اخر الاخبار

01‏/04‏/2012

العمارة للفقراء المعماري المصري حسن فتحي


عمارة الفقراء  هو كتاب للمعماري المصري حسن فتحي يتناول رؤيته الخاصة حول العمارة البيئية وتجربته في مصر وبالأخص قرية القرنة. والكتاب بالإنجليزية، وترجمه فيما بعد للعربية د. مصطفى إبراهيم فهمي.
صدرت طبعته الأولى تحت عنوان "القرنة: قصة قريتين" في طبعة محدودة من اصدرات وزارة الثقافة المصرية عام 1969 بالقاهرة.
نُشِر الكتاب بعد ذلك في الولايات المتحدة عام 1973 بواسطة جامعة شيكاغو ثم نشر في مصر عام 1989 بواسطة الجامعة الأمريكية بالقاهرة.
صدرت ترجمته العربية عام 1993 حين قام د. مصطفى إبراهيم فهمي بترجمته بمبادرة شخصية وقد صدر عن كتاب أخبار اليوم وأعيد طبعه في سلسلة مكتبة الأسرة عام 2000
فصول الكتاب
كتب تمهيد الكتاب وليام ر. بولك، رئيس معهد أدلاي ستيفنسون للشئون الدولية [1]
يقع الكتاب في أربع فصول:
لحن الاستهلال: الحلم والواقع
لحن الترنيمة (كورال): الإنسان والمجتمع والتكنولوجيا
لحن الترديد (فوجة): المهندس المعماري، والفلاح، والبيروقراطي
لحن الختام: القرنة في سبات
مع 6 ملحقات تحتوي بعض الدراسات والإحصائيات حول طرق البناء بالطوب اللبن وتكلفتها الاقتصادية.[1]
ملخص الكتاب
يتناول الكتاب رؤية حسن فتحي للرجوع إلى وسائل البناء التقليدية المستمدة من البيئة المحليّة كوسيلة لتنمية الريف المصري (ريف ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين) واستخدام الطوب اللبن بشكل عام لبناء منازل أكثر راحة ونظافة بتكلفة أقل.
يعرض حسن فتحي في الكتاب تجربته الخاصة ومحاولة استلهام الأساليب التقليدية في البناء وبخاصة المنازل النوبية في الجنوب، محاولته لتطوير تقنيات البناء بالطوب اللبن لبناء منازل نظيفة وراقية وفي نفس الوقت بسيطة بحيث يظل بمقدور الفلاح بناء بيته بنفسه بدون الحاجة لتقنيات معقدة ومكلفة.
يعرض أيضا تجربته في بناء البيوت الطينية في أكثر من مكان بمصر، بيت حامد سعيد في المرج، عزبة البصري، قرية القرنة وغيرها.
أيضا يتناول الكتاب أفكار حسن فتحي لتمية الريف تنمية شاملة ومحاولة الارتقاء بالخدمات الصحية والاجتماعية بالريف وتحسين الصناعة الريفية.
أيضا يعرض الكتاب لرؤية حسن فتحي في العلاقة بين المالك والمعماري، والبعد عن فكرة البيوت الضيقة المصممة مسبقا دون اعتبار لذوق المالك وحاجته. والابتعاد عن بناء مساكن أسمنتية (بشعة على حد وصفه) تحد من حرية ساكنها وتقديده.
ملحق بالكتاب عدة ملاحق تحتوي على دراسات للتكلفة الاقتصادية لبناء المنازل من الطوب اللبن، مدى تحمل هذه المباني عبر تجارب أقيمت عليها وطريقة تنظيم العمل في هذه المشاريع.[1]
تأملات في فكر شيخ المعماريين العرب .. حسن فتحي


يصادف 30 نوفمبر المقبل الذكرى العشرين لرحيل شيخ المعماريين العرب المعماري المصري حسن فتحي. رحل هذا المعماري الرائد في العام 1989, ولكن فكره العميق يبقى خالدا عقودا وأجيالا, ودهورا, بعده, كما يظل مجالا خصبا لسلاسل غير منتهية من البحث العميق والجاد لمعماري جاهد خلال حياته العملية بفكره وقلمه ونقل العمارة العربية المعاصرة نقلات كبيرة ووضعها على مرمى حجر من التقديرات والجوائز العالمية. في هذه الذكرى العشرينية ينفتح المجال مجددا لتأملات نقدية – لا تنقص منه قيد أنملة بل تزيد فكره وفلسفته قدرا وتقديرا. وفي إطار هذا التكريم والتقدير لفكره وفلسفته للتراث, تجري استعدادات عربية متميزة على مستوى مؤسسات ومنابر ثقافية رائدة, منها المؤتمر الدولي الذي ستعقده مكتبة الإسكندرية, والذي أعلمني به الصديق الدكتور خالد عزب – مدير الإعلام بالمكتبة - خلال لقائي به في لندن قبل أسبوعين والذي سيكون موضوعه حسن فتحي فكره وأعماله. كذلك علمت من مستشار التحرير بمجلة البناء السعودية الصديق الدكتور مشاري النعيم, في اتصال هاتفي قبل أيام أثناء زيارته لمدينة القاهرة, بأن المجلة ستخصص عددا قادما خاصا في هذه الذكرى لتكريم شيخ المعماريين وعرض أعماله وفكره. هذه المراجعات والندوات, ومنها هذه السطور هي على طريق عرض بعض فكره وأعماله بما تسعه المساحة ولا تفي بحق الراحل الكبير أو وفكره وفلسفته ما يستحقه.



كان لكاتب هذه السطور شرف مقابلة حسن فتحي في بيته بالقاهرة في صيف العام 1988 قبل وفاته بعام واحد. بيته كان أثرا مملوكيا يجسد فكره التراثي ورؤيته للفن العربي وضرورة بعث الحياة في هذا الفن وتجديده. عاش المعماري الفذ, الذي حرم ما يستحقه من التقدير العربي في بداية حياته العملية, في بيته بقلب القاهرة الفاطمية على مرمى حجر من مدرسة وجامع السلطان حسن وبين عشرات المآثر المعمارية المملوكية في القاهرة التاريخية. كان بيته محجا معماريا لطلبة العمارة والمهتمين من كافة عواصم العالم. زيارة حسن فتحي في بيته لم تكن تتطلب الكثير من التعقيدات, فهو قد نذر نفسه في حياته وفي أواخرها لنشر علمه وفكره, وكان يدرك لهفة المرتحلين والباحثين لمقابلته والإستماع لحديثه القيم عن العمارة العربية وخواطره وتأملاته المعمارية. 


بالنسبة لنا كان غرض الزيارة بالإضافة لمقابلته هو استشارته في متعلقات مشروع التخرج للسنة النهائية لنا كطلاب عمارة بالجامعة الأردنية آنذاك. كان يكفي حجز تذكرة الطائرة والوصول لمدينة القاهرة العظيمة, مع خريطة أثرية لقلب القاهرة الفاطمية بآثارها الأخاذة, ثم الوصول لقلعة محمد علي والنزول لموقع مدرسة وجامع السلطان حسن والبحث عن حارة الدرب الأحمر, ليجد الزائر بوابا طيبا أمينا يجلس على "دكة" مدخل بيت مملوكي أثري يجسد قطعة من التاريخ. كان يكفي الإستئذان من البواب الطيب لمقابلة هذا المعمار المصري الرمز, ليجد الزائر نفسه يصعد مجموعة أدراج تقود لصالون بيت حسن فتحي انتظار لقدومه من مخدعه حيث كان يخلد للراحة. 

بضعة الدقائق التي كانت تفصل الزائر عن لقيا شيخ المعماريين كانت كافية لتأمل جمال الصالون وتفيؤ أصالة التراث العربي الذي يكاد يندثر في عصر العولمة. جلسنا, واتخذ كل منا متكأه تاركين مقعدا ظنناه لشيخ المعماريين. سبق صوته رؤياه, سمعناه ينادي بصوت هدته السنون ترافقه وتسنده السيدة الفاضلة نوال حسن التي كانت مديرة مكتبه, فيما كانت مجموعات من القطط تتقافز حوله بحب وتتمسح برجليه:"حاسبي الأطط يا كريمة! إعملي الشاي يا كريمة!" كان بيته كريما وكانت الشغالة التي تقوم على رعايته كريمة أيضا.

جلس المعمار الرمز واحتبست الأنفاس, فهذا المعماري المكافح على مدى حياة طويلة عملية امتدت قبيل قرن كامل, كان ملهما وأستاذا ومنهلا لطلبة ومريدين يدركون "تاريخية" اللقاء وعظمة الموقف. فمعماري تلميذ على مقاعد الدراسة كان يدرك أنه بحضرة أستاذ عظيم, متواضع. جلس حسن فتحي وجلسنا بعد أن انتصبنا قياما, إجلالا وتقديرا, وشكرا لهذا الإستقبال العفوي البسيط دون مقدمات أو سكرتيرات أو حواجز. جلست السيدة نوال حسن وطلبت منا بلطف ألا نثقل طويلا على الشيخ الكبير بأسئلتنا, فحاله كان يغني عن السؤال. كان رحمه الله يمسك سماعة الهاتف بيد هرمة, مرتعشة, امتدت لتناول سماعة الهاتف ردا على مكالمة قطعت اللقاء, ليعود مجددا ويخبرنا عن أصالة البيت العربي وخصوصية الحياة فيه مقارنة بالبيت الغربي, وضرب لنا مثلا البيت الإيطالي حيث يقف الزائر بعتبة الباب الخارجي ليكشف منذ اللحظة الأولى قدرا كبيرا من البيت عامه وخاصه. كان لقاء عابرا عفويا ولكنه كان "محفزا" ومليئا بالخواطر والعظات المعمارية التي كرست فيما بعد حب التراث وأهمية البحث فيه وأصبح منذئذ ديدنا ومشروع بحث يمتد لحياة كاملة. ولذلك فلم يكن محض صدفة أن أطروحة الدكتوراة بجامعة لندن لكاتب هذه السطور كان موضوعها حسن فتحي في العام 1996. بعد عام من هذا اللقاء العابر, وأثناء عملي مع راسم بدران بعد التخرج, يرحل هذا المعمار الصبور الرمز عن العالم ويشيعه كبار المعماريين من أنحاء العالم, ولكن يبقى فكره عميقا في عقول وآلاف الطلبة والمريدين ويظل محل تكريم العالم كمجدد العمارة العربية المعاصرة.

حسن فتحي هو واحد من أهم الرموز التي غيّرت الفكر المعماري العربي في فترة السبعينيات وبخاصة متعلقات التراث في مقابل مدّ الحداثة. ولد عام 1900 بمدينة الإسكندرية بمصر وقدّم على مدى أكثر من خمسين عاما أطروحات وتصورات تجمع بين الفلسفة النظرية وبين الممارسة العملية التي راوحت بين "التجربة – والخطأ" وبين إحباطات وتداعيات الواقع المناهض للتراث – بصفته مرجعية للتخلف عن مواكبة متطلبات العصر وتسارع وتيرة السير نحو حداثة العالم الغربي. وتتجسّد الكثير من أطروحات فتحي النظرية في كتابه (Qurna: A tale of two villages) أو (القرنة – قصة قريتين) الذي نشرته جامعة شيكاغو عام 1965, والذي ترجم عام 1991 إلى كتاب (العمارة للفقراء), حيث يمكن قراءة الكثير من الأفكار المهمة.

تعود بداية اهتمام حسن فتحي بالتراث وولعه به لطفولته المبكرة وكما يرويها في كتابه "العمارة للفقراء", من خلال قصص الريف "الساحر" التي اعتادت والدته أن تصور من خلالها الريف المصري كصورة حالمة تسرح فيها الطيور والحيوانات المنزلية وسط الماء والخضرة والطبيعة الساحرة. تلاشي هذه الصورة الحالمة بالواقع المغاير للريف المصري وكما وجده فتحي دفعه للتقدم لدراسة الزراعة بالجامعة كي يسهم في بناء الصورة النمطية التي طافت بمخيلته طفلا, لكن إخفاقه في إجابة اسئلة أساسية في امتحان القبول انتهى بتقدمه لدراسة العمارة. 

يعتقد فتحي بأن العمارة العربية المعاصرة تعاني من حالة "تغريب" ثقافي, وأن "العمارة الإسلامية" قد "توقفت" في الدول العربية قاطبة بدون استثناء منذ القرن الثامن عشر", فبالنسبة لفتحي تمثل العمارة "الإسلامية" فنا تراثيا وإقليميا حيث تحتفظ كل دولة بفنها الخاص", ويرى فتحي أن مشكلة العمارة العربية في العالم العربي متعددة الجوانب, حيث ترتبط العمارة بالحضارة, فيما تتشكل الحضارة من نواتج التفاعل بين فكر الإنسان وبيئته لتلبية متطلباته واحتياجاته المادية والروحية, ولذلك يرى فتحي أن تغيرات معينة حدثت في عملية البناء وإفراز العمارة العربية: أولها يتمثل في قلب عملية تصميم المسكن, من الإنغلاق للداخل (Introversion) إلى الإنفتاح على الخارج (Extroversion). فالأول يمثل المسكن التقليدي "الإسلامي", والثاني يعكس القيم الغربية. ولذلك فالعمارة العربية المعاصرة في الدول العربية, بالنسبة لفتحي, تواجه تحديات كثيرة في خضم محيط حضري ذي قالب وصبغة غربية. جانب آخر من المشكلة كما يراها فتحي تتمثل في عملية إعادة إنتاج العمارة بين الماضي والحاضر. 


ويعتقد أن "النظام المعماري" في القديم كان يتمثل في الحرفي, ومعلم البناء, أما اليوم فعملية البناء تشمل المعماري, والحرفي, وطالب الجامعة, والمقاول. ولذلك يعتقد أن المشكلة تكمن اليوم في مجال أن جميع من في "عملية البناء" لا دراية لديهم أو خبرة عملية وتواصل معرفي مع مواد البناء أو خبرات البناء التقليدية سواء بسواء. وبكلمات أخرى, فإفرازات التصميم المعماري تتحكم فيها مسطرة الرسم (T-square) والمتوفر من مواد البناء المستوردة. ولذلك فجميع الجهات المرتبطة بعملية البناء مهتمون بالعمارة كوسيلة لكسب المعيشة وتحقيق الربح المادي لا باعتبارها منتجا ثقافيا. ويرى فتحي أن هناك مشكلة في تعليم وتدريب المعماري العربي, حيث تغيب دراسة تاريخ عمارة "البيت" العربي, وحيث تسود دراسة الفترات المعمارية كطرز معمارية, ومن هنا يحصل التباس لدي خريجي العمارة من المعاهد العربية في فهم العمارة العربية ويعتقد المعظم أنها عبارة عن طرز وأشكال معمارية فحسب, ويسود لديهم الإعتقاد بأن المبنى يمكن أن يتغير طرازه وشكله المعماري كمظهر خارجي كما يغيّر الرجل قميصه. وفي بحثه عن الحل فقد اتجه فتحي للريف المصري لفهم "طريقة البناء" التقليدية السائدة بين الفلاحين في أسوان. وبطريق التجربة والخطأ وبعد محاولات مضنية يسردها فتحي في كتابه "العمارة للفقراء" يتوصل فتحي لتطوير مجموعة من العناصر الفراغية التي يستعملها في عمارته والتي لها ارتباطات بتشكيل الحيز الفراغي في عمارة فتحي.


ويعتقد فتحي أن العمارة هي من أكثر الفنون التقليدية تعلقا بالتراث وبالموروث من القديم, ومن هنا كانت دراسته لأصول العمارة الفرعونية, وبيوت النوبة القديمة بأسوان حيث بنى الفلاحون بيوتهم بأنفسهم باستخدام الموارد الطبيعية المتوفرة, لاستخلاص مجموعة من الدروس والأفكار التي استفاد منها لاحقا في تطبيقاته المعمارية. وقد كان دافعه لذلك هو البحث عن بديل لعملية البناء الحديثة باستخدام أخشاب البناء في إقامة السقف للمباني بالطرق الحديثة, والتي تعذر الحصول عليها في الحرب العالمية الثانية إذ احتكرها الجيش آنئذ لاستعمالات حربية. وقد كتب في مذكراته "العمارة للفقراء" عن بحثه المضني إلى أن نصحه أخوه بطريق المصادفة أنه ربما يجد ضالته المنشودة في قرى أسوان. ويسجل فتحي ذهوله من الواقع الرائع والعفوي الذي وجده حين زار لأول مرة تلك القرى التي ترسخ فيها تراث قديم متوارث بالبناء بالطرق التقليدية وبدون أي اعتماد على أخشاب البناء للتدعيم في بيوتهم التي كانت تغطيها القبوات والقباب وبمواد محلية من الطوب الطيني المخلوط بالقش كي يتماسك بعد أن يجف. 

وكتابات حسن فتحي في فلسفة "التراث" تظهر إدراكا عميقا لجوانب مهمة في دور التراث في المجتمع, دورته الحركية زمنيا, وفوق ذلك كله متعلقات التراث الإجتماعية الإقتصادية الثقافية. فالتراث يعني لحسن فتحي كل الخبرات الموروثة والتركة التي تناقلتها الأجيال, لكنه ليس بالضرورة يعني القدم بل ترتبط أهميته بدوره المجتمعي أكثر من بعده الزمني. والتراث كما يراه فتحي يعني مجموعة من "القرارات" التي تم اتخاذها لمجابهة إشكاليات معينة في فترة معينة تم تطويرها وتطويعها لتخدم غاية مجتمعية وقبلها المجتمع بمراحل "إجماعية" بما أكسبه خاصية الثبات النسبي. ويميز فتحي بين "التراث" المعماري في كتاباته عن "التراث" الإنساني, لكنه يربط بينها بروابط تشابه من حيث احتوائها على "دورة زمنية" تبدأ وتتطور صعودا نحو الإكتمال حيث تسهم الأجيال المتعاقبة في بناء تلك الدورة للتراث. ولكن هناك صورتان من صور التراث الإنساني اللتان تعودان لبداية الوجود البشري هما ضرب الطوب وصناعة الخبز.

ويرى فتحي أن ثمة أوجه للتراث رغم أنها لم تظهر إلا حديثا وكان ينبغي أن تكون في الطور الأول من دورتها إلا أنه قد ولدت ميتة, فهو يرى أن الحداثة لا تعني بالضرورة أن تكون "حيوية", وأن التغيير لا يكون دوما للأفضل. لكنه مع ذلك يرى أن هناك مواقف تستدعي الحداثة فلا يتوقع أحد من برج مراقبة المطار أن يكون مبنيا بأسلوب ريفي, كما أن الإنشاء الصناعي قد يفرض على المصمم تقليدا جديدا. ويستطرد فتحي في مذكراته فيقول أنه ما أن يتم إرساء وقبول تقليد بذاته حتى يكون من واجب "الفنان" أن يبقى على تواصل مع هذا التراث, على أن يعطيه من ابتكاره الذاتي ما يضمن "حركيته" حتى يصل إلى دورته الكاملة ويستكمل نموّه بالكامل. ويشير فتحي إلى أن الفنان سيتحرر بالتراث من قرارات كثيرة لكنه سيكون مضطرا لاتخاذ قرارات أخرى جديدة بنفس الأهمية ليمنع موت التراث.

"والحداثة" في مقابل التراث كما يراها فتحي هي:" التعايش الزمني في نفس الوقت مع الآخر", لكن ذلك المفهوم لا يتضمن الإختيار الواعي بالضرورة, وهو مفهوم ينسجم مع أطروحات الكثيرين من المفكرين في فلسفة التراث والحداثة. لكن فتحي يعتقد أن استخدام المعماريين لمفهوم الحداثة يرتبط ارتباطا وثيقا بقيم جمالية وفنية, وتبعا لذلك تتم نسبة العمارة الغربية للحداثة لارتباطاتها الزمنية, في الوقت الذي تتم فيه نسبة العمارة "الإسلامية" للتخلف تبعا لماضيها الزمني. ومن هنا يرى فتحي أن هناك خلطا كبيرا وسوء استعمال لفكرة الحداثة بناء على التسلسل الزمني الخطي "للحداثة" ومعناه الضمني. ولذا يرى فتحي أن التوفيق بين معنيي "الحداثة" الزمني الخطي التسلسلي وبين المعنى المغلوط لدى المعماريين يتم بفهم أن العمل المعماري المنتمي لزمنه أو وقته المعاصر يجب أن يكون جزءا من الحياة اليومية, وأن يكون منسجما مع مستوى الإنجازات البشرية في مختلف صنوف المعرفة والعلم الإنساني وكذلك العلوم الطبيعية التي لا يمكن فصلها عن العمارة والتخطيط. ومن هنا, يرى فتحي أنه من أجل إدراك المعيار الدقيق لمفهوم "الحداثة" يجب علينا إدراك العوامل التي تسبب التغيير, ولا نقوم بالتقليد بدون تقييم أو سيطرة, وألا ننقاد لهذه العوامل.

بالرغم من أن حسن فتحي يتعاطى مع "التراث" كمفهوم وفلسفة مجردة في كتاباته أحيانا, إلا أنه يعمد إلى إسقاطها سريعا على متعلقات العمارة عموما, والبيئة الريفية التي تأثر بها خصوصا. فحسن فتحي يميز في كتاباته عن التراث بين تراث البيئة الحضرية المبنية وبين التراث الريفي حيث يولي الأخير أهمية خاصة, وينظر بعين التعاطف مع حال الريف المتواضع. فنراه يكتب في مذكراته:"والتراث للفلاحين هو الضمان الوحيد لحضارتهم, ..., وإذا خرجوا عن قضبان التراث فسوف يلقون الهلاك حتما. إن الخروج عن التراث عمدا في مجتمع هو أساسا مجتمع تقليدي كما في مجتمع الفلاحين, لهو نوع من الجريمة الحضارية, ويجب على المهندس المعماري أن يحترم التراث الذي يقتحمه, أما ما يفعله في المدينة فهو أمر آخر, فالجمهور والبيئة المحيطة هناك يستطيعان العناية بأنفسهما (!)". ومفهوم التراث في فكر فتحي يرتبط ارتباطا وثيقا بالعمارة الريفية التي كانت محور تطبيقاته العملية وفكره النظري وجلّ اهتمامه – على الأقل في جزء كبير من حياته العملية ومن خلال كتاباته المختلفة, قبل أن يحوّل عمارة "الفقراء" التي طوّرها في حياته على شكل "نمطي" يسهل تمييزه كعمارة ذات صبغة خاصة به إلى عمارة "الأثرياء" في الخليج العربي في أواخر سنوات ممارسته للمهنة. 


وبرغم تطرقه لمفهوم "التراث" في مقابل "البيئية" (The Tradition versus the Vernacular), إلا أن فتحي يستعمل الإثنين في مواضع محددة تخدم غايات متباينة. فالتراث بالنسبة لحسن فتحي يعني مفهوما نظريا فلسفيا مجردا يعنى بمعالجة واسترجاع مضامين وقيم اجتماعية, بينما يرى أن مفهوم "البيئية" يسجد التعامل مع عناصر الطبيعة المحيطة ومفاهيم متعلقة بالبيئة "وعملية البناء" وما يهمها ويرتبط بها, بالرغم من أن "البيئية" أو (Vernacular) قد تظل لها متعلقات اجتماعية كما في عملية "التعاون الجماعي" أو (self-help) كعملية اجتماعية مرتبطة بالبناء, لا فقط كمجرد مفهوم مرتبط بمواد البناء المحلية أو القوانين المناخية المحددة للإقليم الجغرافي. ومن هنا يبحث فتحي في كتاباته المختلفة في الأدوار "التاريخية" للعديد من المفردات التقليدية التي حفلت بها العمارة العربية كملقف الهواء والفناء والقاعة وغيرها, وأجرى أبحاثا علمية لقياس سرعة ودرجة حرارة الهواء في هذه العناصر الفراغية التقليدية.
ويرى فتحي أن الفتحات الكبيرة والمنشآت الخرسانية "والصناديق" الواقفة أو (free standing) في العمارة الحديثة ليس لها معنى في المناخات الحارة أو في المجتمعات التي سادت فيها تراثات ضاربة في القدم باستخدام الأفنية والتي تجسد ضروبا من التجارب المجتمعية الرائدة في التعامل مع درجات الحرارة العالية وفي تأمين الخصوصية المطلوبة. ويعلق (Curtis) في كتابه (Modern Architecture since 1900) على مرجعية فتحي للعمارة الفرعونية بأنها "فكرة للعودة لأصول الحضارة المصرية والتي تعاملت مع الطين والعوامل البيئية في الجزء الجنوبي من مصر. ففتحي كان يأمل في أن يعيد بعث العمارة في مصر من جديد من جذورها بتشجيع الفلاح أن يبني لنفسه بأساليب وأشكال هي رخيصة غير مكلفة وفي نفس الوقت أثبتت نجاعتها عبر الأجيال", 
د. وليد أحمد السيد
معماري وأكاديمي –لندن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق