاز إدارة الدولة، والجيش هو عمود الارتكاز فيه على وجه العموم وفى هذا الوقت المعين على التحديد، والتنظيمات الشعبية ذات الوجود الفعال فى المجال الأهلى هى جماعة الإخوان المسلمين ثم تنظيمات السلفيين ثم الوفد وذلك على ما أسفرت عنه نتيجة انتخابات مجلس الشعب الأخيرة، ويلى ذلك مجموعات من ذوى الأثر التنظيمى المحدود ولكنها ذات وجود مؤثر من الناحية الإعلامية، والجيش يمكن أن يستجمع إرادة جهاز الدولة الآن، ولكن الإخوان لا يمكنهم أن يستوعبوا الإرادة الشعبية، والقوى الأخرى غير المنظمة تُشكِّل عنصر قلق، وقد شكلت عنصر قلق للجيش أولا ثم للإخوان المسلمين، فهى حتى الآن تشكل أثرا سلبيا لغيرها دون ان تنفرد هى بأثر إيجابى لذاتها لأنها ليس لها كيان تنظيمى فعال.


(4)

سبقت الإشارة إلى أن الديمقراطية تكون نظاما أجوف ان لم تشتمل أهم ما تشتمل على سياسات ترعى الصالح الوطنى العام لمصر بحسبانها جماعة سياسية.. وإلى أن الحلقة الأساسية فى الوضع الوطنى الآن هى حلقة التنمية الاقتصادية بما يزيد قدرة البلاد على الاعتماد على النفس والتوازن فى علاقاتها الاقتصادية الخارجية. كما سبقت الإشارة إلى ما تحتاجه دعما للتطور الديمقراطى من قيام تنظيمات سياسية تبلور الإرادة السياسية لذوى المصالح المتنوعة فى البلاد بحيث تؤول حركة الصراع السياسى من التخبط والعشوائية إلى الجدال الرشيد الذى يهدف إلى الحلول وإلى صيغ التعايش الايجابى.

ونحن نحتاج أيضا وبذات الدرجة من الأهمية أو أكثر إلى ترميم ما تفكك من أجهزة إدارة الدولة المصرية، سواء ما تفكك بقصد على يد حسنى مبارك دعما لسلطات الحاكم الفرد وهدما للمقومات المصرية للصالح الأمريكى الصهيونى، أو ما تفكك من عمل الثورة مما يحدث فى كل الثورات نتيجة نقل السلطة من قوى النظام السابق إلى قوى لا تزال فى طور التطوير والإعداد، ومن ذلك ما يتعلق بجهاز الشرطة والأمن. وهذا الدعم المطلوب لجهاز إدارة الدولة له أهميته الحيوية فى مجال الاقتصاد اشاعة للأمن من جهة ورسما لخطط التطوير الاقتصادى والتنمية ومتابعة لهذا المسار من جهة أخرى.

كنا فى شهر ديسمبر 2011 ويناير 2012 على مشارف وضع حميد، وعلى أمل بدا أنه يلوح فى الأفق القريب، والمجلس الأعلى والمعبر عن إحدى القوى النظامية التى أنتجتها الثورة لتحمى مراحله الانتقالية يتفق مع مجموعة من الأحزاب على وضع برنامج زمنى لنقل السلطة السياسية إلى مؤسسات مدنية منتخبة، ووزارة الدكتور كمال الجنزورى تتولى إدارة الجهاز المدنى والأمنى للدولة، وما كان الدكتور الجنزورى يتولى رئاسة الوزارة إلا أن يكون ذلك من إنتاج ثورة 25 يناير التى أطاحت بحسنى مبارك وجماعته، لأن الجنزورى كان صاحب سياسة استراتيجية لدعم الاقتصاد الوطنى عرفت عنه وعرف بها وتسببت فى الإطاحة بوزارته فى أواخر سنة 1999. وصار وجوده بالوزارة فى ديسمبر 2011 ممهدا بوضع الخطة الاقتصادية التى يمكن أن تقيل مصر من عثراتها فى هذا الشأن.

والعنصر الثالث بعد المجلس الأعلى ووزارة الجنزورى هو مجلس الشعب الذى جرت انتخاباته النزيهة الحاشدة للجماهير فى ذلك الوقت وأسفرت عن فوز ممثلين حقيقيين للشعب المصرى، وصارت فى مصر سلطة تشريعية منتخبة ومعدة من واقع حال الشعب المصرى بصدق، وجاء تشكيلها من أحزاب وجماعات ما كانت لتصل إلى هذه المؤسسة من مؤسسات الدولة وتشارك فى الحكم إلا أن يكون ذلك من نتاج ثورة 25 يناير.

ثلاثة تشكيلات سياسية وجدت فى ذلك الوقت على رأس الدولة المصرية، وكل هذه التشكيلات الثلاثة من نتاج ثورة 25 يناير، وما كان لأى واحد منها الوجود بالدولة إلا بعد قيام الثورة التى أطاحت بالعهد القديم، وكلها من شأن نشاطه أن يكمل نشاط الآخرين، فى قمة الدولة وفى جهازها الإدارى والأمنى وفى مؤسستها الشعبية، وذلك خلال فترة انتقالية يعاد فيها ترميم أجهزة الدولة والأمن، ويدعم فيها الاقتصاد وفق خطة ترسم لذلك وسياسات تتبع، ويظهر ويقوى فيها جهاز التعبير من الحراك الشعبى.

ولكن للأسف الشديد لم يحدث هذا اللقاء الحميد، والواضح أن بدأت المشكلة من داخل مجلس الشعب حديث النشأة، وجهر من أيامه الأولى لا بمعارضة الوزارة فقط ولكن بالهجوم عليها واتبع بعد ذلك الجهد بطلب إسقاطها. وبدا من مجلس الشعب وغالبيته أنهم لا يدركون ما يتعين أن يكون عليه العمل فى مجال أجهزة الدولة والإدارة، من تنظيم ومراعاة للمشاكل العينية والبدء بالتصورات السياسية الأساسية بما ينبغى أن ترسم به خطط المستقبل العاجل والآجل، مع الاهتمام بالدراسة الملموسة للمشاكل التى تجد.

مثال ذلك أن 143 نائبا وقعوا على طلب للتحقيق مع وزير الداخلية فى أحداث بورسعيد قبل أن يشكل المجلس لجنة تقصى الحقائق التى أعدها بعد ذلك، أى قبل أن يعرف ما الذى حدث، وهذا أسلوب لا يرد من مسئولين، ويحدث مع جهاز يستوجب التعامل معه كل الحرص لإعادة ترابطه وفاعليته وهو جهاز الأمن. ومثال آخر ما واجهه بيان الحكومة من أول يوم قدم فيه، ما واجهه من رفض وتقليل من أهميته، رغم أنه أعد فى خمسين صفحة، وهو تقريبا الوثيقة الوحيدة التى أعدت وتشمل خطة العمل فى المجال الاقتصادى على المستويين العاجل والآجل، الوثيقة الوحيدة تقريبا التى أعدت لذلك منذ بدء الثورة، رغم أهمية هذا الجانب وحيويته الوطنية والديمقراطية كما سبقت الإشارة.


(5)

لقد ظهرت ملامح تفيد بأن جماعة الإخوان المسلمين أنْ أظهرت نتيجة الانتخابات الحرة مدى ما حصلت عليه من تأييد، بدا أنها تتصور أنها ينبغى أن تكون صاحب السلطة كلها فى البلاد، وأكثر ما ظهر من ذلك كان لدى نواب الحزب الحائز على أكثر المقاعد فى مجلس الشعب وهو حزب الحرية والعدالة المؤيد من جماعة الإخوان المسلمين وفى هذا الصدد يتعين ملاحظة ما يلى:

أولا: أن حزب الحرية والعدالة لم يحصل فى انتخابات مجلس الشعب إلا على نحو 47٪ من مقاعد المجلس، وهذه الانتخابات كان من فضائلها أنها حددت لنا القوى الشعبية النسبية لكل تنظيم أو جماعة اشتركت فيها. ويمكن اتخاذها قياسا على ذلك فى الفترة الزمنية التى جرت بها. والنسبة المذكورة لها قدرها، ولكن يخطئ من يعتبرها تعكس الحجم الأمثل للقيادة الشعبية المنظمة على مستوى الشعب كله، إنما هى قوة ذات اعتبار نسبى لا يمكن صاحبها من انفراد بسلطة أو بتمثيل جماهيرى عام.

والحاصل أن حزب النور حصل على ما يزيد على 25٪ من المقاعد، وهو حزب ذو مرجعية إسلامية، ولكننا عندما ننظر إلى مسألة إثر القوة السياسية فى السلطة إنما ننظر إلى كل تنظيم بحسبانه يمثل إرادة ذات قرار واحد وقدرة على ضبط تحريك محدد. ولا ننظر إلى الأمر من زاوية المرجعية العقائدية أو الفكرية. ولذلك فأى حزبين ذوى مرجعية واحدة لا ينظر إليهما بحسبانهما قوة سياسية واحدة، إلا أن يدخلا فى تحالف تنظيمى.

ثانيا أن القوة السياسية لا تكون ولا تحسب بالتأييد الشعبى وحده، ولا تقدر بحجم التأييد الشعبى وحده. وهناك قوة سياسية ذات شأن واعتبار لا يمكن إنكاره أو إهماله، وتستند إلى مراكز للقوة السياسية غير التأييد الشعبى، ومنها طبعا موقع تنظيم معين من سلطات الدولة وقدرته على تحريكها لأهداف سياسية. ونحن بخبرة 25 يناير نعرف أنه لولا تدخل الجيش مثلا فى لحظة معينة ما كان يسهل أن ينتهى حكم حسنى مبارك بالصورة التى حدثت وبالتوقيت الذى حدث وأمامنا أمثلة أخرى معاصرة فى ليبيا واليمن وسوريا كانت على عكس ما كان بمصر.

وهناك مصادر أخرى للقوة السياسية مثل المركز الاقتصادى لرجال أعمال أو ما يماثلهم. ومثل السيطرة على أجهزة الإعلام ومدى أثرها فى تصوير الأحداث وتجييش الرأى العام وصياغته، ونحن نعرف ذلك جيدا بتجربة السنة الماضية كلها، كيف كان الإعلام عاملا مؤثرا جدا فى حركة سير الأحداث فى هذه السنة.

ثالثا ينبغى أن نستحضر خبرة الماضى ودروسه فان خبرتنا مع دستور سنة 1923 الليبرالى تظهر أن حزب الأمة وقتها وهو «الوفد» القديم حصل فى أول انتخابات فى نياير 1924 على أكثر من 90٪ من مقاعد مجلس النواب. وكانت أقل نسبة حصل عليها فى انتخابات حرة نزيهة هى نحو 72٪ من مقاعد مجلس النواب، فى يناير سنة 1950. ومع ذلك لم يتول حكم مصر خلال الثلاثين سنة التى طبق بها هذا الدستور الليبرالى. إلا على مدد كان مجموعها نحو سبع سنوات، ولم تزد أطول مدة قضاها فى أى من حكوماته على سنتين، وخلال الثلاثين سنة كلها جرت عشرة انتخابات برلمانية، ستة منها نزيهة فاز بها الوفد ومكنته من حكم مدد لم تزد على السبع سنوات. ومن هذا نعرف أن القوة السياسية ليست فقط هى القوة ذات الحشد الشعبى.

رابعا تقدم لنا سنة 1954 العديد من التجارب التاريخية المهمة، ومنها الخلافات التى جرت بين حكومة ثورة 23 يوليو المسيطرة على الدولة وبين جماعة الإخوان المسلمين حول مدى المشاركة فى شئون الحكم، وانتهت هذه الخلافات بما هو معروف من قطيعة، وكان من الجماعة من انحازوا إلى قبول حصة المشاركة، مثل فضيلة الشيخ محمد الغزالى ــ رحمه الله، وكان هؤلاء هم من تلقّى على أيديهم جيل الإسلاميين فى السبعينيات أسس الفكر الإسلامى والسياسى وقدموا للحركة الإسلامية جيلا جديدا تجددت به كما هو معروف فالبركة فى المشاركة، وهذا ما يمكن تعلمه من فضيلة الشيخ محمد الغزالى ــ يرحمه الله.


والحمد لله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق