اخر الاخبار

09‏/09‏/2011

الجيش والثورة من الميدان إلي الانتصار لقاء المواجهة في القصر الجمهوري بقلم مصطفي بكري

كتبها علي حلقات: مصطفي بكري

في الحلقة الثالثة من كتاب ' الجيش والثورة .. من الميدان إلي الانتصار ' يستعرض الكاتب الصحفي مصطفي بكري مؤلف الكتاب وقائع الفترات الصعبة التي عاشتها القوات المسلحة ' وتصديها لعمليات البلطجة الواسعة التي عمت انحاء البلاد وكادت تؤدي بها إلي فوضي عارمة ويكشف الكاتب في هذا العدد أسرار تنشر للمرة الأولي عن وقائع ما جري خلال الزيارة المفاجئة للرئيس مبارك ونائبه عمر سليمان إلي مركز عمليات القوات المسلحة التي اصطحب فيها نجله جمال مبارك، ثم طلب من قادة الجيش عدم إظهاره في الصور التي سوف تبثها وسائل الإعلام، وبذلك يجيب الكاتب عن سر اختفاء صورة المشير طنطاوي من هذا اللقاء عند بثه في وسائل الإعلام، ويرصد الكاتب مجريات الأحداث وصولاً إلي اللقاء التاريخي الذي عقد بمقر رئاسة الجمهورية بحضور نائب الرئيس عمر سليمان ورئيس الوزراء أحمد شفيق ووزير الدفاع حسين طنطاوي ورئيس الأركان سامي عنان إضافة إلي قائد الحرس الجمهوري وهو اللقاء الذي بدا الرئيس خلاله غاضبا من قيادة الجيش بسبب البيان الذي أصدرته القوات المسلحة ظهر ذات اليوم الذي أكدت فيه وقوفها مع الشعب في ثورته وتفهمها لمطالبه المشروعة .
أحدث البيان الصادر عن القوات المسلحة في الأول من فبراير، ردود أفعال قوية لدي الشارع المصري، أدرك الجميع أن الجيش قد حسم خياراته، وانحاز إلي الثورة، وتفهم مطالبها المشروعة .. ازداد لهيب الهتافات في الشوارع والميادين، شعر الثوار بأن دماء الشهداء لن تذهب سدي، تعانق رجال الجيش مع المتظاهرين، هتفوا سويًا ' الشعب والجيش ايد واحدة '..
وفي المقابل كانت ثورة جمال مبارك علي هذا البيان شديدة، الآن أدرك نجل الرئيس أن كل شيء قد انتهي، إنه يعرف جيدًا أن البيان لا يعبر فقط عن المشير أو رئيس الأركان، بل عن كل أعضاء المجلس الأعلي للقوات المسلحة، وعن الجيش المصري بأسره، لكنه رفض الاستسلام .
كان جمال مبارك يعرف أن الفرصة لاتزال سانحة، بدأ يتشاور مع بعض المقربين إليه لترشيح عدد من الأسماء يختار من بينها الرئيس بديلاً للمشير طنطاوي ولرئيس الأركان سامي عنان، كان هذا هو خياره الوحيد ولا خيار غيره، وإلا انهار النظام وسقط الرئيس وتبدد حلم التوريث .
في البداية كان الخيار المطروح هو قائد الحرس الجمهوري، ولكن البعض نصح جمال بأن يكون الاختيار من بين العناصر المتقاعدة التي تركت الخدمة وليس لها أي علاقات قوية بقيادات الجيش الحالية .. عندما فاتح جمال مبارك والده بهذا الأمر، كان من رأي الرئيس الانتظار لحين إنهاء المظاهرات، خوفًا من أن يتسبب هذا القرار في حدوث حالات تمرد، خاصة أن القوات المسلحة لا تزال في الشارع حتي الآن، وهو أمر أصاب جمال مبارك بحالة من الإحباط، وراح يتهم والده بالتردد، ولم يجد مبارك أمامه من خيار لتهدئة نجله، سوي القول بأنه سوف يستدعي المشير ورئيس الأركان لإجبارهما علي التراجع عن موقفهما ..



كان مبارك قد طلب في كلمة بثها التليفزيون بعد منتصف ليل 28 يناير من الحكومة أن تقدم استقالتها، وكان قد وعد بأنه سيكلف الحكومة الجديدة بتكليفات واضحة ومحددة للتعامل الحاسم مع أولويات المرحلة الراهنة، غير أن الخطاب لم يشف غليل المصريين !!
كان الفراغ الأمني قد بلغ أشده في هذا الوقت، وقد تسبب هذا الفراغ في ارتكاب جرائم كبري ضد المنشآت والمواطنين، وعلاوة علي مئات الشهداء والجرحي الذين سقطوا في هذا اليوم، توقفت السياحة وتعطلت حركة المواصلات بين المدن والمحافظات وتكبدت البلاد خسائر بالمليارات .
في الخامسة والنصف من مساء نفس اليوم، كان قرار حظر التجول قد صدر، وكان رئيس الجمهورية قد أصدر في نفس التوقيت قرارًا بأن يقوم الجيش وبمشاركة الشرطة بتنفيذ المهام الخاصة بالحفاظ علي الأمن وتأمين الممتلكات العامة والخاصة ونسي أن الشرطة كانت قد اختفت عن الأنظار .



كانت القوات المسلحة قد أعدت خطة عسكرية للانتشار حملت اسم ' إرادة ' ، وكانت هذه الخطة قد وُضعت لمواجهة أي تداعيات شعبية إذا ما صدر قرار بتوريث الحكم في البلاد، وبدت المهمة أمام الجيش صعبة للغاية، بفعل تدهور الأوضاع وزيادة حدة العنف والتظـاهرات .
كان المشير طنطاوي يقيم إقامة كاملة داخل هيئة العمليات بمبني وزارة الدفاع بالقوات المسلحة، وعندما عاد الفريق سامي عنان ووصل إلي مبني هيئة العمليات في الثانية عشرة من ظهر الجمعة ٩٢ يناير قادمًا من الولايات المتحدة، فإنه لم يغادر المبني ولم ير أيًا من أفراد أسرته لأكثر من ثمانين يومًا متواصلة، وهو الأمر نفسه الذي انطبق علي المشير وعلي غالبية أعضاء المجلس الأعلي للقوات المسلحة .
وفي أول لقاء لي بالمشير طنطاوي بعد الثورة في صباح الأحد ٠٢ أبريل بمكتبه بوزارة الدفاع فوجئت عندما شاهدته وقد فقد من وزنه الكثير، غير أنه وعلي مدي أكثر من ساعة في حوار متصل كان يبدو سعيدًا للغاية بالثورة، وقال : ' لقد حسم الجيش موقفه منذ اللحظات الأولي، لقد كنا مع الشعب وسنبقي مع الشعب '.
كانت المهمة ثقيلة .. هكذا اختصر المشير الأوضاع في البلاد منذ الثامن والعشرين من يناير، تاريخ نزول قوات من الجيش إلي الشارع لكنه أشار إلي أن القوات بدأت في تنفيذ مهامها الموكلة إليها وواجهت التحديات المفروضة عليها بكل شجاعة وقوة، وعندما التقيت المشير مرة أخري في لقاء مطول في الثامن من يونيه الماضي كانت التحديات لاتزال تفرض نفسها، وكان المشير مصمما علي إنجاز مهام المرحلة الانتقالية بأقصي سرعة .
لم يكن الجيش طامعًا في السلطة، بل حتي بعد انتصار الثورة رفض المشير الانتقال إلي القصر الجمهوري، وعندما أدت حكومة شفيق ' المعدلة ' ومن بعدها حكومة ' شرف ' اليمين الدستورية صمم علي أن تؤدي الحكومة الجديدة اليمين داخل مقر وزارة الدفاع، ورفض وجود ' ياوران ' إلي جواره، وظل ولا يزال يتعامل علي أن وجوده مؤقت ومرهون بتسليم السلطة إلي حكومة مدنية ورئيس منتخب .
كان المشير يتعامل مع الأحداث بهدوء أعصاب، أذهل الجميع، كان يتابع وقائع ما يجري علي الأرض وردود الفعل الإقليمية والدولية، دون أن يؤثر ذلك علي قناعاته، فقد أدرك منذ البداية أن الملايين المحتشدة في الشوارع والميادين لن تعود إلي بيوتها خالية الوفاض .
كانت الولايات المتحدة ترقب موقف الجيش بدقة، وكان رئيس الأركان سامي عنان قد أشار خلال حفل عشاء أقامه له مساعد وزير الدفاع الأمريكي للأمن الإقليمي مساء ٧٢ يناير بواشنطن إلي أن الجيش إذا قدر له النزول فلن يتخلي عن رسالته الوطنية ولن يتدخل إطلاقًا ويستخدم العنف ضد الشعب .. انه الكلام نفسه الذي كرره الفريق عنان لقائد القوات الأمريكية المشتركة الذي بعث به الرئيس أوباما إليه خصيصًا إلي قاعدة آندروز قبيل مغادرته عائدًا إلي مصر في الثامن والعشرين من يناير .
في هذا اليوم الثامن والعشرين مند يناير، وبعد تأزم الأوضاع في الشارع كان الرئيس أوباما يجري اتصالاً هاتفيًا مع الرئيس مبارك استمر لأكثر من نصف ساعة، وكان أوباما يحث الرئيس في هذا اللقاء علي إجراء إصلاحات جذرية في البلاد، غير أن مبارك احتد خلال حواره مع الرئيس الأمريكي ، مؤكدًا أن الأوضاع في البلاد ستعود إلي مسارها الطبيعي بعد قليل، وأن الجيش المصري قادر علي حسم الأمور، وأنه ماضٍ في طريق الإصلاح، ولكن دون إملاءات من أحد !!
أدركت الإدارة الأمريكية أن مبارك لن يستجيب لنداءات الإصلاح بالشكل الكافي، فبعد النداءات التي أطلقها الرئيس أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون بتجنب استخدام العنف ضد المتظاهرين والمطالبة باتخاد خطوات حقيقية للإصلاح، كان هناك بيان لا يخلو من دلالة أصدره البيت الأبيض وحذر فيه من أن الولايات المتحدة ستراجع سياسة المساعدات الاقتصادية لمصر بناء علي تطور الأحداث .
لم تكن واشنطن وحدها المعنية بالتطورات الجارية في مصر، لقد أعلنت روسيا عن قلقها وناشدت الدول الأوربية السلطات المصرية التوقف عن العنف، وطالب السكرتير العام للأمم المتحدة بعدم تصعيد الموقف .. في حين أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أوامره للمسئولين الإسرائيليين بعدم التطرق إلي الموقف في مصر في هذا الوقت تحديدا .



تصاعدت أحداث العنف وأعمال البلطجة والفوضي والنهب والسلب وإحراق أقسام الشرطة وفتح السجون والاعتداء علي المرافق والمستشفيات ومقرات الحزب الحاكم فقرر الحاكم العسكري تمديد فترة حظر التجول لتصبح من الرابعة مساء حتي الثامنة من صباح اليوم التالي .
في هذا اليوم استطاعت قوات الجيش القبض علي عشرات البلطجية وحماية العديد من المنشآت والتصدي للمهاجمين، إلا أن الأحداث التي كانت تجري باتت أكبر من إمكانية التصدي لها في هذا النطاق الواسع من ربوع الوطن .
لقد اضطر البنك المركزي إلي إصدار قرار بتعطيل العمل في البنوك، كما علقت البورصة تعاملاتها، وقرر اتحاد الشركات السياحية في كل من اليابان وفرنسا وإيطاليا وأمريكا والبلدان الأخري سحب جميع الرعايا والسائحين من مصر مما أدي حالة فوضي عارمة في المطارات المصرية .
في هذا اليوم تصاعدت أرقام الخسائر لتصل إلي نحو ٢٩ شهيدًا و ٠٥٢١ جريحًا، كما أعلنت الشرطة أن خسائرها وصلت حتي هذا اليوم إلي ما يقرب من ٠٠٥ ضابط و ٠٠٠١ مجند بين شهيد وجريح .
وفي مواجهة تطور الأحداث علي هذا النحو الخطير أصدرت القوات المسلحة بيانًا في هذا اليوم ناشدت فيه المواطنين التزام الهدوء وقال البيان ' أيها الإخوة المواطنون، يا شباب مصر الواعي، يا رجال مصر الأوفياء، يا أبناء مصر الشرفاء، إن القوات المسلحة تناديكم بالتصدي لمن يقومون بأعمال التخريب والسرقة والنهب وتهديد الأسر والعائلات في الشوارع و في بعض المنازل وترهيبهم وتخويف أبنائكم '.. وطالب البيان المواطنين بالالتزام بتعليمات حظر التجول، مشددا علي أنه سوف يتم التعامل بكل قسوة وشدة والقبض علي الأفراد والخارجين علي القانون .
وناشد البيان الأهالي أن يتصدوا لهؤلاء الأفراد لحماية ممتلكاتهم وشرفهم، مع تأكيد التزام القوات المسلحة بحماية أمن مصر وسلامة أبنائه



وإلي جانب ذلك اتخذت القوات المسلحة إجراءات عملية في مواجهة الشكاوي المقدمة من المواطنين والتي تضمنت اعتداءات علي الممتلكات والأفراد، وذلك بالدعوة لتشكيل لجان شعبية في المناطق المختلفة، بالتنسيق مع رجال الشرطة العسكرية .
لم تستطع تلك الإجراءات وقف الاعتداءات خاصة بعد هروب عدد كبير من المسجونين في السجون العامة وأقسام الشرطة مما اضطر القوات المسلحة إلي إصدار بيان آخر يوم ٩٢ يناير يحمل مناشدة من المشير حسين طنطاوي لشباب مصر وأبنائها الأوفياء بالقبض علي المخربين والخارجين علي القانون من البلطجية وتسليمهم لرجال القوات المسلحة المنتشرين في المناطق المختلفة .
كانت التقارير تصل إلي مقر الرئاسة تباعًا تكشف عن مخاطر الفوضي التي بدأت تعم في البلاد، غير أن كثيرًا من هذه التقارير كانت تقف فقط عند حدود مكتب جمال مبارك الذي كان يرفض عرضها علي الرئيس، ويكتفي فقط بإطلاعه شفويًا علي بعض التطورات التي كان يسعي إلي التخفيف من حدتها ، ظنا منه أن الأمور ستعود إلي وضعها الطبيعي مع بقاء النظام بجميع شخوصه ورموزه الأساسيين .
في هذا الوقت أجري صفوت الشريف اتصالاً هاتفيًا بالرئيس، اقترح عليه فيه ضرورة إبعاد أحمد عز من منصبه كأمين لتنظيم الحزب الحاكم، بهدف تهدئة الأحوال في البلاد، وكأن صفوت أراد بذلك أن يحمّل أحمد عز وحده مسئولية اندلاع هذه التظاهرات .
كان أحمد عز رجل النظام القوي، إلا أنه كان محسوبًا علي جمال مبارك، بينما كان صفوت الشريف هو من أقرب رموز النظام إلي الرئيس، وكان الصراع بين صفوت الشريف وأحمد عز يعكس طبيعة الصراع غير المعلن الذي كان سائدًا لفترة من الوقت بين الرئيس والوريث .
لقد كانت سلطة جمال مبارك طاغية علي والده، وكان الرئيس يبدو في كثير من الأحيان ضعيفًا أمام مطالبه خاصة بعد رحيل حفيده الذي كان مبارك يعطيه اهتمامًا خاصًا ووقتًا مفتوحًا بلا حدود علي حساب مهامه الرئاسية .
لقد استجاب مبارك لمطلب نجله جمال بالقيام بزيارة مفاجئة إلي مركز العمليات بوزارة الدفاع ليبعث من هناك رسالة للمتظاهرين تؤكد وقوف الجيش إلي جانب الرئيس، كان المشير ورئيس الأركان يتابعان ما يجري في البلاد وفجأة جاءهما إخطار عاجل صباح الأحد ٠٣ يناير، يقول : ' الرئيس مبارك ونائبه عمر سليمان في الطريق إلي مركز العمليات '.
دقائق معدودة، وكان الرئيس والوفد المرافق له يدخلون إلي مبني القوات المسلحة ويتجهون علي الفور إلي مركز العمليات الرئيس .. استقبلهم المشير طنطاوي القائد العام وبرفقته الفريق سامي عنان رئيس الأركان، وكانت الدهشة واضحة بعد أن رأي القادة العسكريون جمال مبارك يهبط من سيارة مرافقة للرئيس ونائبه عمر سليمان .
همس الرئيس في أذن المشير بأن يصدر تعليماته بعدم إظهار صورة جمال مبارك في هذا اللقاء في التليفزيون أو الصحافة وألا يأتي أحد علي ذكره، كانت المنصة الرئيسية تضم من اليسار كلا من الفريق سامي عنان وإلي جواره اللواء عمر سليمان ثم الرئيس مبارك ثم المشير حسين طنطاوي وخلف المشير طنطاوي بثلاثة صفوف كان يجلس جمال مبارك إلي جوار القادة العسكريين .
لقد نُشرت صورة هذا اللقاء في التليفزيون والصحف مركزة فقط علي صور الفريق عنان والنائب عمر سليمان والرئيس مبارك ولم تظهر صورة المشير طنطاوي، يومها تساءل الكثيرون عن السبب وعما إذا كان هناك موقف من المشير أم هي محاولة للوقيعة؟ .. ولم يعرف الناس أن الأمر كان مرتبطًا بعدم إظهار صورة جمال مبارك خلال اللقاء .. ولأنه كان يجلس خلف المشير طنطاوي، فكان طبيعيًا أن يظهر في الصورة حال ظهور المشير، ولذلك خرجت الصورة علي هذا النحو .
لقد استمرت زيارة الرئيس ونائبه ونجله جمال إلي غرفة عمليات القوات المسلحة حوالي عشر دقائق فقط، كان يبدو فيها الرئيس مرتبكًا، وقد بدا أن زيارته تلك كان المقصود منها التقاط الصورة فقط وكان جمال يأمل أن يحتل صدارة المشهد إلي جوار والده وعندما وجد أن صورته لم تظهر في وسائل الإعلام في اليوم التالي ثار وهاج ظنا منه أن قادة الجيش وراء ذلك ولم يهدأ له بال إلا عندما عرف أن والده هو الذي أصدر التعليمات، لقد طلب الرئيس خلال زيارته الاطلاع علي الموقف الميداني للقوات المسلحة في حماية المنشآت وتواجدها في الميادين والمناطق الرئيسية، وبالفعل قام المشير طنطاوي والفريق سامي عنان بإعطاء فكرة مختصرة عن الأوضاع، ثم سرعان ما انصرف وبرفقته الوفد الذي صاحبه في هذه الزيارة .
كان مبارك لديه هاجس كبير من احتمال التربص به واعتقاله أو اتخاذ أي إجراءات ضده في هذا الوقت، وهذا يفسر عنصر المفاجأة في زيارته، وعنصر السرعة أيضاً في انصرافه .



كانت أخبار حبيب العادلي وزير الداخلية قد اختفت من الساحة وفجأة ظهر في لقاء ترأسه اللواء عمر سليمان نائب الرئيس وضم أيضاً المشير طنطاوي القائد العام، وزير الدفاع، وكان الهدف من وراء هذا اللقاء هو التنسيق بين القوات المسلحة والشرطة لمواجهة الفوضي التي تمر بها البلاد .
وكان ظهور حبيب العادلي صادما للمواطنين الذين ظنوا أن النظام قد عزله من منصبه، وأنه قيد الإقامة الجبرية تمهيداً لمحاكمته، فازدادت حدة التظاهرات المطالبة بإسقاط النظام ومحاكمة قتلة المتظاهرين وفي المقدمة منهم وزير الداخلية .
في هذا اليوم الثلاثين من يناير شهدت البلاد حادثاً علي قدر كبير من الخطورة والأهمية، إذ فتحت أبواب السجون للافراج عن 34 من قيادات الإخوان المسلمين ونجاح خمسة أفراد ينتمون إلي حركة المقاومة الإسلامية حماس في الهرب من السجون والوصول إلي قطاع غزة بعد أن تم نقلهم عبر عربة اسعاف مروراً بالأنفاق علي الحدود، مما يؤكد وجود تخطيط مسبق لعملية الاقتحام، وهو ما تكرر مع محبوسين ينتمون إلي تنظيم حزب الله وصلوا بدورهم سريعا إلي لبنان .
ومع تدهور الأوضاع أصدر الحاكم العسكري قراراً بمد حظر التجول من الثالثة بعد الظهر وحتي الثامنة من صباح اليوم التالي، خاصة بعد تزايد الخسائر نتيجة المواجهات الأمنية داخل السجون وخارجها والتي أدت إلي مقتل 111 شخصاً في هذا اليوم معظمهم من البلطجية والخارجين وبعضهم مساجين عاديون قادهم حظهم إلي الموت .
في هذا الوقت تسلمت القوات المسلحة المسئولية التأمينية عن وزارة الداخلية وكافة أقسام الشرطة والسجون التي تعرضت لحوادث وعمليات إحراق وتدمير وتم إصدار التعليمات للطيران الحربي للقيام بدوره في مسح كافة المناطق التي كانت عرضة لأحداث التمرد والبلطجة، وبدت القوات المسلحة وكأنها في صراع مع الزمن للحيلولة دون انتشار الفوضي العارمة .
في هذا الوقت نجحت الشرطة العسكرية في القبض علي حوالي 3113 سجينا هارباً تمت إعادتهم إلي السجون التي هربوا منها، كما تصدت للعديد من العمليات الاجرامية التي استهدفت المنشآت والأفراد وقدمت مرتكبيها للمحاكمات العسكرية .
ومع اشتداد حدة المواجهات أصدرت القوات المسلحة بيانها الثالث والذي يتضمن دعوة المصريين إلي الالتزام بتطبيق قرار حظر التجول حتي تتمكن من ضبط العناصر الخارجة علي القانون، كما دعت المواطنين إلي المساعدة في القبض علي العناصر المخربة والسجناء الهاربين وتسليمهم لأقرب دورية أو وحدة عسكرية، وطالبتهم بسرعة الابلاغ عن أماكن تجمعاتهم والتحقق من صحة وحقيقة سيارات الاسعاف والشرطة المدنية المشكوك فيها والابلاغ عنها وتوخي الحذر عند التعامل معها .
وحذر البيان العناصر الخارجة علي القانون من أية محاولة للتعرض للممتلكات العامة والخاصة أو إشاعة الفوضي وترويع المواطنين وطالبت الهاربين من السجون بسرعة تسليم أنفسهم لأقرب نقطة شرطة عسكرية أو دورية للقوات المسلحة .
مع تزايد حشود المتظاهرين في اليوم السابع للثورة الموافق الاثنين 31 يناير وانضمام عناصر مختلفة إليها مثل القضاة وأعضاء هيئة تدريس الجامعات والفنانين والكتاب والصحفيين والإعلاميين وقيادات النقابات المهنية والمحامين لوحظ في هذه الفترة تدفق حشود كبيرة من جماعة الإخوان المسلمين التي كانت لها مشاركتها منذ بداية الثورة إلا أن دورها تصاعد بعد الثامن والعشرين من يناير جنبا إلي جنب مع قوي أخري عديدة من أحزاب وحركات احتجاجية وائتلافات شبابية، وفي هذا اليوم اتخذت هيئة السكك الحديدية قرارا بوقف حركة القطارات في جميع انحاء البلاد، خاصة بعد قيام متظاهرين بتعطيل الحركة والاعتصام فوق قضبان السكك الحديدية في العديد من المحافظات، كما أعلنت هيئة موانئ الإسكندرية عن توقف حركة الملاحة الداخلية والخارجية علي السواء، إضافة إلي ذلك تم وقف خدمة الرسائل النصية عبر الهاتف المحمول للحيلولة دون انتشار الأخبار والمعلومات التي من شأنها زيادة حدة التظاهر والتوتر في البلاد .
تزايدت حدة التظاهرات في هذا اليوم في محافظات القاهرة والإسكندرية والسويس و دمياط والإسماعيلية وبني سويف والدقهلية والبحيرة، وشهدت بعض المحافظات عودة تدريجية لرجال الأمن، خاصة في تلك المحافظات التي لم تشهد أحداث عنف خلال الأيام السابقة .
كانت المعلومات تصل أولا بأول إلي غرفة العمليات المركزية وكانت القرارات تصدر تباعا من المشير ورئيس الأركان لمعالجة الأحداث الطارئة وإصدار التعليمات اللازمة لذلك، ومع تزايد المخاطر حول منطقة ساحل البحر الأحمر وخليج السويس طلبت مصر من إسرائيل الموافقة علي إرسال قوة إضافية لحفظ الأمن في منطقة سيناء، وأثمرت المفاوضات عن موافقة إسرائيل علي نشر قوة مصرية قوامها 800 ضابط وجندي علي ساحل البحر الأحمر وخليج السويس ومنطقة شرم الشيخ بهدف السيطرة علي عمليات الانفلات الأمني داخل سيناء 



وسط هذه الأجواء وبعد أداء الحكومة الجديدة برئاسة الفريق أحمد شفيق اليمين الدستورية أمام الرئيس، كان اللقاء المنتظر مساء الأول من نوفمبر الذي ترأسه رئيس الجمهورية وحضره نائب الرئيس عمر سليمان ورئيس الوزراء أحمد شفيق والقائد العام، وزير الدفاع المشير طنطاوي ورئيس الأركان الفريق سامي عنان وقائد الحرس الجمهوري اللواء نجيب .
كان الرئيس غاضبا من البيان الذي صدر عن القيادة العامة للقوات المسلحة وهو البيان الأول الذي تحدث بصراحة عن حماية المتظاهرين والتأكيد علي مشروعية مطالبهم وتفهمها .
كان المشير والفريق عنان مستعدين للرد، بل والمواجهة مع الرئيس . لقد تلقي الفريق عنان اتصالات من عدد كبير من فقهاء القانون والدستور هنأوا فيها المجلس الأعلي بإصدار هذا البيان، بل إن أحدهم قال للفريق عنان الآن تأكدنا من نجاح الثورة كما أنه تلقي اتصالات من شخصيات مصرية عديدة .
وفي واحد من اللقاءات المتعددة لي مع الفريق سامي عنان، قال كنا نشعر بالإهانة والخجل من جراء ما يحدث في مصر، خاصة بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جري تزويرها علي أوسع نطاق، بهدف اسقاط كافة رموز المعارضة من التواجد داخل البرلمان .
وأشار الفريق عنان إلي أن المشير كان غاضباً، وكان يعبر عن غضبه بشكل علني من جراء ما يحدث في البلاد، و قال عندما وقعت الأحداث اتفقنا المشير وأنا علي حماية المظاهرات والانحياز للمطالب المشروعة للشعب المصري، وكان لدينا يقين بأن ردود أفعال مؤسسة الرئاسة لا تتناسب مع طموحات الجماهير وقد وجدنا هذا الموقف بالاجمال لدي أعضاء المجلس الأعلي للقوات المسلحة، بل إن البيان الذي صدر لقي ارتياحا واسعا داخل صفوف الضباط والجنود كما هو الحال لدي الشارع المصري .
أبدي الرئيس خلال اللقاء عتابه علي البيان الصادر لكنه حاول احتواء الأمر، إنه في مثل هذه المواقف لا يلجأ إلي المواجهة السريعة، كان فقط يريد أن تمر هذه الفترة وتنتهي المظاهرات وبعد ذلك تبدأ ساعة الحساب، وهو ما عبر عنه الفريق عنان خلال لقاء له مع نخبة من المثقفين بالقول ' لو كانت الثورة فشلت لاُعدمنا وشُنقنا جميعا وعُلقنا علي باب زويلة '.
لقد تساءل الرئيس موجهاً حديثه إلي المشير ورئيس الأركان عن السبب في إصدار هذا البيان، فكان رد المشير أن هذا البيان يعكس موقف القوات المسلحة الأساسي والمبدئي من رفض استخدام العنف ضد المتظاهرين، وأن هذا البيان هو تأكيد علي مواقف القوات المسلحة في حماية الوطن والشعب .



كان من رأي الرئيس أن هذا البيان سوف يشجع المتظاهرين علي الاستمرار في تظاهراتهم والإصرار علي رفع سقف مطالبهم، وأن ذلك ما كان يجب أن يتم دون التشاور مع رئيس الجمهورية والقائد الأعلي . وهنا تحدث الفريق سامي عنان عن مسئولية النظام السياسي فيما وصلت إليه الأوضاع والممارسات التي جرت خلال فترة الانتخابات وما شابها من تزوير، مؤكدا أن أحداً لم يسمع صوت الناس أو يلبي مطالبهم .
أما المشير طنطاوي فقد أكد في حديثه علي ضرورة تلبية مطالب المتظاهرين ولابد من وجود خطوات جادة تقنع الناس بأن أبواب الإصلاح الحقيقية قد بدأت وإلا فإن الأوضاع سوف تزداد تدهورا في الساعات القادمة .
أدرك الرئيس أن هناك اتفاقا بين المشير والفريق عنان في كافة المواقف، وفي هذه اللحظة بالضبط كان مبارك قد اتخذ قراره بعزلهما من قيادة الجيش في أقرب وقت ممكن .
كان لدي قادة القوات المسلحة إحساس يقيني بأن الرئيس سعي إلي تقوية جهاز الشرطة علي حساب الجيش، فقد زادت أعداد رجال الشرطة بشكل كبير علي حساب العدد الاجمالي للجيش وجري تسليح الشرطة بأسلحة متقدمة للغاية، حتي بدا الأمر وكأن هناك عدم ثقة في الجيش وفي مواقفه .
وكان مبارك يعرف أن الجيش يرفض بشدة مخطط التوريث ولذلك وافق علي مقترحات نجله جمال بتوفير كافة ضمانات القوة لجهاز الشرطة وتسليحه بأحدث الأسلحة والطائرات، حتي إذا ما حدثت المواجهة تكون الغلبة لقوات وزارة الداخلية علي حساب الجيش .
لقد بدا المسرح وكأن هناك إعداداً لحرب أهلية قادمة في الطريق، وراح رأس النظام يهمش دور الجيش وفاعليته في صناعة القرار ويسعي إلي الفرقة واذكاء المنافسة بين القوتين الأهم في البلاد كل ذلك من أجل أن يفتح الأبواب أمام نجله لوراثة مصر في أقرب فرصة ممكنة .
لقد أراد الرئيس خلال اللقاء أن يذكر المشير والفريق عنان بأن رسالة الجيش هي حماية الشرعية وأنه المسئول عن أمن النظام مسئولية كاملة، إلا أنه استمع إلي ردود من المشير والفريق تؤكد أن الوقت قد فات وأن الجيش ليس مستعداً للتورط في الصدام .
كان المشير حسين طنطاوي من القادة الذين يعتزون بتاريخهم العسكري، لقد كان قائد الكتيبة 16 التي خاضت واحدة من أشرس المعارك في حرب 6 أكتوبر 1973 .
لقد كان هو صانع أسطورة معركة ' المزرعة الصينية ' جنبا إلي جنب مع المقدم أحمد إسماعيل قائد الكتيبة 18 وكان يومها هو ايضا ضابط برتبة مقدم .
لقد وصف الخبراء العسكريون هذه المعركة بالقول إن الكتيبة 16 مشاة والكتيبة 18 مشاة تحملتا عبء أكبر معركة في حرب أكتوبر، إن لم تكن أكبر معركة في التاريخ الحديث من حيث حجم المدرعات المشتركة بها، كما كان لهذه المعركة أكبر الأثر في نصر أكتوبر المجيد .
كان المشير طنطاوي يرفض الحديث عن دوره البطولي في حرب أكتوبر، بل كان يرفض كافة طلبات الإعلاميين والصحفيين الذين سعوا إلي فتح هذا الملف من خلال حوارات معه، وبعد 30 سنة من هذه الحرب العظيمة وبعد زيارة لاسحاق موردخاي وزير الدفاع الإسرائيلي لمصر قال لقد فوجئت بأن المشير محمد حسين طنطاوي وزير الدفاع المصري هو نفسه قائد كتيبة المزرعة الصينية .



كان المشير مصمما علي الانحياز لخيار الشعب وحماية الثورة ومواجهة خصومها من الموالين للنظام مهما كان الثمن في المقابل لم يكن مسعدا أن يطوي تاريخه وأن ينحاز إلي السلطة علي حساب الشعب ومصالحه .
لقد أدرك أن وقت المواجهة قد بدأ وأن اتفاقا قد جري بينه وبين الفريق سامي عنان علي الصمود بكل جسارة مهما كانت الضغوط التي ستمارس عليهما .
حتي بدا الأمر وكأنهما مقبلان علي معركة عسكرية، لقد تذكر المشير الكلمات التي قالها لجندي مصري في خلال زيارته التي قام بها إلي مبني التليفزيون وميدان التحرير ظهر يوم الأحد 30 يناير، ' مصر محتاجاكم ' وأدرك عن يقين أن مصر تحتاجه أيضا هو ورئيس الأركان وجميع أعضاء المجلس الأعلي .
كان يعرف أن كل الخيارات مفتوحة وأن تعليمات قد تصدر من داخل القصر الرئاسي باحتجازهما وكان يعرف معني أن يغضب الرئيس وأساليبه الخبيثة في المواجهة، لقد تذكر واقعة كيف استطاع مبارك أن يخدع وزير الدفاع الأسبق عبدالحليم أبوغزالة وأن يعزله وهو داخل القصر وكيف أجبره علي ارتداء الملابس المدنية بعد أن عينه مساعدا لرئيس الجمهورية في الوقت الذي جاء فيه بالفريق يوسف صبري أبوطالب الذي كان قد تقاعد عن الخدمة ليعينه وزيرا للدفاع بديلا عن المشير أبوغزالة الذي كان مبارك يري ' أن قوته تعاظمت زيادة علي الحد المسموح به '.
وكان الحال كذلك بالنسبة للفريق سامي عنان الذي واجه الرئيس بجرأة وأكد أن موقفه هو والمشير إنما يعبر عن موقف القوات المسلحة بأسرها والتي هي جزء لا يتجزأ من الشعب المصري .
حاول مبارك أن يكتم غيظه لكن ملامح وجه كانت تنبئ بشيء ما، غير أنه قرر إرجاء الأمر لفترة لاحقة، قد تتخذ خلالها قرارات مصيرية، ظناً منه أن ساعة الحساب قادمة بلا جدال .
انتهي الاجتماع، غادر المشير والفريق القصر الجمهوري إلي مبني وزارة الدفاع، بعدها التقي الرجلان بمكتب المشير، وكان كل منهما يشعر بأنه قد أدي جزءاً من واجبه تجاه هذا الوطن وتجاه هذا الشعب كما أن كلا منهما يبدو مرتاح الضمير .
بعد قليل توسعت دائرة الاجتماع لتضم العديد من قادة الأفرع وأعضاء المجلس الأعلي، وبدا الأمر وكأننا أمام مجلس لقيادة الثورة، غير أن الأمر بدا مختلفا بعد منتصف الليل !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق