اخر الاخبار

03‏/05‏/2011

أبطال الثورة الحقيقيون / عمار علي حسن

جاءوا من الشوارع الخلفية، من البيوت الخفيضة التى نامت طويلاً على الضيم والفقر والصبر. جاءوا جيوشاً جرارة إلى قلب المدن، سواعد فتية، وحناجر تطلق ضجيجها الهادر فى وجه الظلم والفساد والجبروت فتصده وترده. قلة منهم سبقتنا إلى هناك، حيث الراحة الأبدية فى رحاب ذى الجلال. كانوا أبرياء فضحّوا بأرواحهم. الأغلبية عادت
صامتة إلى الأزقة والحارات المغبونة، تضرب النرد على المقاهى من جديد، وتروض الوقت انتظاراً لفرصة حياة كريمة
.
هؤلاء هم صنَّاع الثورة المصرية الحقيقيون، الذين فتحوا أمام أقدامنا، التى تورمت من الجلد والسحل والقهر، طريقاً وسيعاً نحو الحرية، وجعلونا نشعر بأن كل ما خطته أيادينا فى السنوات السابقة من حروف لم يكن حرثا فى بحر، وكل ما قلناه فى ندوات ومؤتمرات أو خلف الشاشات الزرقاء لم يكن نفخاً فى الفراغ. هكذا سمع الشعب ووعى وآمن بأن قدرته فى عدده وتوحد إرادات أفراده
.
أما النخبة التى صاحت طويلاً فى وجه السلطة الغاشمة فقد عادت إلى صراخها. بعضهم من أجل الفتات الرخيص. بعضهم مغبون لأن الزحام الشديد بالميادين الوسيعة لم يترك لقدميه مكاناً. بعضهم يخاف على الثورة أن تقف فى منتصف المسافة، ويخشى على الذين جاءوا من دون سابق ترتيب بأن يغيبوا مرة جديدة، ويصبح استدعاؤهم صعب المنال. بعضهم شعر بأن مصر باتت لقمة سائغة، أو فريسة سهلة، يمكن أن ينقض عليها فيقتنصها. بعضهم راح يعدو وراء المنافع والمناصب من جديد
.
كل هؤلاء يتناسون فى سطوة الاستسلام لأنانيتهم المفرطة أن نحو ألف شهيد قد سقطوا، وأكثر منهم فقدوا أبصارهم، وأضعافهم أصابتهم جروح وقروح. وأعلى من ذلك، يتناسى هؤلاء أن عشرات الملايين من المصريين يحلمون بالحرية والكفاية والعدل، وينتظرون أن تفتح الثورة المباركة أمامهم طريقاً وسيعاً للبناء، ليشبعوا بعد جوع، ويكتسوا بعد عرى، ويرفرفوا بعد أن خلع النظام البائد أجنحتهم
.
الناس فى بلادى هم أبطال الثورة الحقيقيون، لكن هناك من يبذل كل جهده الآن من أجل تغييبهم عن المشهد، إما عن قصد وسوء نية، أو عن جهل، أو حتى عن استعلاء وقصر نظر. هؤلاء الأبطال لم يوكلوا أحداً حتى الآن ليتحدث باسمهم، لم يعطوا صكا على بياض لأى مخلوق كان كى يدعى أنه يمثلهم، ولم يباركوا طرفا كى يزعم أنه أمين على الثورة. ولسان حال أصحاب الثورة هو أن الجيش وكيل مؤقت عنهم، والكلمة الأخيرة ستعود إليهم، ليقولوا ويحددوا هم من سيدير الدولة فى الفترة المقبلة
.
لكن المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومعه الحكومة يختاران فريقا ليتحدثا معه، وهما أول من يعرف أن من يذهبون إليهما فى المكاتب المكيفة لم يفوضهم أحد للتحدث باسم الناس، ولا باسم الثورة. فى المقابل تسارع الكتل السياسية لتدعى أن الناس معها، أو تتجاهل مطالب الشعب واحتياجاته الحقيقية. فالإخوان المسلمون والسلفيون اعتقدوا أن التصويت بـ«نعم» على التعديلات الدستورية يعنى بالضرورة التصويت لصالح «التيار الإسلامى»، وتناسوا أن الناس انحازت إلى ما فهمت أنه أقرب طريق إلى الاستقرار والأمن ودوران عجلة التنمية
.
أما الذين انحازوا للتصويت بـ«لا» فقد عادوا إلى حصر اهتمامات الثورة فى أجندتهم النخبوية التى تدور حول مسائل التغيير السياسى والدستورى والتصارع على مقاعد البرلمان، والاستعداد لانتخابات الرئاسة. وتناسى هؤلاء أيضا أن شعار ثورة ٢٥ يناير هو «عيش.. حرية.. كرامة إنسانية» وهذا معناه أن الناس يريدون مستوى اجتماعياً لائقاً، يودعون فيه حياة الفقر والعوز، وأن هذا هو من أبجديات الحرية والكرامة، فلا حرية لجائع ولا كرامة لعريان. وليس معنى ذلك أن المسائل السياسية والدستورية أقل أهمية أو خارج اهتمامات الناس، بل هى ضرورة ملحة قياسا إلى أن بلادنا بحاجة ماسة، فى الوقت الراهن، لبناء إطار لنظام سياسى ديمقراطى. لكن من الحصافة والرشد أن توازى النخبة فى حديثها وفعلها بين المسائل السياسية والاقتصادية، حتى تحقق الثورة أهدافها، وتلبى رغبة طبقات عريضة ثارت لأن أحوالها كانت قد تردت إلى مستوى لم يعد معه هناك فرق لديها بين الحياة والموت
.
إن صراع الديكة الذى يدور على الفضائيات اليوم يذهب بالمصريين إلى القضايا نفسها التى كانت تثار أيام حكم المستبد حسنى مبارك، والتى كانت أجهزة الأمن تصنع بعضها لأخذ انتباه الناس بعيداً عن الأمور الحيوية التى تهم حياتهم. ويبدو أن الإعلام اعتاد هذا النهج ولا يريد أن يتخلص منه، ويلقيه تحت أقدام الثائرين، ليبدأ فتح صفحة جديدة مسؤولة ترمى إلى إطلاق الطاقات الذهنية والنفسية لتبدع أفكاراً تسهم إسهاماً خلاقاً فى بناء البلد، وتحقق مطالب الثوار الحقيقيين، الذين ضربوا الشوارع بأقدامهم فزلزلوا الأرض من تحت النظام البائد، فسقط، ثم عادوا من حيث أتوا، ليقوم غيرهم بإحكام القبضة على دفة الأحداث والوقائع وصناعة الأخبار وطرح المسائل على طاولة النقاش اليومى
.
إن الشعب الغاضب الذى فتح صدره أمام الرصاص فى الشوارع والميادين، وضرب بساعده الفتى حشود الأمن المدججة بالظلم والكراهية، كان يهدم نظاما أذاق المصريين الفقر والذل والهوان، ليفتح بابا وسيعاً أمام بناء نظام آخر على أنقاضه، ينقل مصر كلها من هامش العالم إلى متنه، لكن يبدو أن قوة شريرة توجهها غرائزها ومصالحها الخاصة الضيقة وفهمها المريض وتفكيرها المنعزل الصغير ورغبتها الجامحة فى حب الظهور وركوب الموج وسرقة المواقف واصطناع البطولات المزيفة تريد أن تجر مصر العظيمة إلى مستنقع جديد من الارتباك الأمنى والتخلف الفكرى والتردى الاقتصادى، ومثل هؤلاء يخونون دماء الشهداء ويتنكرون لأوجاع الجرحى، ولا يربطهم عهد ولا ذمة بأبطال الثورة الحقيقيين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق