اخر الاخبار

03‏/09‏/2011

هل يقطعون لسانى؟ بقلم مفيد فوزي

مولود فى وسط الدلتا ولفحتنى شمس الصعيد بين أب موظف من قرية الصف، وأم تقرأ وتكتب وانقطعت صلتها بالتعليم بعد زواجها، لكنها غمرتنى بالحنان والخوف من الله، «عمدونى»، وهذا مصطلح قبطى فى كنيسة بنى سويف، وأول زغرودة - لمقدمى للحياة - شقت هدوء المكان، كانت من جارة لأمى مسلمة، وأنا أعبر طفولتى إلى مرحلة الصبا تلفحت بوسطية الإسلام وسماحة المسيحية..

تعلمت كيف أرفع رأسى للسماء وأنا أصلى للرب، ورأيت عمر زميل «تختة» المدرسة، وهو يتوضأ ويصلى.. حين كبرت ودخلت باب الحياة العملية لم يتعرف أحد على هويتى الدينية من اسمى، لأن أحداً لم يخمن أساسا فى هذه النقطة. كانت تعاملاتى وفق أعراف إنسانية وأخوة وجيرة ومقعد مدرسة..

ولما اصطفيت شفيعتى العذراء مريم المجدلية، وصرت أزورها فى كنيسة الزيتون، جمعتنى صداقات بشباب مسلمين أمام هيكلها وأنا أشعل الشموع.. ولما سمعت حكاية زهد وتقشف وروحانية الأنبا كيرلس، ارتبطت به، وذهبت أزوره، حيث رفاته فى «الطاحونة» فى مصر القديمة.. رأيت المكان المتواضع الذى استعاض به عن بهجة الدنيا وصخبها، وكدت أشم العبق المقدس.

مصر التى عرفتها وتربيت على «حجرها» كان الاعتدال يحكمها من محبة إلى ود وتراحم، وحين احتضر التحضر فى مصر، طفت على السطح فتن طائفية، أجزم أنها بفعل فاعل، وقد عانى البلد منها منذ جرح قديم اسمه «الزاوية الحمراء»، وتلته جروح أخرى، كانت تداوى بالعناق والقبلات، وفشلت هذه «المراهم» فى علاج هذه الحروق.. وعشت آلاماً كثيرة أصابت جسد الوطن من حريق الكنائس إلى قتل النفوس فى ليلة عيد الميلاد، إلى قطع أذن، تلاه صلح مزيف.. لم يحدث على مدى عمرى أن وصف أحد الكتاب المقدس بأنه كتاب مكدس..

وصف بذىء غريب على مصر، ولم يحدث منذ عهد فاروق مروراً بالثورة فى يوليو ٥٢ إلى الآن، أن وصف أحد الكنائس بأنها «مخزن أسلحة»، كان غضب قبط مصر كبيراً وعفيفاً ومتحضراً لولا أنهم ثاروا - بعد الثورة فى يناير ٢٠١١ - رافعين الصلبان أمام ماسبيرو متظاهرين بالتراتيل ليعلنوا أنهم ليسوا سلبيين ولا انسحبوا من المشهد السياسى، لكنهم يقظون لصور غريبة ومريبة وخبيثة دخلت بعد ثورة يناير، وتمركزت فى ميدان التحرير، الذى كان فى فجر يوم الثورة يشهد التسامح يعانق الوسطية، ويروى حكاية الفتاة المسيحية التى تصب الماء لمسلم يتوضأ.. يومها أدرك الأقباط أن الثوار سيحافظون على نسيج الوطن بقرآنه وإنجيله.

لكن المليونيات غافلت الثوار الشباب، وجاءت بوجوه خرج بعضها لتوه من السجن، واحتفل به إعلامياً، ووجوه أخرى تكلمت - فضائياً - عن أمور توصف بالتطاول وتمس أقباط مصر، ويقال عنهم السلفيون المتشددون، الكلام - لبشاعته - لا أريد ترديده، وبدأ المعتدلون يرفعون أعلام «مدنية.. مدنية»، فى حين رفعوا شعارات «إسلامية.. إسلامية»، واطمئن أقباط مصر لتصريحات المجلس العسكرى بمدنية مصر، واطمأنوا أكثر لوثيقة الأزهر.. لكننى لم أطمئن بسبب صمت البابا شنودة، الذى أفسره بغضبه المكتوم وتخوفه من القادم.. لاشك أنه محق فى غضبه بعد التطاول عليه بحدود تجاوزت اللياقة وآداب الحوار..

لقد طلبت من «سيدنا» أكثر من مرة أن أتحاور معه لنكشف كل الأوراق على شاشة تليفزيون مصر، لكنه كان يؤجل اللقاء.. وقد آثرت الصمت، ولكن ظل صمت البابا هو الشاغل، ليس لى وحدى، بل للأقباط فى مصر الذين (ساءت أحوالهم النفسية) بعد الثورة..

 نعم، كانت الثورة أملاً لنعيد بناء البيت المصرى على أسس مدنية فيها حرية العبادة مكفولة لكل إنسان، ولو كان يهودياً، لكن الرياح جاءت بما لا تشتهى السفن، وصار المسلمون، ربما قبل الأقباط، يدركون أن السلفيين المتشددين «يضمرون» الشر، فإشارة قطع أذن قبطى فى قنا، ورفض اسم محافظ فى قنا، ينبئان عن أخطار أخرى سمتها العنف، ولا أزال لا أملك التنبؤ بشخص رئيس الجمهورية القادم، وهويته السياسية، وهل تقتلعه المليونيات إذا رفضت أداءه؟..

 إن الصورة غامضة حتى الظلال القليلة لا تكشف شيئاً من ملامحها.. ولايزال الجدل قائماً ومشتعلاً حول حرمان «الفلول» من التصويت، ولاتزال جريمة إفساد الحياة السياسية غير واضحة المعايير..

 ولايزال قانون محكمة الغدر قيد التفكير.. ولايزال فى قلبى وصدرى كلام آخر، المهم من يضمن لى أن أحداً لن يقطع لسانى من الذين يفسرون «شرع الله» على هواهم؟ إن «تجييش» السلفيين على اعتبار افتراضى أنه يتم والمجتمع مُحمل بهموم كثيرة، وغافل عما يجرى ويرتب ويدبر سوف يضرب مصر فى مقتل سيعيد الحياة فى البلد إلى مائة عام للوراء، ولا يظن أحد أنى أخفى إعجاباً بالتجربة التركية، فهى على «مقاس» الأتراك فقط.. أما ما يناسب «مقاس» المصريين - فى شرع الله - فهو الوسطية والاعتدال، والدولة المدنية، وتعانقى يا تكبيرات المساجد مع أجراس الكنائس، ولتشهد يا نيل مصر على هذا التناغم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق