اخر الاخبار

07‏/05‏/2011

دستور طويل أم قصير؟/حازم الببلاوي

hazem el beblawy kkk
بعد نجاح ثورة 25 يناير يتطلع المصريون إلى حياة ديمقراطية سليمة. ولعل أولى الخطوات على هذا الطريق هو التوافق على دستور جديد يرضى طموحهم. ولكن ما شكل هذا الدستور الجديد، وما مدى
تغطيته لمختلف جوانب الحياة؟ هل يتعرض الدستور لكل الأمور المهمة فى السياسة والاقتصاد والثقافة والعلاقات الخارجية؟ أم من الأفضل أن يقتصر الدستور على عدد محدود من القضايا المتعقلة بالحكم والحريات ويترك ما عداها للقوانين العادية؟ بعبارة أخرى هل نبحث عن وضع دستور «طويل» يغطى معظم مشاكل المجتمع، أم نركز فى «دستور قصير» على أمور محددة تتعلق بطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكومين؟
تختلف سياسات الدول، فبعض الدول تقتصر على دستور «قصير» محدود المواد وفى مقدمة هذه الدول الولايات المتحدة الأمريكية، فى حين أن دولا أخرى تتبنى دساتير «طويلة» تتعرض لمختلف جوانب الحياة وقد تمتد إلى مئات من المواد الدستورية. فأى الأسلوبين أنسب لظروفنا؟ هذا هو السؤال.
يعتقد الكثيرون من الاقتصاديين أن «القيمة» تتوقف ـ إلى حد بعيد ـ على «الندرة». ويبدو أن «قيمة» الدستور تحتاج إلى هذه الحكمة. فالدستور ليس مجرد قواعد قانونية عادية بل هى أساس النظام القانونى فى البلاد، وبالتالى ينبغى أن يتمتع «بقيمة» عظيمة فى نظر الشعب. وهذه القواعد العليا للدستور هى التى تحكم وتضبط جميع القوانين الأخرى، ولذلك فإن أحكام الدستور يجب أن تتمتع بأكبر قدر من الاحترام وعدم التعرض للتعديل والتبديل، وبحيث يتوافر لها نوع من القدسية.
فقيمة مبادئ الدستور ترتبط إلى حد بعيد باقتصارها على الأسس الثابتة والمتفق عليها لضمان سلامة المجتمع. ونظرا لأن سنة الحياة هى التطور، وأن الأشياء لا تبقى على حالها، فإن استقرار القواعد هو الاستثناء وليس القاعدة.
فأنماط الحياة ومطالب الناس فى تغير مستمر، كذلك تتغير العادات الاجتماعية لمسايرة التطورات التكنولوجية والسكانية والبيئية. وكل هذا يتطلب أن نحصر مواد الدستور ــ بشكل أساسى على مجال محدد هو علاقة الحاكم بالمحكومين دون حاجة إلى الانزلاق إلى مختلف المجالات الأخرى السياسية والاجتماعية والثقافية والتى تتعدد فيها المذاهب والتيارات وتختلف فيها المواقف، فضلا عن أنها ــ بطبيعتها ــ معرضة للتغيير والتبديل مع تغير وتنوع أشكال الحياة داخل البلد أو فى علاقاتها مع العالم الخارجى. فالنظام القانونى الناجح هو النظام المرن والقابل للتغيير والتعديل لمواجهة الواقع المتجدد والمتغير. أما الدستور، فالأصل فيه هو الاستقرار والثبات النسبى. وهكذا نجد أنفسنا إزاء مشكلة عويصة فى سياستنا التشريعية للتوفيق بين مطلبين متعارضين.
فالقانون الناجح يتطلب درجة عالية من المرونة وعدم الجمود حتى يساير التطورات المجتمعية، بل وأحيانا لكى يشجع عليها. وفى نفس الوقت، فإن أى مجتمع لا يمكن أن ينمو ويزدهر دون استقرار فى نظام الحكم ومع ضمان لحقوق وحريات الأفراد. وهكذا فإن المجتمع السليم يتطلب الجمع بين مبدأين متعارضين فى الظاهر، وهما من ناحية استقرار وجمود نسبى فى الإطار العام لنظام الحكم والحقوق والحريات الأساسية، فى نفس الوقت الذى يكون فيه النظام القانونى فى مختلف نواحى الحياة مرنًا غير جامد مسايرا للاحتياجات ومتطورا معها.
لذلك عرفت معظم النظم الديمقراطية نوعين من القواعد، قواعد الدستور من ناحية، وقواعد القانون العادى من ناحية أخرى. فقواعد الدستور هى، بشكل عام، قواعد جامدة لا تقبل التغيير والتبديل بسهولة، ولذلك تنحصر هذه القواعد فى المبادئ الأساسية للحكم فى العلاقة بين الحاكم والمحكومين. فهناك من ناحية الحقوق والحريات الفردية وهى تكاد تكون حقوقا طبيعية يكتسبها الفرد بحكم طبيعته الإنسانية، ولذلك فإنها تمثل جوهر الدستور والغرض منه، وهى تتمتع عادة بدرجة كبيرة من الاستقرار. ويرتبط بهذه الحقوق والحريات ويدعمها تحديد سلطات الحكم والعلاقة فيما بين الحاكم والمحكومين ومدى مسئوليات الحكم وضمانات عدم تعسفها أو تأبيدها. وهذه القواعد الدستورية هى التى تتمتع بأكبر قدر من الاستقرار ويخضع تعديلها أو تغيرها لشروط وضوابط عديدة تضمن عدم الاستخفاف بها أو تسهل الاعتداء عليها. وليس الأمر كذلك فى مختلف جوانب الحياة التشريعية والتى تنظم الحياة للأفراد من أمور اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو بيئية أو غيرها. فهذه أمور غير ثابتة تتطور مع التغيرات التكنولوجية والتطورات السكانية والتقلبات البيئية، ومن الطبيعى أن تسايرها القوانين العادية بل أحيانا تستبقها وتمهد لها. ولذلك ينبغى أن تتمتع هذه القوانين بدرجة أعلى من المرونة والقابلية للتعديل والتغيير.
السؤال هو إذن عن سياستنا التشريعية، فهل نغلِّب المبادئ الجامدة على القواعد المرنة أم على العكس نحصر المبادئ الجامدة فى إطار ضيق للدستور؟ هل الأصل هو القواعد الدستورية الجامدة أم أن الأصل هو القواعد التشريعية المرنة؟ الإجابة عندى هى: أنه رغم أن الدستور يعلو على القانون العادى وله عليه الرئاسة والقوامة، فإن القانون العادى هو الأداة الطبيعية لتنظيم أمور الحياة. ولذلك فإن مجال الدستور ينبغى أن يكون صلبا ومحل اتفاق عام بل وإيمان عميق، وهذا لا يتحقق إلا فى مجال محدود من المبادئ الإنسانية عن حقوق الإنسان ومسئولية الحكم. فالدستور استثناء، ولكنه الاستثناء الذى يمثل الأساس الذى يقوم عليه النظام القانونى بأكمله. وهكذا فإنه ينبغى أن ينحصر الدستور فى المبادئ الرئيسية التى يؤمن بها غالبية المواطنين، بل والتى أجمع عليها الغالبية من أبناء البشرية. وهذه تمثل الحقوق والحريات الأساسية من ناحية، وضوابط ممارسة السلطة وعدم تركزها أو تأبيدها مع تحديد أشكال المساءلة والشفافية. أما القضايا الحياتية الأخرى، فإنها تكون عادة عرضة لتجاذب الآراء وتنوعها وتطورها مع الزمن، ولذلك فإن مجالها هو القانون العادى القابل للتعديل والتغيير بلا صعوبة.
وهكذا، فإننى أعتقد أن الأكثر ملاءمة لنا ونحن نعد لدستور جديد، أن نقتصر على مجالين أساسيين هما تحديد الحقوق والحريات الأساسية للأفراد وتوفير الضمانات لها من ناحية، وتنظيم السلطة السياسية ومدى اختصاصاتها وحدود هذه الاختصاصات وكيفية مباشرتها والمسئولية تجاهها. أما ما عدا ذلك فمجاله القانون العادى الذى يصدر فى إطار الدستور ومن خلال السلطات المنصوص عليها فى الدستور.
وإذا نظرنا إلى تجارب الدول فى هذا الصدد فإننا نجد أن أكثر التجارب الدستورية نجاحا كانت فى دول تتميز دساتيرها بأنها «قصيرة» وقاصرة على هذين الأمرين: الحقوق والحريات الفردية من ناحية، وتنظيم مباشرة السلطة وتنظيم العلاقة بين مكونات هذه السلطة من تشريعية وتنفيذية وقضائية. أما تلك الدول التى أسرفت فى التوسع فى نصوص دساتيرها، فإنها عرفت انقلابات دستورية متعددة.
فالثورة الأمريكية والثورة الفرنسية قامتا فى نفس الوقت تقريبا مع فارق زمنى لا يزيد كثيرا على عقد من الزمان. ولكن الدستور الأمريكى ما زال قائما ــ مع تعديلات لاحقا ــ إلا أن فرنسا غيرت دساتيرها وانقلبت عليها أكثر من مرة، وهى تعيش الآن فى ظل الجمهورية الخامسة. وأطول الدساتير هى دساتير الدول الدكتاتورية. كذلك فإن كثيرا من الدساتير التى تتوسع بالتعرض لمختلف القضايا الأخرى فإنها تضطر السياسيين لتجاهل تطبيق بعض النصوص الدستورية عندما تكون الظروف غير مناسبة. وذلك كما حدث فى مصر، عندما نص دستور 1971 على أن النظام الاقتصادى المصرى هو «النظام الاشتراكى» وأن «القطاع العام» هو قائد التنمية الاقتصادية. ورغم ذلك، فقد قامت الحكومة المصرية آنذاك ببيع القطاع العام والخصخصة فى ظل ذلك الدستور، قبل تعديله فى 2005. كذلك كثيرا ما لوحظ أن تضمن أحكام الدستور لقضايا اجتماعية أو ثقافية أو حتى سياسية كان أمرا شكليا وفارغا من المضمون وذلك عندما يحدد الدستور المبدأ ثم يقيده بأن تكون ممارسة هذه الحقوق «وفقا للقانون». فيبدأ الدستور بالنص على أحد الحقوق، ثم يقيد ذلك بالقول بأن ممارسة هذه الحقوق يتم «وفقا للقانون» مما يجعل النص فارغا من المضمون من الناحية العملية.
لكل ذلك، فأنا أميل إلى دستور «قصير» ومقصورة على الحقوق والحريات الأساسية للأفراد من ناحية، مع تحديد أساليب ممارسة السلطة وتوزيعها ومسئوليتها ومدة البقاء فيها من ناحية أخرى. فمن الأيسر تحقيق التوافق العام حول هذه المبادئ العامة للحكم مما لو تعرض الدستور لمختلف جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التى تتعدد فيها الآراء والمواقف. ويتفق هذا المنطق مع الأصل التاريخى لمفهوم الدساتير. فالدساتير بدأت كنوع من «العقد الاجتماعى» بين الشعوب وحكامها، لتأكيد حقوق الأفراد وحرياتهم من ناحية، ووضع القيود والضوابط على ممارسة السلطة من جانب آخر. ولذلك فربما يكون من المناسب أن يقتصر الدستور على هذا المجال. أما ما عدا ذلك من مجالات فالأصل أن يترك للتشريع العادى، الذى هو مجال للاختلاف والاجتهاد، وبالتالى من الأفضل أن يتمتع بقدر كبير من المرونة.
كذلك فإنه نظرا لأن مثل هذا الدستور «القصير» يتمتع، عادة، بالتوافق العام حوله، فإنه يصبح مع مرور الزمن رمزا للوطنية الذى يلتف حوله الجميع، حتى وإن اختلفت آراؤهم السياسية أو توجهاتهم الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية الأُخرى. ولذلك فمن المطلوب أن تصبح معرفة الدستور شرطا للمواطنة وبرنامجا مدرسيا فى جميع المدارس. وهو أمر يصعب تحقيقه على نحو فعال إذا توسع حجم الدستور إلى مئات المواد التى تتعرض لكل شاردة وواردة فى الحياة الاجتماعية.
«قيمة» الدستور لا تزيد بزيادة أعداد المواد التى يضمها أو بتعدد المجالات التى يتعرض لها، وإنما تتحدد بأهمية المواد القليلة التى يتضمنها لحماية الحقوق والحريات من ناحية، وتنظيم ممارسة ومساءلة السلطة من ناحية أخرى. فكما، فى الاقتصاد، فإن «قيمة» مواد الدستور تزداد بقدر ندرتها وتركيزها على الأمور الرئيسية دون حاجة إلى الجمع بين الغث والنفيس. والله أعلم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق