اخر الاخبار

19‏/05‏/2011

مصر العميقة /عمرو الشوبكي

استخدم الأتراك تعبير «الدولة العميقة» حين وصفوا الدولة التركية التى لا يراها الناس، وتعنى الجيش والإدارة والمؤسسات العلمانية، وبصرف النظر عن الحزب الذى يحكم. فالدولة العميقة كفيلة بإجهاض أو إضعاف تأثير الأحزاب لأنها مترسخة منذ أن أسس مصطفى كمال أتاتورك الجمهورية التركية قى ١٩٢٤.

والمؤكد أن العلاقة بين الدولة العميقة والديمقراطية لم تكن دائما «يدا واحدة»، فقد أجهضت تجارب الأحزاب التى لم ترض عنها مثل ما جرى عام ١٩٩٧ مع حزب الرفاه الإسلامى بقيادة الراحل نجم الدين أربكان، قبل أن ينجح حزب العدالة والتنمية فى ترويض جانب من هذه «الدولة العميقة» حين قدم تجربة مدنية وديمقراطية خرجت من إطار الثقافة الإسلامية وتجاوزت الاستقطاب الإسلامى العلمانى، وأسست حزبا ضم المتدينين والعلمانيين المؤمنين بالديمقراطية، وساهما معا فى تقدم تركيا وإجراء أهم إصلاحات سياسية شهدتها البلاد.

أما «مصر العميقة» فهى مختلفة عن نظيرتها التركية لأنها تعنى قلب مصر وعمقها، وتلك التى لا يحب كثير من أهل القاهرة والإسكندرية أن يروها، فمصر العميقة تمتد من مدن الصعيد والقرى والنجوع والمراكز حتى تصل إلى الأحياء العشوائية فى القاهرة، وهى التى تفكر بطريقة لا نحاول كثيرا أن نفهمها أو نتفاعل معها حتى لو صدمتنا أحيانا لأننا نحب دائما أن نرى «مصر الواجهة» ونتصور أن الحوار مع مصر العميقة يعنى فقط الوصاية (لا التفاعل) الفكرية أو الثقافية.

وقد ذهبت فى بداية هذا الأسبوع إلى مشارف مصر العميقة فى جامعتى المنيا وأسيوط، وسبق أن زرت الأولى مرتين والثانية مرة فى أعقاب الثورة مباشرة، وأول ما يلفت نظر المسافر بقطار الصعيد أن زمن الرحلة لم يتغير منذ ٤٠ عاما، وتذكرت بحسرة حين وصلت لفرنسا عام ١٩٨٩، وكانت المسافة المقطوعة بين باريس ومارسيليا فى أقصى الجنوب هى ٩ ساعات وبعد ٨ سنوات تقلصت إلى ٣ ساعات.

وأبدى الطلاب اهتماما كبيرا بمختلف القضايا السياسية والحزبية ودور الجيش والحركات الإسلامية، وكانت السياسة حاضرة بقوة فى المنيا ومتراجعة، ولو جزئيا، فى أسيوط لصالح الحديث عن المرجعية الإسلامية والشريعة التى تحمل حلا سحريا لمشكلات المجتمع دون أى بحث جدى فى الأدوات التى يجب أن تستخدمها حتى تضمن النجاح.

وهذه مشكلة خطاب المرجعيات فى كل التجارب الإنسانية، فأى مرجعية سياسية أو دينية لم تهتم بوضع آليات حديثة وديمقراطية تحترم فيها إرادة الناس - مآلها الفشل الذريع (تجربة السودان وأفغانستان وليبيا وسوريا)، وأى تجربة امتلكت آليات ديمقراطية مثل تركيا وماليزيا انطلقت من احترام أو تبنى المرجعية الإسلامية كان مآلها النجاح ( تجربة حزب العدالة والتنمية فى تركيا ومهاتير محمد فى ماليزيا).

فنحن نكاد نكون من البلاد القليلة فى العالم الإسلامى التى تقضى كل هذا الوقت فى مناقشات نظرية وفقهية وتنسى أن مهمة أى مرجعية ليست فى التأكيد على عظمتها، إنما فى امتلاك رؤى وبرامج مستمدة منها قابلة للتطبيق والنجاح.

فى المنيا حضر شباب مسيحيون بجوار المسلمين. ورغم وطأة الهموم الطائفية إلا أن هموم الوطن كانت غالبة فسألوا عن النظام الرئاسى والبرلمانى وأسئلة سياسية أخرى، فى حين أن فى أسيوط كان كل الحضور النسائى لفتيات محجبات ما عدا واحدة، وذكر لى بعض الأساتذة أنه لم يكن هناك طلاب مسيحيون فى المدرج الذى امتلأ بأكثر من ٦٠٠ طالب.

وحين سألنى طلاب المنيا وأسيوط عن موقفى من مرشحى الرئاسة فقلت لهم إن هناك ٥ مرشحين جادين أصبحوا ٦ بعد أن أعلن د.عبدالمنعم أبوالفتوح ترشحه لانتخابات الرئاسة، ودعوتهم لعدم دعم أى مرشح مهمته الوحيدة هى شتيمة المرشحين الآخرين دون تقديم أى رؤية أو برنامج سياسى بديل.

وقد أصر الطلاب على أن أحدد موقفى من هؤلاء المرشحين وأيهم سأختار، فكان ردى أن صوتى مازال إلى الدكتور محمد البرادعى، وهو الأمر الذى قوبل بتصفيق حاد فى المنيا ووجوم وفتور فى أسيوط أعطانى انطباعا بأنهم لم يتوقعوا منى هذا الموقف لأن خطابى «وطنى ومعتدل يحترم الدين» كما قال لى أحد الزملاء، وكأن البرادعى لديه موقف مختلف من هذه الأشياء.

المدهش أن كثيرا من الأساتذة قالوا لى عقب الندوة إنه أمر جيد ألا يعلن الطلاب فى وجهك رفضهم للرجل لأنهم تعرضوا لغسيل مخ واسع النطاق من إعلام مبارك المتدنى، ومن بعض رموز التيارات السلفية الذين تباروا فى شتم وتكفير الرجل، خاصة أن جامعة أسيوط قد شهدت قبل مجيئى بيومين محاضرة فى قاعة النيل للشيخ الحوينى حضرها ٥ آلاف شخص ارتدى فيها كثير من الرجال الجلباب الأبيض، ومعظم النساء بمن فيهم الأطفال النقاب، وهو ما أثار حفيظة كل أساتذة الجامعة الذين قابلتهم بمن فيهم الإسلاميون.

فى المنيا لم أشعر بأنى فى الصعيد، لكن فى أسيوط شعرت بأنى فعلا فى مصر العميقة، فاللهجة الصعيدية التى نستمع لها فى المسلسلات تحولت إلى واقع، وجمال المدينة وقصورها القديمة التى تقاوم الزمن وتذكرك بأفلام الأبيض والأسود تعطيك إحساسا بالراحة رغم حصار الحوائط الأسمنتية القبيحة لعصر مبارك.

شعرت فى أسيوط بأن هناك مهمة ثقيلة لا أعرف إذا كانت نخبة القاهرة قادرة على إنجازها أم لا فى توعية هؤلاء الشباب، فقد حثثتهم على أن يكونوا إما أعضاء فى حزب أو جمعية أهلية، فالمهم ألا يقفوا متفرجين.

صحيح هناك نقص فى المعرفة لدى كثير من هؤلاء الطلاب وصورة ناقصة عما يجرى فى العالم، وأسئلة خارج سياقها عن الماسونية التى تدير العالم وأخرى عن المؤامرات الدولية لا علاقة لها بالواقع، وهى أسئلة استمعت لها فقط فى أسيوط، ومع ذلك أصر الطلاب على المناقشة باحترام وود شديدين وبروح فيها رغبة وفضول للتعلم والتواصل.

فى كلية الحقوق بجامعة أسيوط هناك عميد محترم هو د. عصام الزناتى يدعم النشاط الطلابى، وأصر على افتتاح الندوة والحوار بشكل راق مع الطلاب، أما فى المنيا فكانت الطامة الكبرى حين قام رئيس الجامعة د. ماهر جابر بمنع الطلاب والضيوف من دخول الجامعة لحضور الندوات، بل وصلت البجاحة أن قرر إقامة الندوات أيام الخميس والجمعة والسبت حتى يقلل قدر الإمكان من عدد الحاضرين، وقام بممارسات أخرى مخجلة ومسيئة للجامعة، والمدهش أنه لا يوجد أحد من المسؤولين يقول لرئيس جامعة المنيا: عيب أو توقف عما تفعل واترك الطلاب وشأنهم حتى يأتى اليوم ويتغير رؤساء الجامعات.

وأصر الطلاب على العمل وأدهشتنى هذه الطاقة الهائلة التى تمتعوا بها، وسعدت بالتعرف على حازم ونشوى وأحمد كنماذج لطلاب رائعين حريصين على مستقبل بلدهم رغم الصعوبات غير المتخيلة التى تمارس عليهم.

مصر العميقة رائعة بأهلها، وإن تواصل نخبة القاهرة معها يجب أن يقوم على قاعدة أن كلينا يحتاج التعلم من الآخر فلا أحد يعلم طول الوقت ولا أحد يتعلم طول الوقت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق