اخر الاخبار

07‏/12‏/2011

«وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» بقلم جمال البنا

أراد الله لى أن أنشأ فى بيت الدعوة الإسلامية، بين أب عكف على التأليف ونذر حياته لتصنيف أعظم موسوعة فى الحديث النبوى «مسند أحمد بن حنبل الشيبانى»، وشقيق أكبر نذر حياته لإبداع فهم جديد بحيث يكون الإسلام منهج حياة، لكن الله لم يقسم لى أن أدخل «الكـُتـَّاب» أو أحفظ القرآن، لأن الأسرة انتقلت من المحمودية الجميلة إلى أزقة القاهرة الضيقة، فدخلت المدرسة الأولية ثم الابتدائية ثم الثانوية، وبهذا كان تعليمى «مدنياً»، ولكن عوامل عائلية وعاطفية، وكذلك لأنى رفضت المجتمع البورجوازى بشهاداته ووظائفه، وبالطبع لم أكن قد تزوجت، فكان لدىّ من الفراغ ما وثّق علاقتى بالأب والشقيق أكثر من بقية الإخوة، بحيث تأثرت تأثراً عميقاً بروحهما الرساليةوبفضل هذه الوشيجة العائلية بالإمام الشهيد تعرفت على «الإخوان» دون أن أكون عضواً ملتزماً منتظماً، ذلك لأن دراساتى المدنية وميولى الفكرية لم تكن مركزة وقتئذ وبوجه خاص حول الإسلام، ولكن على أجواء الثقافة الأوروبية الحديثة، وتاريخ الحركات الشعبية والجماهيرية فيها والأفكار الاشتراكية والحركات النقابية والنسائية وتاريخ المكتشفين والمخترعين الذين رسموا التقدم، والأدباء والفنانين الذين أعطوا الأوربيين «الوجدان»، باختصار سر قوة الحضارة الأوروبية، وكانت هذه الاتجاهات تبعدنى عن «الإخوان»، لكن الجذر العائلى الإسلامى بالإضافة إلى رعاية الإمام الشهيد لى جعلانى أسهم فى صنوف من النشاط الإدارى لـ«الإخوان» كإدارة المطبعة، وسكرتارية تحرير مجلة «الشهاب»، وبهذا تعرفت على الإخوان دون أن أذوب فيهم، وقد تقبلونى على هذا الأساس أيضاً ولأنهم أدركوا أن رعاية الإمام البنا لى لابد أن لها ما يبررها.

وبعد ثلاثين عاماً من البحث، وبعد أن توفى الوالد والشقيق بوقت طويل عدت إلى نقطة البداية .. إلى الخط الإسلامى، ذلك لأننى وجدت - بفضل الثقافة الأوروبية الحديثة - فى الإسلام كثيراً من أبرز عناصر قوة الحضارة الأوروبية، وبوجه خاص الإنسان والحريات وقيم المساواة، بل إننى رأيتها فى الإسلام بتكييف ووضع أفضل مما هى عليه فى الحضارة الأوروبية، فبدأت نشاطاً إسلامياً برؤية جديدة اعتبرت فى رأى البعض - الأكثرية - هدماً لمبادئ الإخوان المسلمين، بينما رأى البعض - القلة - أنها تكملة لرسالة الإخوان ولاحتمال ما كان يمكن أن يصل إليه الإمام البنا لو ترك ليبلغ التسعين، بدلاً من أن يعاجل فى الأربعين.

وفى سنة ١٩٩٥ توفى الشقيق عبدالرحمن البنا، وهو الثانى فى ترتيب الأسرة، وأوصى أسرته بأن تسلم إلىّ حقيبة سفر كبيرة، وعندما فتحتها وجدتها تضم كل أوراقه منذ دخل مدرسة التجارة، وفى الوقت الذى كان فيه أخوه الأكبر يؤسس الإخوان المسلمين فى الإسماعيلية..

 كان عبدالرحمن يكوّن «الجمعية الإسلامية» بمدرسة التجارة، وعندما نقل الإمام حسن البنا من الإسماعيلية إلى القاهرة سنة ١٩٣٤، اندمجت جمعية الحضارة الإسلامية بأعضائها فى الإخوان المسلمين، وأصبح الأستاذ عبدالرحمن عضواً بمكتب الإرشاد، وظلت تلك صفته حتى توفى.

وجدت أمامى ثروة من الوثائق، وتملكتنى الحيرة إزاء هذه الثروة من الوثائق المهمة، وفى النهاية قررت أن أنشرها حتى يستفيد منها المجتمع.

وهكذا بدأت فى طبع «من وثائق الإخوان المسلمين المجهولة» حتى وصلنا إلى الجزء الثامن، ونأمل أن نواصل العمل بها حتى تصبح عشرة مجلدات كل واحد فى ٤٦٠ صفحة تقريباً، وأضيفت إلى ما سبق من كتابات سابقة لنا مثل «خطابات حسن البنا الشاب إلى أبيه»، ومثل «ما بعد الإخوان المسلمين»، و«الإخوان المسلمون على مفترق الطرق».

■ ■ ■

ولما كان الإخوان قد أصروا على عقد الانتخابات التى كانوا قد أحسنوا الإعداد لها ونالوا بالفعل قرابة ٤٠% من الأصوات، فإنى آمل أن يدرسوا المقال الذى كتبه الإمام البنا فى ١٥ أكتوبر سنة ١٩٤٦ فى صحيفة الإخوان المسلمين اليومية تحت عنوان «نحن وطنيون.. ولسنا سياسيين.. ولا حزبيين» وأن يجعلوها دستورهم فى العمل السياسى والحزبى:

«أول ما بدأت فكرة الإخوان ودعوتهم فى الظهور والتركز، وكان ذلك فى سنة ١٩٢٧ و١٩٢٨م، كان هدفها الأول مقاومة تيار الإلحاد والإباحية الذى قذفتنا به أوروبا والذى أخذ كثير من الكتاب والهيئات والحكومات يروج له ويعجب به ويدعو إليه دعوة قوية عنيفة اضطربت لها نفوس الغيورين على ما بقى من تعاليم الإسلام وزلزلت زلزالاً شديداً.

وكانت وسيلة الإخوان إلى هذا المعنى تكوين جبهة من النفوس المؤمنة الفاهمة لتعاليم الإسلام فهماً صحيحاً تعمل على تطبيقه فى نفسها وفى كل ما يحيط بها وتدعو إليه غيرها.

وتقدم الزمن بالدعوة وأهلها فاصطدمت بهذه الأوضاع الفاسدة فى طرائق الحكم ووسائله وأساليبه فى مصر، ورأت أن الإسلام الحنيف يعتبر الحكم الصالح جزءاً من تعاليمه ويضع له قواعده ونظمه وأساليبه ووسائله وحدوده، وأنه يجعل من واجبات المسلمين أفراداً وجماعات أن يعملوا على إيجاد الحكومة الصالحة، ولهذين السببين: تعذر قيام إصلاح اجتماعى مع وجود حكومات غير صالحة، واعتبار الإسلام العمل لإصلاح الحكم فريضة من فرائضه، لهذين السببين أدخل الإخوان المسلمون فى برنامجهم العمل لإصلاح الحكم بإقامته على دعائم من توجيه الإسلام، لا العمل للحكم نفسه، وشتان ما بين الوضعين.

وكانت الوسيلة إلى ذلك الكتابة والنصح والمذكرات بعد المذكرات للحكومات المتعاقبة فى كل الشؤون الحيوية المهمة.

وتقدم الزمن بالدعوة وأهلها مرة أخرى فوجدوا أنه من المستحيل أن تقوم فى مصر أو غيرها من الأقطار الإسلامية حكومة صالحة مادام هذا الاستعمار الأجنبى جاثماً على صدر هذه الشعوب، والحكومات تأخذ بمخانقها وتحول بينها وبين الحرية والعزة والكرامة والرقى، كما وجدوا أن الإسلام قد فرض على أبنائه أن يعيشوا أحراراً كراماً، وألا يسمحوا لأحد كائناً من كان أن يدوس أرضهم أو يطأ بلادهم أو يتحكم فى شؤونهم، وأوجب عليهم حينذاك أن يجاهدوا من حاول هذا معهم بالأنفس والأموال، وجعل الجهاد عليهم فى هذه الحالة فريضة عين لا يغنى فيها أحد عن أحد، ولهذين السببين كذلك - تـَعَـذر قيام حكومة صالحة فى ظل الاستعمار، وافتراض الإسلام الجهاد فى سبيل الحرية على أبنائه - أدخل الإخوان المسلمون فى برنامجهم العمل على مقاومة الاستعمار وتحرير أرض الوطن من موبقاته وخبائثه، لا ليكون جزاؤهم على هذا وهدفهم من ورائه أن يحتلوا هم مكانه من التحكم والسلطان واقتعاد كراسى الحكم، ولكن لتظفر الأمة والحكومة بحريتها وعزتها وكفى، فيقوم فيها حكم صالح يفسح المجال لإصلاح اجتماعى صالح، وكانت وسيلة الإخوان

ومازالت، فى مقاومة الاستعمار تذكير الأمة بمجدها وإذكاء روح الحماسة والقوة فى أبنائها ومطالعتها بسوء آثار هذا الاستعباد فى مرافق حياتها وإرشادها والعمل معها بكل وسيلة مشروعة فى هذا السبيل، وحين اشتمل برنامج الإخوان على هذه المعانى كان الإخوان يتمنون أن يعملوا لها وأن يوفقوا إلى تحقيقها، لا لوادى النيل وحده، ولكن فى كل قطر من أقطار العروبة والإسلام التى نكبت بمثل ما نكب به هذا الوادى تماماً من الفساد الاجتماعى والفساد الرسمى بفعل هذا الاستعباد الأجنبى، وذلك بحكم أن عقيدة الإخوان الإسلامية تجعلهم يقرون بالأخوة الكاملة لكل مسلم مهما كان وطنه وأرضه، ويحبون الخير لكل إنسان فى الأرض، والله يقول لنبيه (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).

وحين أخذ الإخوان يعملون لتحقيق هذا البرنامج الواسع لم يخطر ببالهم أنهم حزب سياسى، أو أنهم يسلكون سبل الأحزاب السياسية إلى تحقيق هذه الأهداف، كما لم يخطر ببالهم أن يناوئوا حزباً أو يخاصموه أو يحتكوا به لأنهم يرون فى دعوتهم متسعاً للجميع، ويرونها أكبر من أن تقف موقف الخصومة الحزبية من أحد.

وحين بدا لهم أن يخوضوا معركة الانتخابات البرلمانية لم يريدوا أن يكون ذلك باسم الهيئة، بل أصدرت الهيئة قراراً بالإذن لمن شاء من الإخوان أن يرشح نفسه بذلك على أن يكون بصفته الشخصية لا بصفته الإخوانية، حرصاً على ألا تقحم الهيئة بصفتها العامة فى خصومة الأحزاب السياسية.

كما لم يريدوا من وراء نجاحهم فى هذا الميدان أكثر من أن يعملوا لبرنامجهم بأقرب الوسائل الرسمية، وسيلة التشريع فى البرلمان.

ومن كل هذا الذى تقدم يبدو الفرق الواسع بين الوطنى والسياسى، فالوطنى يعمل لإصلاح الحكم لا الحكم، ولمقاومة المستعمر للحصول على الحرية لا ليرثه فى السلطة، ولتركيز منهاج وفكر ودعوة، لا لتمجيد شخص أو حزب أو هيئة، ولهذا يحرص الإخوان المسلمون على أن يكونوا دائماً وطنيين لا سياسيين ولا حزبيين، ولقد انغمر الإخوان فى محيط العمل الوطنى وساهموا فيه أعظم المساهمة فى الفترة الأخيرة بمناسبة انتهاء الحرب وتحفز الأمم والشعوب للحصول على حقوقها المغصوبة باعتبار أنها الفرصة السانحة التى لا يمكن أن تعوض وأن هذا هو موسم العمل لهذه الناحية بالذات.

وحاولت بعض الهيئات والجرائد والمجلات أن تصور هذا النشاط بأنه خروج من الإخوان عن برنامجهم، وتعرض لما لا يعنيهم، وأنه خلط بين الدين والسياسة، وفاتهم أنه إذا كان العرف قد جرى فى مصر على أن السياسة مهنة لبعض المحترفين، فإنه ليس فى الدنيا عرف يحرم الوطنية على المواطنين، وأن الوطنية أجمل ما تكون إذا اقترنت بالدين، فحدث إذن عن نتائجها الباهرة ولا حرج.

ومن هنا كان الإخوان يضربون صفحاً عن مقابلة تهجم الأحزاب أو الهيئات عليهم بتهجم مثله، لأن مهمتهم تقويم هذا البناء المعوج لا مجاراته على عوجه.

ومن هنا كذلك كانوا على استعداد كامل دائماً لوضع يدهم فى أيدى أى هيئة تعمل لصالح هذا البلد أو لخير الدين أو الوطن، وكانوا أسبق الناس فى ترديد الدعوة إلى الوحدة وضم الجهود، وبخاصة فى مثل هذه الظروف التى تقرر فيها مصائر الأمم، وتعرض قضايا الشعوب والأوطان، ولكنهم فى هذه الأوضاع كلها سيكونون كما رسموا لأنفسهم وطنيين فقط، لا سياسيين، ولا حزبيين، والعاقبة للمتقين، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ)».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق