اخر الاخبار

16‏/09‏/2011

الشرطة الجديدة.. خلاصنا من الرعب بقلم محمد البرغوثى

تربيت على كراهية ضباط الشرطة.. ولكننى رغم هذه الكراهية لم أسع أبداً إلى إهانة ضابط شرطة.. ولم يفزعنى شىء فى حياتى قدر فزعى من رؤية ضابط شرطة مهاناً أو ضعيفاً أو فاقداً للهيبة.
كنت معذوراً فى كراهيتى لهذا الصنف من البشر الذى استخدمته الدولة كآلة عمياء ووحشية للسيطرة على المواطنين وزرع الخوف فى قلوبهم وإهدار كرامتهم..
وقد شاءت ظروفى أن أكون شاهداً ـ وأنا طفل صغير ـ على حفل تعذيب لمواطن فى مركز شرطة، ظل ضابط مفتول العضلات يصفعه ويركله فى بطنه ويلكمه حتى انفجر الدم من عينيه وأنفه، وبعد ذلك بسنوات شاهدت مأمور المركز، واقفاً فى ساحة صغيرة أمام بيتنا فى القرية، كان يشتم بألفاظ نابية كل رجال القرية ونسائها إثر اشتباكات بين أنصار العمدة القديم والعمدة الجديد، وقد أعلنها مدوية «وحياة أمى إذا ما نمتم زى الفراخ من المغرب لأضرب أجدع شنب فيكم بالجزمة القديمة يا اولاد....».
يومها انتابنى الرعب على أبى الذى لم يكن موجوداً، ثم رأيت جدتى ـ رحمها الله ـ وهى تخرج له شاهرة حذاء قديماً، ووقفت فى مواجهته تماماً ثم بصقت فى وجهه، وشتمت أمه وأباه وقذفت الحذاء فى صدره، وقبل أن يفيق «الوحش» من الصدمة كان المئات من رجال القرية ونسائها يحاصرون المأمور ورجاله، فانصرف وهو يضمر شراً بنا.

سألتها ـ آنذاك: كيف فعلت ذلك؟ فأجابت: «كنت مرعوبة أن يصل والدك ويشتبك معهم فيقتلوه، فقررت أن أفعلها أنا لأفتديه»، بعد ذلك تعودت أن أسمع والدى وهو يتباهى بأنه من عائلة لم يسبق لأحد أفرادها أن دخل مركز شرطة، متهماً أو شاهداً أو مجنياً عليه.

وعندما كبرت واشتغلت بالسياسة بدأت أسمع وأقرأ عن «أمن الدولة»، وعن حفلات التعذيب فى المعتقلات، وما إن قرأت رواية «شرق المتوسط» وبعدها «شرق المتوسط مرة أخرى» للأديب العربى الراحل عبدالرحمن منيف، حتى أدركت أن هذا الشرق من المحيط إلى الخليج موبوء بهذه الآفة القاتلة والمحطمة للشرف والنخوة والكبرياء.. آفة الضابط الذى لا يخضع فى عمله لأى قانون.. الضابط الذى كان قدره وقدرنا أن يكون ضحية أنظمة استخدمته لتدميرنا وتخريب حاسة الشرف والكرامة فى أرواحنا.

حدث بعد ذلك أن دبر لى أحد رؤسائى الكبار مكيدة رهيبة.. حيث نقلنى ـ على غير إرادتى ـ إلى قسم الحوادث بجريدة «الأهرام المسائى»، وأصبح قدرى أن أتعامل لسنوات مع ضباط الشرطة، كان رئيسى واثقاً من أننى لن أصمد فى هذه المهمة أكثر من شهر، ولكننى بدأت أكتشف عالماً مختلفاً عما كنت أظن.

رأيت ضباطاً شرفاء، أشرف كثيراً من كتاب وقادة رأى، ورأيت ضباطاً أوغاداً، وأحط كثيراً من بعض عتاة الإجرام، وأدركت فى نهاية الأمر أن الأحكام المطلقة خطيئة مطلقة، وأن المعرفة التى تستند فقط إلى عدد من الوقائع الشخصية هى معرفة ناقصة وتافهة، وأيقنت أن المناخ العام هو المسؤول الأول عن صناعة جهاز ضبط اجتماعى يحترم القانون وكرامة المواطنين، أو يحتقر المواطنين والقانون معاً.

الأهم من ذلك أننى انتهيت إلى قناعة راسخة بأن إضعاف أو إهانة جهاز الشرطة لا يقل بشاعة عن جرائم التعذيب التى كانت تحدث فى أقسام الشرطة، لهذا ينتابنى الرعب كلما سمعت عن إهانة ضابط، وأكاد أفقد كل إحساسى بالأمان على نفسى وأبنائى، وبالانكشاف التام أمام المجرمين والبلطجية، كلما قرأت خبراً عن الاعتداء على ضابط شرطة.

ليكن القانون، والقانون فقط، هو وسيلتنا للقصاص ممن أهانونا وقتلوا أبناءنا وأهدروا كرامة مواطنينا.. وليكن حكمنا على من يتعمد الاعتداء على ضابط شرطة يؤدى عمله هو أنه اعتدى على الناس جميعاً، وجردهم من أدنى حقوقهم فى الأمن والكرامة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق