اخر الاخبار

23‏/09‏/2011

مبادئ الثورى.. وأكاذيب السياسىبقلم محمد البرغوثى

على امتداد التاريخ الإنسانى كله ظل هناك فارق شاسع بين الثورة والسياسة. الثورة عمل نضالى يختزن قدراً هائلاً من المبادئ والمشاعر. والسياسة ـ حتى التى يمارسها الثوريون ـ عمل إجرائى يختزن قدراً هائلاً من التوازنات والمناورات والأكاذيب أيضاً. والثورى الحق، الثورى الذى لم يتحول إلى انتهازى أو زعيم مجموعة مصالح، هو فقط الذى يلاقى وجه ربه قبل أن تنجح ثورته وتحمله إلى مقاعد السلطة.

فى واحدة من قصائده يتوقف الشاعر العراقى الكبير سعدى يوسف، ليسخر بقسوة جارحة من المناضل الفرنسى «ريجيس دوبريه»، الذى ترك بلاده أواخر الخمسينيات من القرن الماضى والتحق بمناضلى حرب العصابات فى أمريكا اللاتينية تحت لواء فيدل كاسترو وجيفارا، آنذاك تحول «دوبريه» إلى أيقونة مذهلة للمثقف الأوروبى الذى يرفض بصلابة المضمون الاستعمارى القذر لبلاده المتحضرة، ويغادر مركز الكون ليحمل السلاح إلى جانب مناضلى حركات التحرر فى العالم الثالث ضد بلاده وحلفاء بلاده.

فى أوائل الستينيات استيقظ الزعيم الكوبى ذات صباح على اختفاء المناضل العظيم «تشى جيفارا» الذى أسندت له الثورة الكوبية ـ وهو الأرجنتينى الأصل ـ منصبى محافظ البنك المركزى ووزير الصناعة. لقد ترك الرجل خطاباً، قال فيه إنه لا يصلح لهذا العمل، وإن العمل الوحيد الذى يليق به كثورى هو أن يهب نفسه بالكامل للنضال المستمر ضد الرأسمالية العالمية المتوحشة أينما وجدت.. وبعد عام تقريباً من اختفائه تناقلت وكالات الأنباء العالمية خبر استشهاده مصلوباً على شجرة فى أحراش بوليفيا، على يد قوات الكوماندوز الأمريكية.

أما «ريجيس دوبريه» فكان هناك فى باريس نجماً لامعاً فى الصالونات والمقاهى، ومحاضراً تهوى إليه الحشود المعجبة من كل صوب، ولكن فى قلب هذا الحشد المنبهر كانت هناك عيون فاحصة ترصد يوماً بعد يوم تحولات الرجل، الذى أصبح فيما بعد مستشاراً ثقافياً للرئيس الفرنسى «فرانسوا ميتران»، وأصبح من المدافعين الأكثر خطورة ولؤماً عن المصالح الاستعمارية الفرنسية فى أنحاء العالم الثالث، خصوصاً فى أفريقيا.

فى عام ١٩٩٣ جرت مناظرة رفيعة وملهمة بين الفيلسوف السويدى «جان زيجلر» والفيلسوف الفرنسى «ريجيس دوبريه» تمكن خلالها المفكر السويدى من إرغام «دوبريه» على الاعتراف بأنه ارتكب فظاعات تتعارض تماماً مع كل ما يؤمن به عندما كان قريباً من قمة السلطة.. بل اعترف بما هو أكثر من ذلك: «لقد كنت سجيناً وكنت أفكر بالشأن الوطنى.. وخلال خوضنا حرب العصابات بقيادة جيفارا خبرنا كيف أن الشأن الوطنى قد قصم ظهورنا ببساطة»، والشأن الوطنى الذى يقصده «دوبريه» هو ـ ببساطة أيضاً ـ النزعة الاستعمارية الفرنسية البغيضة التى راكمت أصولاً رأسمالية ضخمة من مجرد نهب خيرات دول العالم الثالث الفقيرة. كانت الفظائع التى اعتذر عنها «دوبريه» فى المناظرة هى دفاعه المستميت عن «الصالح العام» لفرنسا، ودعم فرنسا المفضوح لأنظمة حكم لا تطاق فى أفريقيا، ودعمها المقزز لأصحاب الامتيازات وكلهم من اللصوص والمجرمين والخونة لشعوبهم، ورغم هذا وجدت هذه المنظومة الاستعمارية الكريهة ثورياً ومناضلاً ومثقفاً عظيماً، يدافع عنها باستماتة بمجرد التحاقه بالعصابة الحاكمة.

هذا المثال للفارق الضخم بين الثورى والسياسى، وغيره الكثير من الأمثلة، يدفعنى دائماً إلى الاحتراس الشديد، وأنا أفكر فى الثورة المصرية، وفى هؤلاء الثوريين الذين لا يحملون من علامات الثورة أكثر من التدليل المستمر على أنهم كانوا فى «ميدان التحرير»، وأنهم شهدوا «موقعة الجمل»، وأنهم كانوا إلى جانب الشهداء الذين سقطوا فى الميدان، معظم هؤلاء تحولوا إلى العمل بالسياسة وعاثوا فى المشهد السياسى الوطنى تقسيماً وتفتيتاً، إنهم الآن يتدافعون إلى السلطة، ولهم الحق فى هذا التدافع شرط أن يتخلوا عن قناع الثورة، وأن يقدموا لنا برامج محددة ومشروعات وطنية وتوجهات اقتصادية محددة نتناقش حولها، وننتخب منها ما ينفع الناس ويمكث فى الأرض. افعلوا إذن ما شئتم.. شرط أن تفعلوه كسياسيين وليس كثوريين، فالثورى يخطف الأبصار.. ونحن أحوج ما نكون إلى أبصارنا فى هذه المرحلة المضطربة والضبابية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق