اخر الاخبار

20‏/12‏/2011

رؤيتي لـ القرن العشرين‏ (28)‏ 1929 بقلم: مراد وهبة

كان عام‏ 1929 مواكبا لصعود الهجوم علي العلمانية من قبل الإخوان المسلمين ومؤتمر المجلس الدولي للإرساليات المسيحية في عام 1928 ففي‏ 28 أكتوبر 1929 تدهورت البورصة في وول ستريت بنيويورك‏.
وعـلقت ديون أوروبا, ودعا موسوليني إلي إعادة النظر في معاهدة فرساي للسلام, وحرض غاندي الشعب الهندي علي العصيان المدني, وتشاءم فرويد لسببين: أحدهما ذاتي والآخر موضوعي.. السبب الذاتي مردود إلي أنه أجري عمليتين في عام 1924 لاستئصال ورم سرطاني في الجزء الأعلي من الفك, وكان عمره ثلاثة وسبعين, ومع ذلك رفض الامتناع عن التدخين مع أنه كان علي وعي بأن التدخين من أسباب السرطان.. وقبل موته أجري اثنتي عشرة عملية جراحية.
أما السبب الموضوعي فمردود إلي أنه أصدر في عام 1927 كتابا عنوانه (مستقبل وهم) وفيه هاجم العقائد الدينية باعتبارها من بقايا الأمراض النفسية, الأمر الذي دفعه إلي الدعوة إلي إحلال التفكير العقلاني محل النتائج السيئة المترتبة علي الكبت, وإذا حدث هذا الإحلال تحققت مصالحة الإنسان مع الحضارة.
والسؤال إذن: هل هذه المصالحة ممكنة؟
جواب فرويد بالإيجاب, لكن بشرط أن يكون العلم هو الوسيلة إلي تدعيم التفكير العقلاني, ومن ثم لا ينظر إلي العلم علي أنه وهم, لأن الوهم يكمن في حالة افتراض أن ثمة طريقا آخر غير طريق العلم, غير أن فرويد تراجع عن هذا الجواب المتفائل وارتد إلي التشاؤم عندما أصدر كتابه المعنون (الحضارة وبؤسها) في نهاية عام 1929 , إذ قال إن الحضارة علي علاقة عضوية بكبح جماح الميول الجنسية والعدوانية, أي علي علاقة عضوية بالكبت وما يلازمه من نشأة الأمراض النفسية.
وبناء عليه, يمكن القول إنه كلما تقدمت الحضارة ازدادت ضرورة الكبت, ومن ثم ازداد المرض النفسي, وترتبت علي هذا القول نتيجتان: الأولي تكمن في تصاعد بؤس الإنسان مع تصاعد الحضارة. والثانية تكمن في لجوء البشر إلي تعاطي المخدرات والخمور والدين.
ولم يكن فرويد هو وحده الذي كان مهموما بهذه العلاقة الحميمة بين الحضارة وما يلازمها من أمراض نفسية, فقد سايره العالم النفسي السويسري كارل يونج علي الرغم من انفصاله عنه, إذ أصدر كتابا عنوانه الإنسان الحديث.. باحثا عن الروح (1933) وارتأي فيه أن المجتمع الحديث مماثل للمجتمع البدائي, إذ يموج بنماذج بدائية انكشفت بطريقة أوضح عما كانت عليها في الأزمنة الغابرة, الأمر الذي فسر لنا هوس الإنسان بذاته. والذي أسهم في نشأة هذا الهوس أن العلم قد أخبر الإنسان بأنه يقع عند قمة التطور ولكن أخبره أيضا بأن التطور سيتجاوز الأمر الذي أفضي إلي إحساس الإنسان بالوحدة والبرودة والرعب.
ولم يقف تشريح بؤس الحياة عند حد فرويد ويونج إذ انضم إليهما الكاتب الإنجليزي جورج أورول. ففي عام 1929 رحل هذا الكاتب إلي باريس, حيث اكتشف أن البؤس ليس خاصا ببلدة معينة, فقد استأجر غرفة صغيرة حيث القذارة تشيع في المبني برمته, وحيث الحشرات تسبب إزعاجا فانتابه انهيار عصبي, خاصة أنه كان ضحية اللصوص الذين سرقوا أمواله كلها.
وفي عام 1930 أصدر الفيلسوف الإسباني خوسيه اورتجا جاسيت كتابه الشهير تمرد الجماهير وفكرته المحورية أن المجتمع في طريقه إلي الانحلال بسبب صعود رجل الشارع, هذا الذي ليس له اسم, بل هذا المغترب في المجتمع الجماهيري.
ومن هنا تصور هذا الفيلسوف أن الديمقراطية هي حكم الأقلية رفيعة المقام, وأن أي ديمقراطية أخري لن تكون إلا ديمقراطية منحطة, وهي التي يكون فيها رجل الشارع صاحب السلطة, وحيث يصبح العلم معاديا لكل ما هو جميل.
والسؤال بعد ذلك: ما هو مصير الحضارة؟
وفي صياغة أوضح:
إذا كان البؤس هو السائد, فإلي أين تتجه الحضارة ومعها الإنسان؟
الجواب في المقالات المقبلة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق