اخر الاخبار

11‏/09‏/2011

الريان.. نظام فاسد .. ورأس مال مستغل بقلم: فاروق جويدة

بقلم: فاروق جويدة
farouk goweda
مازلنا نذكر واحدة من أكبر جرائم النظام السابق فى حق هذا الشعب وهى مسلسل شركات توظيف الأموال الذى اجتاح فى سنوات قليلة مدخرات الملايين من أبناء الشعب الغلبان ومنهم من مات كمدا ومنهم من انهى حياته مختارا وانتحر ومنهم قلة قليلة استطاعت أن تقاوم هذه المحنة وتواصل مشوارها مع الحياة.. لاشك أن مسلسل شركات توظيف الأموال كان واحدا من أشهر مسلسلات الفشل الحكومى والفساد الإدارى وأسلوب الفهلوة والتحايل الذى اتسم به أداء أجهزة الدولة المصرية والذى وصل فى النهاية إلى ما شاهدناه بعد ذلك من كوارث وأزمات.
ظهرت شركات توظيف الأموال مع نهاية فترة السبعينيات وسياسة الانفتاح الاقتصادى التى أعلنتها الدولة فى ذلك الوقت وبدأ عدد من المغامرين فى إنشاء هذه الشركات التى قام نشاطها على جمع مدخرات المصريين فى الداخل والخارج.. فى هذه الفترة كان عدد من المصريين العاملين فى الخارج خاصة فى دول الخليج قد جمع مدخرات كبيرة أمام ارتفاع أسعار البترول والطفرة الاقتصادية التى شهدتها هذه الدول فى ذلك الوقت وزاد عدد العاملين المصريين فى الخارج وارتفع حجم مدخراتهم.
وفى هذا الوقت طافت وفود من شركات توظيف الأموال على المصريين فى هذه الدول وجمعت مدخراتهم تحت إغراء شديد بسعر فائدة وصل فى بعض الأحيان إلى أكثر من 30% وكانت هذه المعدلات فى سعر الفائدة شيئا غير مسبوق على الإطلاق.. زاد نشاط هذه الشركات وزاد عددها وارتفع حجم الأموال فيها حتى وصل إلى مليارات الجنيهات وملايين الدولارات.. وتحولت شركات توظيف الأموال إلى دولة داخل الدولة خاصة أنها وجدت تشجيعا كبيرا من المسئولين فى الدولة على أعلى المستويات بل إن كبار المسئولين أودعوا أموالهم فى هذه الشركات وحصلوا على أرباح مذهلة والأخطر من ذلك أن أجهزة الدولة ومنها مؤسسات سيادية أودعت مئات الملايين فى هذه الشركات.. ومع حملات إعلانية وإعلامية مكثفة أصبحت شركات توظيف الأموال فى صدارة المؤسسات الاقتصادية للدولة.. وعلى صفحات الجرائد وشاشات التليفزيون أطلت صور كبار المسئولين يصافحون المسئولين فى هذه الشركات ويباركون نشاطهم وهنا اندفع ملايين المصريين لإيداع مدخراتهم فى هذه الشركات تحت تأثير وهم أن الدولة تساندهم.

لا أحد يعلم كم عدد المواطنين الذين أودعوا أموالهم فى هذه الشركات ولا أحد يعلم كم بلغت إيداعات المواطنين فيها وإن كان المؤكد أنها وصلت إلى المليارات فى ذلك الوقت.. ولا أحد يعلم وهذا هو الأهم كم أخذ كبار المسئولين من هذه الإيداعات فى صورة رشاوى وكشوف بركة وعمولات وقد شملت هذه الكشوف مئات بل آلاف المسئولين والإعلاميين والصحفيين ورجال الأعمال والسلطة ومجلس الشعب والوزراء والمحافظين.. هناك أسماء كثيرة دخلت حظيرة البركة التى شيدتها شركات توظيف الأموال.

والغريب فى الأمر أن النظام السابق تعامل مع هذه الظاهرة بصورة مريبة حين فتح لها كل الأبواب وفجأة أغلق كل شىء وقرر تصفيتها بالكامل بعد أن وضع يده على كل ما لديها من ودائع وأصول عقارية ومصانع ووحدات إنتاجية وعقارات.

حتى الآن مازال هناك سؤال غامض حول هذه الشركات لماذا فتحت الدولة كل الأبواب أمامها لتجمع مدخرات الناس.. ولماذا أغلقت الدولة هذه الأبواب وأطاحت بالعاملين فى هذه الشركات ما بين السجون والمعتقلات.. ولماذا كان كل هذا المسلسل الرهيب؟.

وأخيرا ظهر مسلسل فى شهر رمضان يتناول حياة واحد من أكبر رجال الأعمال الذين خاضوا هذه التجربة.. وقد تكون هذه هى المرة الأولى التى يتناول فيها الفن الدرامى تجربة شركات توظيف الأموال فى مصر. كان مسلسل الريان أول عمل متكامل يخوض فى هذه التجربة.. هناك من اقترب منها على استحياء فى مسلسلات سابقة وان افتقدت الأمانة التاريخية فى مناقشة هذه الظاهرة الخطيرة خاصة ما يتعلق بالفساد الحكومى والإدارى ممثلا فى أجهزة الدولة وكبار المسئولين المرتشين.

كان من الواضح أن المعالجة الدرامية لمسلسل الريان قد كتبت قبل ثورة 25 يناير ولهذا اعتمد السيناريو على الجانب الشخصى فى حياة الريان من حيث تعدد الزوجات والتلاعب فى الاسواق وكيفية جمع المدخرات من المواطنين ولم يقترب المسلسل إلا قليلا من فساد أجهزة الدولة وهو العامل الأهم والأخطر فى تاريخ شركات توظيف الأموال.

كان التركيز فى مسلسل الريان على العلاقات النسائية ورحلة الصعود بجوانبها الإنسانية ثم رحلة الانكسار والتراجع والسجن ولو أن هذا المسلسل تمت كتابته بعد الثورة لأصبح له شأن آخر لأن الفساد الحكومى هو الأساس الذى قامت عليه تجربة شركات توظيف الأموال فى مصر.. كان من الممكن أن يكون هناك جانب آخر وهم ضحايا شركات توظيف الأموال وما حدث لهم وهناك مآس كثيرة خاصة بعد تصفية هذه الشركات.. هناك أيضا عمليات بيع أصول هذه الشركات وأموال المواطنين وما حدث فيها من عمليات النصب والتحايل فقد باعت الدولة أصول الشركات بمبالغ ضئيلة وكان ذلك كله على حساب المودعين..

هناك أيضا الأساليب المغرضة التى مارستها بعض أجهزة الدولة للحصول على مدخرات العاملين فيها دون النظر إلى حقوق الآخرين.. هناك أجهزة سيادية حصلت على ودائعها لدى هذه الشركات ومعها أرباحها كاملة بنسبة 30% وهنا أيضا تجاهل المسلسل كشوف البركة والأسماء التى جاءت فيها وشملت أعدادا كبيرة من الأسماء اللامعة فى السلطة والإعلام.

إن تحويل مسلسل الريان إلى قصة حياة رجل مزواج مغامر محظوظ ثم ضحية أسقطت تماما جزءا مهما من تاريخ هذه المرحلة ولو أن المسلسل اقترب أكثر من فساد السلطة لأصبح وثيقة تاريخية مهمة فى تاريخ مصر المعاصر ولكنه للأسف الشديد خاض فى فرعيات كثيرة وتجاهل الأرض التى أخرجت كل هذا الفساد وكل هذا الظلم.

هناك شخصيات كبيرة ارتبطت بتجربة الريان منذ بدايتها وحتى نهايتها هناك وزراء ومسئولون كبار وإعلاميون وقفوا وراء هذه التجربة واستفادوا منها وجمعوا الملايين وتصدروا كشوف البركة التى كانت تمثل إحدى وثائق الفساد للنظام السابق.. هناك قيادات أمنية وصحفية وسياسية عملت فى شركات الريان وكانت جزءا أساسيا فيها ولكن للأسف الشديد غابت كل هذه الحقائق واختفت أمام تعدد الزوجات والإدمان ومضاربات البورصة.

الشىء المؤكد أن المسئولين عن هذا المسلسل لم تكن لديهم الشجاعة الكافية للاقتراب ولو من بعيد من رموز النظام السابق الذين وقفوا خلف هذه الكارثة.. وبجانب هذا هناك حقائق كثيرة غابت ومن أهمها وأخطرها حجم الودائع والأصول التى تركها الريان فى شركاته قبل أن يدخل السجن وما هو مصير هذه الودائع وكيف تم بيع الأصول وما هو مصير ضحايا الريان.

هناك سؤال أخطر وهو: لماذا انقلبت الدولة على شركات توظيف الأموال وهل هناك علاقة بين إغلاق هذه الشركات وقضايا الإسلام السياسى فى العالم العربى؟..

إن البعض يرى أن ما حدث لشركات توظيف الأموال كان يمثل الشق الثانى فى عمليات تصفية التيارات الإسلامية ومنها جماعة الإخوان المسلمين فى مصر لأن تجربة الريان والشركات الأخرى كانت تجارب إسلامية وجدت أصداء واسعة فى الشارع العربى من حيث النجاح والمصداقية.

إن الشىء المؤسف أن مسلسل الريان كان من الممكن أن يتناول جانبا تاريخيا فى الحياة السياسية والاقتصادية فى مصر وهى الفترة التى شهدت نمو التيارات الإسلامية التى فاجأت الجميع بعد ثورة 25 يناير.. كما أنها تجربة اقتصادية كانت جديرة بأن تناقش بكل جوانبها من حيث الفشل والنجاح والإيجابيات والسلبيات.

فى مسلسل الريان كنا أمام وثيقة تاريخية مهمة لم تكتمل عناصرها ولهذا تحولت التجربة إلى صراع نسائى ممتع فى المشاهدة خاصة أمام فريق من الفنانين الكبار الذين أجادوا واخلصوا ولكن للأسف الشديد افتقد المسلسل أهم عناصر العمل الفنى وهو الحقيقة ولو أن هذا المسلسل ذكر شيئا ضئيلا من حقيقة المناخ والظروف التى ظهرت فيها شركات توظيف الأموال لكان له شأن آخر كدراما تاريخية.

وإذا كان الريان أمام ظروفه المالية الصعبة وسنوات السجن والمعاناة قد وافق على إنتاج هذا المسلسل بأقل من نصف مليون جنيه تقاضاها من المنتج فإنه يستطيع الآن أن يكشف أوراقه ويعلن رحلته مع نظام فاسد فتح له كل الأبواب ثم ألقى به فى السجن.

لقد كانت تجربة شركات توظيف الأموال هى الخطوة الأولى نحو الزواج الباطل بين السلطة ورأس المال فقد بدأ هذا الزواج على استحياء فى كشوف البركة ولكنه تحول إلى وثيقة تاريخية لعلاقة مشبوهة بين نظام فاسد ورأس مال مستغل وكانت النهاية كل الكوارث التى لحقت بنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق