اخر الاخبار

17‏/05‏/2011

التجديد السياسى لـ«الإسلاميين» بقلم عمار علي حسن

لو أمعنّا النظر فى خطاب «الحركة الإسلامية» وممارساتها الحالية، لأدركنا أن هناك عناصر عدة حالت دون أن تواصل البذرة التى غرسها الإمام محمد عبده نموها وترعرعها، فتفتح نوافذ التصور الدينى على معطيات العصر ومقتضياته، لتنتهى الأمور إلى ما آلت عليه، حيث يعلو صراخ التطرف على صوت الاعتدال، وتجنح الرؤية إلى التعصب دون التسامح، ويركن الفهم إلى الجمود وليس التجدد، وتلتفت الأعناق إلى الوراء، فلا ترى ما تحت الأقدام ولا ما يرنو فى البعيد. والأسباب التى عوّقت التجديد السياسى للإسلاميين فى مصر كثيرة، يمكن إجمالها فى النقاط التالية:

١- الخبرة السيئة للاستعمار: فسلوك الاستعمار الفرنسى والإنجليزى فى المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية رشح بقوة على ما وراء الحملات العسكرية، التى قبضت على القطر المصرى، من حضارة فكرية وعلمية، بل طغى عليه، فلم يعد المصريون ينظرون إلى الأجانب الجاثمين على أرضهم إلا من منظور «الحروب الصليبية»، و«الاستغلال» أو «فائض القيمة التاريخى»، وبعد الاستقلال بدا بعض الغرب، فى نظر أتباع الحركة الإسلامية المصرية، هو السند القوى للنظام «العلمانى» فى مصر. ولأن الإسلام كان فى طليعة المقاومة دوما، حتى فى الأوقات التى كانت النخبة الليبرالية المصرية أيام ثورة ١٩١٩ تأخذ على عاتقها التفاوض من أجل الاستقلال، فإن إمكانية التعامل مع «الأفكار الليبرالية» الغربية على محمل «التلاقح الحضارى»، أو حتى حسب منطق «بضاعتنا رُدت إلينا»، كانت تجد أمامها حواجز وعوائق من الصعب النفاذ منها أو تخطيها بيسر وسهولة.

وانطبع هذا التصور فيما بعد على أدبيات «الحركة الإسلامية المصرية» فى مرحلة ما بعد الاستقلال، إذ نظرت إلى الغرب على أنه «كافر» و«استعمارى» و«دار حرب» يجب الجهاد ضدها كى تتحول إلى «دار إسلام». ثم نظرت هذه الحركة بعين الريبة إلى كل ما يرد من الغرب حتى لو كان فى حقل الأفكار والمعارف، خصوصا الإنسانيات. وبدا لها أن إنتاج معادل للتجربة السياسية الغربية، فى اصطلاحاتها وإجراءاتها، أمر فى غاية الضرورة. ومن ثم حفلت كتابات الرعيل الأول من «الجماعة الإسلامية» و«تنظيم الجهاد» ومن قبلهما «الإخوان المسلمون» بحديث عن «الشورى» لا «الديمقراطية»، و«البيعة» بدلا من «الانتخاب»، و«مجالس الشورى» وليس «البرلمانات»، و«الأمة» لا «الدولة»، و«الخلافة» لا «الإمبراطورية»... إلخ.

ولم يقف الأمر عند حدود المصطلحات والمفاهيم العامة، بل امتد إلى الإجراءات العملية، فى محاولة عاجزة لإنتاج بديل سياسى ينهض بواقع مغاير لذلك الذى كان عليه المسلمون الأوائل، الذين أفرزوا تجربة سياسية ناضجة، جديرة بالاحترام، قياسا إلى عصرهم، وما كانت عليه الأمم والإمبراطوريات التى عاصرتهم.

٢- إجهاد ما بعد الاستقلال: فإزاحة الاستعمار الإنجليزى لم ترتب للحركة الإسلامية المصرية وضعا أكثر أمناً وانفتاحاً، بل حدث العكس، ففى ظل الصراع على السلطة عقب الاستقلال مباشرة، وجدت هذه الحركة ممثلة فى «جماعة الإخوان المسلمين» متهمة بالخيانة و«التطرف»، ثم «الإرهاب» الذى وصمت به عشرات الجماعات التى خرج بعضها من عباءة الإخوان، ونشأ بعضها ليضارعها وينافسها قامة وقيمة، والبعض الثالث أفرزته بيئة خاصة بعيدا تماما عن تأثير الإخوان. وهذا الوضع المتأزم جعل خطاب هذه الحركة بشتى جماعاتها وتنظيماتها متأزما أيضا، رافضا الحوار، ومتشككا فى نوايا النظام الحاكم، يقدم «الأمنى» على «الفكرى»، ويأخذ بالحيطة فى كل ما يبدر عنه. وفى ظل هذا التربص والالتباس لم يتوفر المناخ الذى يسمح للجماعات الإسلامية المصرية بأن تطور خطابها الفكرى والسياسى نحو أى توجه «ليبرالى» أو غيره.

٣- إخفاق أنصار الحرية السياسية: فمحاولاتهم لم تجد طريقا إلى النجاح الصريح، الذى يؤسس - حتى لو أزاحته حركة سياسية عابرة أو عارضة أو ذات شرعية قانونية وسياسية فى إطار التعددية وتداول السلطة - تيارا اجتماعيا قويا يحمل رايته، ويدافع عن أفكاره، ويجاهد من أجل الوصول إلى سدة الحكم، أو حتى التسيد الاجتماعى الناصع. وانتهت الليبرالية المصرية، تحت وطأة الشمولية، إلى بعض أفكار يهمس بها أناس معتكفون فى أبراجهم العاجية، ينتج بعضهم أفكارا، لا تجد صدى سوى لدى قلة محدودة.

هذا بالطبع أثر سلبا على تصورات الحركة الإسلامية المصرية، التى رأى أتباعها أن التيار الليبرالى أفلس فى تقديم حل ناجع للمشكلات التى يواجهها المجتمع المصرى، ومن ثم فليس هو الأحق بالحصول على ثقة الجماهير وتأييدها، وليست أفكاره تستحق الالتفات إليها، لأنها مخفقة مبتسرة، تحاول أن تستعير تجارب مجتمعات مغايرة لتطبقها فى مصر. وطالما حفلت أدبيات الحركة الإسلامية، بمختلف أطيافها، بمثل هذه الاتهامات، سواء فى وثائق هذه الحركة وكتبها الأولية، أو على صفحات الجرائد والمجلات التى تنطق باسمها أو تتعاطف معها، ناهيك عن مئات الكتب، التى هاجمت أحمد لطفى السيد وقاسم أمين وتوفيق الحكيم وطه حسين وزكى نجيب محمود وفؤاد زكريا وسعيد النجار... إلخ.

ولقد كان الأخير أكثر إيجابية فى التعامل مع الجماعات السياسية ذات الإسناد الإسلامى، إذ أيد التفسير المستنير للإسلام، ولم يمانع فى قبول «الحركة الإسلامية» فى المشروعية السياسية، وفقط شروط عدة، فى مقدمتها عدم تعارض تفسيرات الإسلام مع العلم، واهتمام هذه الحركة بالقضايا الاجتماعية الحقيقية مثل التخلف والفقر والتبعية، والاعتراف بحقوق الإنسان، بوصفه لا يتعارض مع التفسير المستنير للشريعة، واحترام الدستور، باعتباره قضية تخص الجميع، واحترام قواعد الديمقراطية التى تعنى النزول على رغبة الأغلبية.

 لكن النجار وغيره من الليبراليين، لم يشتبكوا فى حوار حقيقى مع «الإسلاميين»، بل حدث العكس، إذ مال أغلبهم إلى جانب السلطة فى حربها ضد المتطرفين، طمعاً فى أن تدرك الأخيرة أن غياب الديمقراطية هو السبب الأول فى انتشار العنف، لكن الأخيرة تجاهلت هذه الإشارة، وسارت فى الاتجاه المضاد، عبر التمسك بالقوانين الاستثنائية، وادعاء أن الديمقراطية ستقود إلى اختطاف المتطرفين السلطة، وانقلابهم على الآليات الديمقراطية.


٤- ضعف نفوذ «مجددى» الرؤية الإسلامية فى مصر: فأغلب ما تركه هؤلاء وما لا يزالون يواصلون إنتاجه يفتقد إلى الأصالة، ولا يعدو كونه محاولات تلفيقية ترمى، قسرا، إلى التوفيق بين الخصوصية المجتمعية الإسلامية المصرية والمنتج الحضارى الغربى بتجلياته المغايرة.

علاوة على ذلك فإن أغلب من يتصدون لتجديد الرؤية الإسلامية ليسوا أهلا لهذا، فإما أنهم مطالعون لما جاد بها التراث الإسلامى، حافظون للنص الأصلى وتفاسيره دون أن يمتلكوا الإلمام بمجريات الواقع المعيش.

وإما العكس، أى أنهم واعون بالوقائع والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية الراهنة دون أن يكون لديهم إلمام كاف بأصول الإسلام وجذوره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق