اخر الاخبار

17‏/05‏/2011

بلبلة الرأى العام فى كل عهد؟ بقلم نوال السعداوي

تهرب النخب المزمنة فى بلادنا من الأزمات السياسية بالسفر إلى المنتجع الشمالى فى الصيف، أو الجنوبى فى الشتاء، أو بالحج إلى الأماكن المقدسة حبا فى الله والوطن، أو هروباً من المسؤولية فى الدنيا الزائلة، أو الخوف من اتخاذ موقف واضح يكشف نواياهم الخفية، ويلتزمون الصمت البليغ وعدم التعليق على الأحداث، ويتناومون تحت اللحاف، فى بيات شتوى أو صيفى، حتى ينجلى غبار الثورة ويعود الأمن والأمان، تستولى وجوه أخرى على الحكم، يهرعون إليها وهم يهرولون، ترحب بهم السلطة الجديدة، لا تجد غيرهم فى الساحة السياسية والثقافية جاهزين للخدمة والولاء، دون تمسك بمبادئ أو أخلاق،

قضت السلطات المصرية جميعها، منذ الإله رمسيس الأول وحتى مبارك، على أصحاب وصاحبات الفكر المبدع الخلّاق، أودعتهم السجون والمنافى داخل مصر وخارجها، لم تترك فى الساحة السياسية والثقافية إلا هؤلاء المهرولين لكل حزب وحكم، ينتهزون الفرص للانقضاض، هؤلاء النخبة الدائمة مثل المرض المزمن، يفرزها الحكم الاستبدادى العبودى، الطبقى الأبوى العتيق، وإن اختفوا بعض الوقت على استحياء حتى تمر الأزمة، فإذا بهم يظهرون على الفور قبل أن ينتبه الناس، وجوههم مشدودة تبدو جديدة أو شابة، أفكارهم القديمة هىّ هىّ، لم تتغير إلا قليلاً، لمجرد التكيف مع العهد الجديد، أو تملق ما يسمونهم شباب الثورة المجيد.

وكيف يظهر الإنسان المصرى المبدع المفكر بحرية واستقلال عن الحكم القائم؟ كيف يظهر الفكر الجديد الحر والاستبداد السياسى الثقافى الدينى يطغى على الجميع، أعرف أكثر الرجال والنساء فى هذه النخبة المصرية بحكم عمرى المديد، وعندى ذاكرة قوية، أتذكر ما كتبوه فى العهود السابقة الساقطة، وأقرأ ما يكتبونه اليوم، لا أحد يملك كشفهم لأسباب متعددة، منها أنهم حرفيون مدربون على خدمة أصحاب النفوذ، وأنهم يستولون على منابر الإعلام والبث السريع، يجيدون الكتابة والكلام والتبرير وخداع الملايين، لأن الملايين تعيش الفقر والمرض والجهل، ينسون جرائم الأمس بحكم التعب والإرهاق والرغبة فى النوم، يثورون غضبا ضد فتاة أحبت فتى من قبيلة أخرى أو دين مختلف، وفى أعماقهم إيمان عميق سحيق بأن الشرف لا يغسله إلا الدم، وأن المرأة هى الوحيدة القادرة على انتهاك الشرف،

وأن حواء هى الآثمة وآدم برىء لديهم استعداد كامل سريع للحكم على الأنثى، وعقابها دون تردد، مذنبة أو بريئة، يترددون فى عقاب الرجل الرأس الأول فى الجريمة، هى الزوجة أو المساعدة أو العشيقة، يصرخون فى المظاهرات: اقتلوها الحية الرقطاء، كاميليا أو عبير أو وفاء، أو ليلى أو سوزان أو جيهان، تظهر المرأة وتحاكم على الفتنة والجرائم قبل الرجل، يتخفى الرجل المذنب الأول وراء عمود من الدخان، لقد وقفت ضد نساء كثيرات فى العالم منهن جولدامائير ومارجريت تاتشر وكوندوليزارايس وهيلارى كلينتون ولورا بوش وأنجيلا ميركل وغيرهن، لكنى مع محاكمة الرئيس قبل المرؤوس، أنا ضد اعتبار كاميليا أو عبير أو حواء سبب الفتنة السياسة الدينية، أنا مع محاكمة مبارك والحكم عليه قبل زوجته وأولاده وتابعيه، ولماذا يتم تأجيل الحكم على مبارك تحت أسباب صحية أو غير صحية؟

 على حين يبتهج الجميع بالحكم الصادر بحبس زوجته؟ وقفت سوزان مبارك ضد تكوين الاتحاد النسائى المصرى، ولعبت دوراً فى تمزيق الحركة النسائية المصرية، شجعت والولاء لها، وخلقت شرازم ومجموعات متفرقة متشاحنة من المنظمات الحكومية النسائية تحت اسم منظمات غير حكومية، وقفت ضدى شخصيا وحاولت تشويه صورتى وطردى من الساحة الأدبية والفكرية والثقافية، بحكم سيطرتها على وزراء الثقافة والإعلام، حاولت سوزان مبارك دفن اسمى فى التاريخ، دون جدوى بالطبع، لأن أفكارى وكتبى ومواقفى مسجلة محلياً وعالمياً، أحاول تجاوز القضايا الشخصية، أحب العدل، أطالب بمحاكمة مبارك رأس النظام الساقط قبل أى شخص تحت رئاسته، نرى المرؤوسين فى السجن وليس الرأس الأكبر، أما المسؤول الأول صاحب السلطة المطلقة الأعلى فهو لا يزال مستريحا فى مستشفى خمس نجوم تحت اسم الإرهاق أو الاكتئاب أو ذبذبات ضربات القلب! لست مع حكم الإعدام فى أى جريمة، لكنى مع المحاكمة العادلة وتوقيع العقاب دون تأجيل، فالعدالة المؤجلة ظلم، العقاب الحاسم مطلوب اليوم حتى لا تتكرر الجرائم فى الغد.

لماذا يحاول بعض أعضاء النخبة المزمنة تأجيل محاكمة مبارك حتى تشكيل البرلمان الجديد؟

هل يمكن فى ظل الدستور القديم والقوانين الطبقية الأبوية العتيقة تحقيق انتخابات حرة وانتخاب رئيس وطنى مخلص أو برلمان جديد نزيه يختلف عن السابق الساقط؟ هل يمكن اكتشاف شخصيات وطنية جديدة وترشيحها للرئاسة أو البرلمان فى ظل نظام لم يتغير عقله المراوغ الخادع، أو النخبة المزمنة المتحولة، المبلبلة للرأى العام فى كل عهد؟

هل كانت جرائم الرئيس السابق سياسية فقط حتى تطالب هذه النخبة المزمنة بمحاكمته سياسيا أمام البرلمان؟

ولماذا الفصل بين الجرائم السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية؟

أليست كلها مترابطة حسب المنطق والعقل؟

هل غاب العقل عن النخبة المصرية المزمنة الرابضة على منابر الإعلام والصحف منذ قديم الزمان؟..

 إذا كان القانون الجنائى أو القضائى أو غيره من القوانين الحالية لا يحاكم الجرائم السياسية فيجب تغيير القانون القديم أو سن قانون جديد وليس تأجيل محاكمة مبارك حتى تشكيل البرلمان!

 ثم لماذا تمت محاكمة المرؤوسين الآخرين أمام القانون الحالى؟،

 فقد ذهبوا إلى المحكمة أمام النائب العام، وحبسوا فى سجن طرة مع أنهم كانوا عبيد السلطان كما قالوا فى التحقيقات، يخضعون لأمر السيد الأعلى، مثلهم مثل النخبة المصرية من الكتاب والصحفيين والمفكرين، الذين يعترفون صراحة بأنهم جميعا تعايشوا مع النظام الفاسد السابق. هل تستحق هذه النخبة المراوغة بأن تتحكم فى تشكيل الرأى العام فى بلادنا حتى اليوم؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق