اخر الاخبار

16‏/04‏/2012

احتفالًا بالربيع بقلم سلامة احمد سلامة

أطل من نافذتى على ميدان صغير فى حجم الكف، يحتضن شجرة جميلة ضخمة معمرة، أود فى كل يوم لو احتضنتها وقبلتها عرفانا وحبا لما تمنحه حولها من خضرة وجمال. وما تنبض به من أنس وظلال وسط أجواء متقلبة ورياح متربة. ولكننى لا أستطيع أن أصل إليها عبر شجيرات وأعشاب نمت حولها. جفت وطالت وصارت مأوى للحشرات والقمامة نتيجة الإهمال.. تسقط أوراقها فى الشتاء ولكنها لا تتعرى أبدا. وتمتد أغصانها إلى السماء فى كل اتجاه بعيدا فى الفضاء، كما تمتد عروقها فى باطن الأرض. تشكل بناء معماريا فخما من صنع الطبيعة.
أرقبها وهى تنتظر مقدم الربيع. فأراها وهى تتنفس نسماته الدافئة. تودع فصلا من فصول الحياة وتتهيأ لاستقبال الصيف بحّره ولزوجته. وشيئا فشيئا تستعيد غطاءها من الأوراق الخضراء.. يتحول الربيع عندى إلى سيمفونية بديعة من شقشقة العصافير وغناء البلابل فى الصباح مع طلول الشمس. ثم تتجمع أعداد غفيرة منها قرب الغروب لتصدح بأحاديث وثرثرات طويلة لا تنتهى إلا مع حلول الظلال. تذكرنى ببرامج التوك شو، ومليونيات ميدان التحرير. وكأنها جزء من طقوس تفرضها الطبيعة على الطير والإنسان معا كل بطريقته.
 
بعض هذه الطيور جاء من أقصى الشمال هربا من الصقيع والبرد. والبعض الآخر قطع رحلة هجرة شاقة إلى الجنوب وتوقف فى هذه البلاد طلبا لإجازة عابرة ليست من الشواطئ الممنوعة أو المحرمة.. أنواع من العصافير والطيور لا يشاهدها المرء عادة طوال السنة. وكم وددت أكثر من مرة لو تفرغت لمراقبتها وتتبع مساراتها كما يفعل بعض الهواة الذين يجعلون من مراقبة الطيور هواية وعلما.. يعرفون اسماءهم وأوصافهم وأنواعهم ومواسم تكاثرهم ومواطن سلالاتهم.
 
بقيت هذه الشجرة فى ذاكرتى رمزا لأعياد الربيع كما كنا نحتفل بها فى الطفولة والشباب. كان الواحد منا خالى البال ينتظر حلول شم النسيم بصبر فارغ ليخرج مع الأصدقاء، والأقارب إلى الخلاء فى الريف. أو إلى الأهرامات والشواطئ قبل أن تضيق الأرض علينا بما رحبت، وتزدحم البيوت والشوارع أو يملأ ضجيج الميكروفونات وأبواق السيارات أجواز الفضاء. ويصبح الانفلات الأمنى سيد الموقف، أو تفرض القيود الشرعية للجماعات أحكامها وموانعها على الأندية والشواطئ. وهكذا لم يبق أمام عامة الناس غير حديقة الحيوانات بأشجارها المهترئة، وأقفاص حيواناتها المهجورة، أو زوارق النيل المكتظة فوق طاقتها استعدادا للغرق!!
 
ارتبط شم النسيم فى الموروث الشعبى الذى عرفناه، بالموسيقى والغناء والطرب. وكان مقدم الربيع إيذانا بموسم جديد من الغناء للحب والجمال والاستمتاع بمباهج الحياة. يشارك فيه كبار المغنين والموسيقيين، ويشيع على الحياة فى مصر جوا من البهجة والتفاؤل. ولكن شم النسيم يأتى هذه الأيام فى أوقات مضطربة ليغطى على التحرشات الجنسية والعقلية فى الشوارع والميادين، وفى منابر الإعلام والسياسة.يضيف إلى حالة الإحباط العامة إحساسا بالكبت والحيرة والقلق.. كل شىء يخضع لمنطق القوة والإرهاب المعنوى حتى فى أهون الأمور التى يمارس فيها الفرد حريته الشخصية، وأصبح انتزاع الحقوق بأحكام القضاء يتم بالقوة والإكراه والضغط.
 
لذلك لم يكن غريبا أن تمتلئ الشوارع بالقمامة، والنفوس بالمكر والخديعة. وأن تتحول الميادين إلى ساحة للفوضى والإهمال.. اختفت الحدائق الخضراء خلف تلال من المخلفات. وأصبح انتهاك الخضرة والاعتداء على الأشجار والنباتات ممارسة عادية للكبار والصغار. وانعكس ذلك على السير فى الشوارع، فلا أحد يهتم بعلامات المرور أو يحترم أصول القيادة.. بل أضحى السير فى الشوارع مخاطرة غير مأمونة وميدانا لصراع يومى لا يتوقف!
 
وحين تصل أزمة النظافة فى مدينة كبرى هى عاصمة العالم العربى إلى درجة مستعصية، وتستعين الدولة بشركات نظافة أجنبية لتساعدها فى جمع القمامة ورفع المخلفات والتخلص منها، وتغيب ثقافة النظافة والأناقة عن بيوت المصريين وعاداتهم وأسواقهم، بحيث تغرق المدارس والمستشفيات فى مقالب الزبالة.. فلا يمكن لأحد أن يتحدث عن جمال الربيع أو يستشعره فى أماكن يسودها القبح وتتهددها الأوبئة. وتصبح غاية المتعة عند الناس أكل الفسيخ وإلقاء مخلفاته وراءهم فى كل مكان.
 
نريد مليونية تطالب بعودة الربيع. والنظافة إلى الشوارع والمؤسسات. والصفاء إلى القلوب والعقول!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق