اخر الاخبار

21‏/12‏/2011

عشرة أيام في مدينة النور ‏(2)‏ بقلم: أحمد عبد المعطي حجازي

اشعر بالقهر والتمزق وأنا أكتب هذه المقالات عن مسارح باريس ولياليها الساهرة‏,‏ ومتاحفها ومعارضها العامرة‏,‏ في الوقت الذي تنطفيء فيه أنوار القاهرة‏ وتشتعل الحرائق في قلبها وعقلها. في ماضيها, وحاضرها, ومستقبلها.
مسارح القاهرة مغلقة, وهي لم تعد تقدم شيئا وهي مفتوحة. ومتاحف القاهرة قاع صفصف, خالية من الزوار, وأفضل لها أن تغلق أبوابها وتحفظ مقتنياتها حتي لا تسرق كما سرقت آثار أجدادنا القدماء في المتحف المصري, ولوحات فان جوج في متحف محمد محمود خليل.
لكن ما خسرناه من قبل يهون, رغم أنه لا يعوض, إلي جانب ما خسرناه في الحريق الذي شب في المجمع العلمي المصري. فهو لا يعوض ولا يهون!
مائتا ألف مجلد تضم تاريخنا السياسي والاجتماعي والثقافي من نهاية القرن الثامن عشر إلي اليوم. صور وآثار, وشهادات ومذكرات, وإحصاءات وخرائط, وأدوات وأجهزة التهمتها نيران العبث والجهالة والعداء الموروث للفن والعقل وانعدام الشعور بالمسئولية.
النهضة المصرية كلها, من حملة بونابرت عام ألف وسبعمائة وثمانية وتسعين إلي اليوم, صارت رمادا متطايرا وهباء منثورا!
وقبل أن يشب الحريق في المجمع بيوم أو يومين وقف في جامعة القاهرة شخص مأفون يعلن علي ملأ من طلاب الجامعة وأساتذتها أن جامعتهم هذه لم تنشأ إلا لتقضي علي الشريعة الإسلامية! والغريب أن أحدا منهم لم يسكته ولم يطرده من الجامعة التي دخلها ليهدمها من داخلها!
وقبله وقف مأفون آخر يحمل علي نجيب محفوظ ويرمي أدبه بالانحلال والتهتك والترويج للشذوذ والدعارة!
وليس بعيدا عن هذا ما سمعناه عن الدعوة لتغطية التماثيل الفرعونية وغير الفرعونية بالشمع, لأنها في نظر الداعين لتغطيتها أوثان وأنصاب إن تركت علي حالها عبدناها من دون الله!
فإذا أضفنا الي هذا وذاك تلك الخطوات المريبة التي ستنتهي لا محالة باستيلاء الأحزاب الدينية, وهي أحزاب غير شرعية, علي مؤسسات الدولة أدركنا أن القضاء علي النهضة المصرية الحديثة بكل صورها وتنظيف البلاد من آثارها هدف مطلوب, وخطوة ضرورية مستعجلة لإعلان الدولة الدينية وإعادة مصر إلي ما كانت عليه تحت المماليك قبل بونابرت, وقبل محمد علي, وقبل زغلول, وقبل الأوبرا, والجامعة, والمتحف, وقبل إلغاء السخرة والكرباج!
هل يكون حريق المجمع العلمي المصري وتدمير محتوياته عملا مدبرا, وغزوة جديدة خطط لها المخططون, ونفذها المنفذون؟!
سأترك السؤال مطروحا, لأن الاجابة تحتاج إلي حديث مستقل, وأعود إلي موضوعي الأول الذي لن أكون فيه بعيدا عما يحدث في مصر, وأعني زيارتي الأخيرة لباريس, فباريس أصل حي من أصول ثقافتنا الحديثة التي تتعرض في هذه الأيام كما ترون لأخطار ماحقة نحتاج معها تأكيد علاقتنا بالأصول التي استوحاها ونقل عنها الآباء الرواد, وجعلوها بعدا أساسيا من أبعاد انتمائنا الوطني الذي يريد البعض أن يختزله ويحبسه في بعد واحد محدود, هو هذا البعد المتمثل في ثقافة الصحراء.
نعم, الصحراء وثقافتها كانت مصدرا من مصادر ثقافتنا, لكن البحر كان مصدرا آخر. فضلا عن النهر, وهو المنبع الأول لوجودنا. وهو أيضا المصب الذي تأتي اليه العناصر الوافدة من الشرق والغرب والشمال والجنوب فيهضمها, ويمصرها, ويتغذي بها, ولا يفني فيها.
ونحن نعرف جميعا أن الطهطاوي تعلم اللغة الفرنسية, وعاشر الفرنسيين, وأعجب بحضارتهم, ونقل عنهم, ولم يقلدهم. وأن طه حسين تعلم في فرنسا, ونفخ روحا جديدة في الأدب العربي, وكذلك فعل جورج أبيض وتوفيق الحكيم وزكي طليمات الذين تعلموا فن المسرح في فرنسا, وعادوا ليقيموا قواعد هذا الفن في مصر.
والذي حدث في الأدب والمسرح حدث في الفنون التشكيلية.
حين ذهب النحات المصري العظيم محمود مختار إلي باريس لم يقلد النحاتين الفرنسيين لارودان, ولا أستاذه مرسييه, ولم يقلد المعاصرين له من كبار النحاتين الأوروبيين.. لا هنري مور, ولا ماريني, ولا برانكوزي, ولا جياكومتي, وإنما تعلم من هؤلاء, كما يتعلم الإنسان اللغة ليعبر لها عن أحاسيسه وأفكاره, ويكتشف بها شخصيته.
لقد عاد مختار من فرنسا ليحيي النحت الفرعوني, دون أن يقلد أيضا نحت أجداده, بل ليبعث فيه روحا عصرية فتية, انتقل بها هذا الفن من الدين إلي الدنيا.. وفي هذا يقول الناقد أندريه سالمون (لا أعرف فنانا عني أكثر من مختار بالعنصر البنائي, واحترام الكتلة لذاتها في فن التمثال, ليس هناك فن أجدر منه ليكون فن بعث ونهضة, لقد دفعنا مختار دفعا لأن نلمس أعماق ضمير بلاده, حين عبر عن عاطفة كبري تتمثل في تمجيد جنسه!).
والذي يقال عن نحت مختار يقال عن صور محمود سعيد, ومحمد ناجي, ويوسف كامل وسواهم من المصورين المصريين الأوائل الذين تعلموا الكثير من المصورين الفرنسيين الذين كانوا هم قبل غيرهم أمثله ـ تحتذي في التفرد واستقلال الشخصية, والبعد عن التقليد والمحاكاة, وهذا أول انطباع يصلنا حين نقف أمام لوحات الفنانين اللذين شاهدت أعمالهما أو جانبا عظيما منها علي الأقل في زيارتي الأخيرة لباريس, وهما بول سيزان الفرنسي في متحف اللوكسمبورج, وإدفارد مونك النرويجي في مركز بومبيدو.
أقول إن التفرد هو أول انطباع يصلنا من أعمال هذين الفنانين, وهو غاية ما يقال عنهما, وعن أي فنان آخر يمثل مكانا في تراث بلاده, فالتفرد يعني الصدق مع النفس, والوفاء لروح العصر, وامتلاك أدوات الفن, لا أدوات فنان بالذات, بل الأدوات التي تبلورت علي أيدي الفنانين في مختلف العصور والأجيال, وفرضت نفسها, وأثبتت وجودها بصور متعددة وأساليب مختلفة يأخذ منها كل فنان ويترك, ويعدل ويطور, ويؤكد هنا, ويخفف هناك, فلابد لكل موهبة أن تتعلم من التراث, ولابد لها بعد أن تتعلم أن تخرج من المتحف أو المشغل أو المدرسة إلي الهواء الطلق, وهذا ما فعله فنانو القرن التاسع عشر عامة, فقد تمردوا علي القواعد بعد أن أتقنوا العمل بها, واستمعوا لأنفسهم, وخرجوا إلي النهر, والغابة, والشوارع, والحقول.
بول سيزان تعلم من تراث التصوير الأوروبي كله, تعلم من زورباران الإسباني, وهو من فناني القرن السابع عشر, وتعلم من لوكارفاج الروماني الذي عاش في القرن السادس عشر, وتعلم بالطبع من الفرنسيين, دولاكروا الرومانتيكي, وكوربيه الواقعي, وتعلم أيضا من الكتاب والشعراء, تعلم من الروائي إميل زولا, ومن الشاعر ستيفان مالارميه, وتعرف علي فان جوج, وعد مثله انطباعيا, لأن الضوء عنصر جوهري في فنه.
ولأنه يتلقاه بغير واسطة, وينفعل به ويحوله علي الفور إلي ألوان وأشكال, ومع ذلك فسيزان ليس انطباعيا فقط, بل لقد تمرد علي ما في الانطباعية المذهبية من هشاشة, واجتهد في الوصول إلي فن صلب أصبح به أبا من آباء التكعيبية وأستاذا بالتالي من أساتذة بيكاسو, وسيزان معروف في مصر من خلال الفنانين المصريين الذين تعلموا منه, ومن الفرنسيين الآخرين أمثال محمود سعيد, ومحمد ناجي, ويوسف كامل, لكن أدفارد مونك يكاد يكون مجهولا عندنا, مع أنه أشهر فناني بلاده, ولاشك أن هناك أسبابا حالت بيننا وبينه, أولها أنه فنان شمالي ارتبطت حياته وأعماله بحياة الفنانين الشماليين الإسكندناف والألمان وأعمالهم, وإن عاش بعض الوقت في باريس, واتصل بالفنانين الفرنسيين, ثم إن حياة مونك كانت محنة متصلة انعكست صورها في لوحاته, كما لم يستطع أي فنان آخر أن يفعل.
والتصوير بطبيعته فن ينقل ما تراه العين, فالعالم الخارجي هو موضوع المصور, الطبيعة حية وصامتة, والآخرون في مختلف الزوايا والأوضاع, فإن صور الفنان نفسه وقف أمام المرآة ليري وجهه فيها, وهذا ما لم يقنع به مونك الذي فرض علي التصوير أن يعبر عما تعبر عنه اللغة, الخوف, والموت, والكآبة, والجنون, وتلك هي التعبيرية التي كان مونك واحدا من مؤسسيها!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق