اخر الاخبار

25‏/04‏/2012

عودة الروح للوطنية المصرية بقلم فهمي هويدي



خبر إلغاء اتفاقية الغاز مع إسرائيل مهم لا ريب، لكن الرسالة فيه أهم، إذ رغم التصريحات الرسمية التى صدرت عن الجانبين المصرى والإسرائيلى مشيرة إلى أن الإلغاء له أسبابه الاقتصادية، ولا علاقة له بالشأن السياسى، إلا أن الأمر ليس بذلك التبسيط. ذلك أن السياسة كانت موجودة فى إبرام الاتفاق فى عام 2005 (لمدة عشرين عاما) كما أنها لم تكن غائبة عن إلغائه. وإذا كان توقيعه يمثل صفحة فى سجل العار الذى جلل ممارسات النظام السابق، حين كان رئيسه يصنف بحسبانه كنز إسرائيل الاستراتيجى، فإن إلغاءه بدا إشارة إلى انتهاء تلك الحقبة بعد ثورة 25 يناير، وانتقال مصر إلى طور آخر فى مسيرتها. ولا غرابة والأمر كذلك فى ان يلقى قرار الإلغاء حفاوة بالغة عبرت عنها صحف اليومين الماضيين. ولست أبالغ إذا قلت إن صدوره كان بمثابة نسمة منعشة فى أجواء الاحتقان والتوتر السائدة فى مصر هذه الأيام.


لقد كان مدهشا حقا، ومخزيا أيضا، أن تبيع مصر الغاز لإسرائيل بأبخس الأثمان فى صفقة معيبة ومريبة لم تتكشف ملابساتها بعد. وهو ما استفز الجماعة الوطنية المصرية، سواء من ناحية الفكرة والمبدأ أو من زاوية الإجراءات. حيث لم يكن معقولا أن تزود مصر إسرائيل بالطاقة التى تستثمرها فى تشغيل آلة الحرب المعلنة ضد الفلسطينيين. كما لم يكن معقولا أن يحدث ذلك فى حين تعيش غزة فى الظلام وتعانى من أزمة فى الطاقة. كما أنه كان مريبا للغاية أن تتصرف السلطة بهذه السفاهة فى أحد مكونات ثروة مصر الطبيعة من الغاز، وتحرم بذلك محطات توليد الكهرباء التى ظلت تعتمد على المازوت المستورد بضعف ثمن الغاز. ليس ذلك فحسب وإنما  نفذت عملية البيع من خلال شركة تأسست خلال أيام قليلة، وتم تمرير اتفاقية البيع من وراء ظهر مجلس الشعب بالمخالفة للقانون، وهو ما حدث أيضا فى اتفاقية «الكويز»، التى عرضها الإسرائيليون على الكنيست فى حين أخفاها نظام مبارك عن مجلس الشعب المصرى.

هذه الخلفية دعت مجموعة من العناصر الوطنية إلى تشكيل حركة «لا لبيع الغاز لإسرائيل»، التى رفعت فى عام 2006 قضية أمام مجلس الدولة لوقف الصفقة المريبة. وباشر المهمة السفير إبراهيم يسرى ومعه السفير أمين يسرى، اللذان انضم إليهما بعض خبراء البترول الذين أثبتوا التلاعب والفساد فى الاتفاق، ولان الأدلة كانت دامغة والحجج قوية، فقد أصدر قاضى مجلس الدولة آنذاك المستشار محمد عطية (وزير العدل الحالى) حكما بوقف التصدير فى عام 2008. لكن الحكومة ظلت تماطل وتتلاعب فى التنفيذ، ومنعت تسليم المحامين نسخة من الحكم. فعرض الأمر على هيئة مفوضى الدولة، التى أيدت الحكم ورفضت طعن الحكومة عليه. ولم يهدأ لحكومة مبارك بال إلا بعد أن استصدرت فى عام 2010 حكما من المحكمة الإدارية العليا بعدم اختصاصها بنظر طعن الحكومة، بحجة أن تصدير الغاز من أعمال السيادة وثيقة الصلة بالأمن القومى، الأمر الذى يخرجها عن نطاق الرقابة القضائية.

رئيس الورزاء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو حرص على أن يؤكد أن المسألة لا تتجاوز حدود الاختلاف حول المعاملات المالية بين الشركتين المصرية والإسرائيلية، فى ايحاء واضح بمحاولة طمأنة الإسرائيليين بأن اتفاقية السلام بخير، وأن القرار ليست له تداعيات سياسية، وهذا هو الشق المعلن رسميا على الجانبين الإسرائيلى والمصرى. فى هذا السياق أبرزت صحيفة «هاآرتس» على صفحتها الأولى يوم أمس الأول (الاثنين 23/4) قصة الخلاف بين الشركتين، وذكرت أن الشركة المصرية نبهت نظيرتها الإسرائيلية خمس مرات لتسديد مديونيتها (100 مليون دولار)، وأعطتها فى المرة الخامسة مهلة حتى 31 مارس الماضى، وإزاء امتناعها عن سداد المستحقات فإن مصر قررت فسخ العقد، ومارست فى ذلك حقها الذى كفلته لها الاتفاقية.

الصحافة الإسرائيلية قالت ما لم يقاله الرسميون. ففى 23/4 نشرت صحيفة «إسرائيل اليوم» الأوسع انتشارا، مقالا للمستشرق اليعازر بسموت كبير معلقيها قال فيه إن الكلام عن أن وقف تصدير الغاز تم لأسباب اقتصادية من قبيل ذر الرماد فى العيون. «لأن الأمر يتعلق بتداعيات سقوط نظام مبارك الذى فى عهده ما كان لذلك الاعتبار (الاقتصادى) أن يمنع تدفق الغاز لإسرائيل»، وختم مقاله بقوله إن مصر بعد مبارك سوف تصدر لنا اللهب والنار بدلا من الغاز. الأمر الذى يشير إلى أن سيناريو الرعب فى العلاقة مع مصر يتحقق بسرعة كبيرة. وهى ذات الفكرة التى عبرت عنها تصريحات ليبرمان وزير خارجية إسرائيل وأبرزها العقيد متقاعد الدكتور يهودا دحدح هليفى الباحث فى معهد القدس لشئون المجتمع، واستند فى إبرازها إلى بيان لجنة الشئون العربية بمجلس الشعب المصرى الذى أدان غارات إسرائيل الأخيرة على غزة، وأشار إليها بعبارة «الكيان الصهيونى» واصفا أياها بأنها «دولة عدو».

أيا كان العائد الاقتصادى المترتب على وقف تصدير الغاز، فإن المردود السياسى للقرار لا يقل أهمية، إن لم يكن أكبر. حتى أزعم ان القرار يظل وساما على صدر المجلس العسكرى والحكومة. وفى حده الأدنى فإنه يشهد بأن مصر قلبت صفحة كنز إسرائيل الاستراتيجى، وأنها بصدد الانتقال إلى مصاف الدول المحترمة التى تتمسك بالدفاع عن حقوقها وكرامتها. وقد سمعت من المستشار طارق البشرى تعليقا على القرار يرن فى أذنى طوال الوقت، قال فيه إنه ذكرنا بالوطنية المصرية التى شحبت صورتها واهتزت فى عهد مبارك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق