اخر الاخبار

17‏/06‏/2011

حـوار لا مبارزة بقلم: أحمد كمال أبو المجد


ahmed kamal aboelmagd 
يجتاز عالمنا العربى، مع العالم كله، أزمة سياسية وثقافية لا نعرف لها مثيلا فى التاريخ الإنسانى كله..

ذلك أن الثورات المتعاقبة فى سرعة هائلة فى ميادين العلم والتقنية (التكنولوجيا) قد غيرت خريطة العالم كله وتركت آثارا عميقة على منظومات القيم، التى يعيش فى ظلها أبناء الثقافات والقوميات المختلفة.. فتغيرت أساليب المعيشة وأنماط العلاقات بين الشعوب، كما تغيرت معها أنماط العلاقات بين الأفراد من أبناء الثقافة الواحدة.. فيما يشبه الزلزال المدمر الذى تجاوز بنا جميعا حدود الأزمة لندخل به جميعا ساحة الفتنة، التى «تذر الحليم حيرانا»، كما يقول الحديث النبوى الشريف.
وفى أيام الفتن والأزمات تحتاج الشعوب إلى «وقفة» متأنية لقراءة المشهد الجديد ولفهم عناصره ومكوناته، فمن هذه الشعوب من أسلم نفسه تماما لدواعى التغيير متنازلا ــ بوعى أو بغير وعى ــ عن جانب كبير من منظومة القيم وأنماط السلوك التى طبعت تاريخه الطويل.

ومنهم من لا يزال عاجزا عن «الاندماج» مع «الحالة» الجديدة والمنظومات السلوكية والأخلاقية التى طرأت وتتابعت مع كل حلقة جديدة من حلقات التطور المعاصر.. وثمة شعوب قليلة لا تزال متوقفة عند شعور «الدهشة والانبهار والحيرة» إزاء عالم جديد مدهش ومبهر ولكنه ــ فى الحقيقة ــ محيِّر ومثير للارتباك.
ونحن العرب والمسلمين نحتاج فى مواجهة هذه الأزمة إلى إدارة حوار حقيقى نتبادل فيه الإرسال والاستقبال ونتبادل الحديث والاستماع، ونتأمل فى كل ما عندنا وكل ما حولنا تأملا موضوعيا هادئا، محاولين توظيف تعدد وجهات النظر السائدة بيننا توظيفا يستفيد منه كل أطراف الحوار وتلقى فيه الأضواء الباهرة على موضوعاته الجديدة.

ومع ذلك فإننى لا أتردد لحظة واحدة فى إعلان أن بعض ما يجرى بيننا تحت لافتة «الحوار» هو أمر آخر تماما لا تربطه بالحوار رابطة.. وإنما هو جدال وملاسنة وتشاتم وتبادل لأخطر الاتهامات، وأسوأ عبارات الإدانة والتجريح.. وما لم نعترف بذلك ونقرر ــ فى لحظة صدق وأمانة ــ أن نتوب توبة نصوحا عن ممارسة هذه «الحرب الأهلية» الدائرة بين أطياف الفكر المختلفة فى مجتمعاتنا.. فلن يكون من حقنا أبدا أن نتحدث عن مستقبل قريب مشرق يتوحد به نسيج الأمة، وتحل عن طريقه روح التسامح والود المتبادل، وتوظيف التعددية فى الرؤى والمصالح لما يخدم الأمة كلها محل التشرذم ومحاولات الإقصاء المتبادل الذى تستهلك به الطاقة ويتبدد به الجهد، ولا يبقى منه إلا أقل القليل من القدرة على مواجهة سلسلة طويلة تواجهها أمتنا من التحديات والعقبات.. إن ضمير العربى المعاصر، وأمانة المسلم المعاصر، يعيشان أزمة خانقة حين يتأمل كل منهما فيما يدور حوله من حوار حول قضايا العرب وقضايا المسلمين.. إذ إن هذا الحوار لا يكاد يبدأ جدالا بالتى هى أحسن، حتى تتسلل إليه الحدة والشدة، وتستولى على أطرافه روح الضيق بالمخالفين، والمسارعة إلى اتهامهم فى أهدافهم ونياتهم، وأخذهم ــ جميعا ــ بالشبهة وسوء الظن، واستثارتهم باللفظ الجارح والعبارة القاسية، فيترك بعضهم ساحة الحوار إيثارا للسلامة، وضنا بالسمعة والكرامة ويختار بعضهم أن يدفع السيئة بالسيئة، فيرد على الصيحة الغاضبة بأعلى منها، ويتلقى التهمة فيوجه إلى خصمه مثلها أو أشد منها ويتخير فى ذلك كله أشد التهم إيلاما وأكثرها جرحا للكرامة وإيغارا للصدور، وزراية بالخصم عند أهله وأنصاره وجمهوره.. ثم تكتمل المأساة حين لا تلبث «القضايا» و«الهموم»، التى بدأ الحوار المزعوم حين بدأ ــ بقصد خدمتها والاهتداء إلى الرشد والصواب فى شأنها أن تضيع وتختفى وسط الصيحات العالية والاتهامات المتبادلة.. ولا يبقى فى الساحة إلا خصوم يتبارزون ويتناطحون، غاية كل منهم أن ينتصر على خصمه، وأن تخلو الساحة من كل أحد سواه، ومن كل رأى سوى رأيه.. إن نظرة سريعة على بعض ما يدور هذه الأيام من ملاسنات ومشاحنات تحت اسم الحوار والجدل الوطنى تردنا إلى حقيقة أشد مرارة وأكثر ترديا فها هى عشرات الأقلام بل مئات الأقلام العربية مشرعة كالسهام المسمومة فى مبارزات كلامية غايتها القضاء على الخصم ورأيه وها هى إذاعات وفضائيات وصحف عربية وإسلامية يستخدم كثير منها سلاحا فعالا فى الحرب الأهلية العربية الدائرة «من المحيط إلى الخليج».. ولا يعرف أحد من أطرافها كيف ولا متى تنتهى وتضع أوزارها.. حتى يبدأ على أنقاضها حوار حضارى يطلب الحقيقة ويديره أطرافه فى أدب وأمانة واحترام متبادل.

ولنتذكر جميعا أنه فى مبارزات «الأقلام» و «حروب الصحافة والإعلام» تستباح الحقيقة، ويزيف الواقع، وتنتهك الكرامة، ويُرجم ــ بالباطل ــ أصحاب الرأى المخالف ومع عموم البلوى على هذا النحو وارتباطها بقضايا الثقافة والسياسة ومحاولات الإصلاح، وفى غياب روح الحرية واحترام الإنسان، فإن قضية «أدب الحوار» والتعرف على ضوابطه ومنهجه الصحيح تصبح لها أولوية كبرى قبل المجازفة ببدء الحوار، ذلك أن ضبط المنهج والتذكير الدائم بعناصره هو المدخل الوحيد والضرورى للاستفادة من هذا الحوار.

وتزداد عندنا جميعا دواعى الحزن وأسباب الأسف حين نتذكر أن ثقافتنا العربية الإسلامية ــ قد وجهت عناية خاصة ــ فى زمن مبكر من تاريخها ــ لقضية منهج الحوار فعالجته تحت عنوان «أدب المناظرة» ــ وحسبنا أن نشير إلى كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» الذى كتبه عبدالرحمن الكواكبى عام 1957، والذى سجل فيه أثر «الاستبداد» على حرية الفكر والاعتقاد والتعبير، وأن نشير إلى العديد من كتب التراث القديمة التى عالجت قضية كبرى من قضايا الحوار.. وهى كيفية التوفيق بين «داعى العقل» وداعى «الالتزام بالنقل» فى إطار ثقافة عربية إسلامية تقوم على التوفيق بين ضرورة استخدام العقل الذى اختص الله به ذرية آدم، مع الالتزام بالنقل الثابت بالوحى عن الله تعالى: «إنْ هُوَ إلاَّ وَحَىٌّ يُوحَى»، والالتزام بما وصل إلينا عن طريق النبى من هدى يراد به التشريع للأمة فى كل أحوالها «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا».

وسنحاول فيما بقى من هذه السطور أن نضع بين يدى القارئ «قائمة» بعناصر المنهج العلمى والموضوعى للحوار. مضيفين إليها ما اعتبره العلماء والساسة فى العالم كله قديما وحديثا عناصر أساسية «لأدب الحوار» ولغته وأسلوبه.. وإذا كان من شأن المنهج أن ييسر الوصول إلى الأرشد والأصلح فى موضوعات الحوار.. فإن من شأن الالتزام «بأدب الحوار» ضمان استمرار ذلك الحوار وتواصل حلقاته واتساع دائرته، وتعدد الرؤى ووجهات النظر التى تُطرح من جانب أطرافه أجمعين.

وأول عناصر هذا المنهج.. الحرص على تحديد موضوع الحوار تحديدا دقيقا حتى لا يفهم الأطراف هذا الموضوع فهما مختلفا.. عاجزين بذلك عن إدراك حجم «الرأى المشترك بينهم» حول هذا الموضوع، وكم رأينا فى ساحات الكتابة والأداء الإعلامى فى عالمنا العربى حوارا حادا وتبادلا للوم والاتهام، وممارسة لأسلوب إقصاء الآخر بعد إدانته وانتهاك كرامته.. وإذا بأطراف الحوار يقول بعضهم لبعض فجأة.. «إذا كان هذا ما تعنيه فلا خلاف عليه بيننا».. وغالبا ما يقع هذا الاكتشاف بعد جولات من الصراع والسباب واستهلاك الطاقة فى الإدانة والتجريح.

أما العنصر الثانى فهو التزام الأمانة والموضوعية فى مناقشة «موضوع الحوار» والترفع عن التزوير والتدليس فى عرض وجهة النظر المخالفة، وإيراد حجة الخصم فى إطار سياقها الذى قيلت فيه.. أما عرض تلك الحجة على نحو ينقص من قدرها ويخرجها عن سياقها.. فإنه خيانة عمدية لأدب الحوار فى حده الأدنى.. ولقد بلغت عناية علمائنا قديما بهذا الأمر أن المؤلف أو الكاتب الذى يسعى للرد على مخالفه فى الرأى.. كان كثيرا ما يحرص على إيراد النص الذى يناقشه فى «متن الكتاب ووسطه» ثم يورد مناقشته له ورده عليه فى حاشية تحيط بالنص الذى يناقشه.. وبين يدىَّ وأنا أكتب هذه السطور كتاب «منهاج السنة» للأمام الحنبلى «تقى الدين بن تيمية».. وقد توسط صفحاته نص كتاب «منهاج الكرامة» للإمام الشيعى «الحسن بن المطهر الحلى».. وبهذا تستحيل عملية التدليس والتزوير ويطمئن القارئ إلى أن ما يطلع عليه هو النص الحقيقى الكامل لوجهتى النظر التى يراد وضعها بين يديه.. ترى كيف جرى التحلل فى أيامنا الحديثة من هذه الأمانة العلمية، التى تمثل الحد الأدنى من مسئولية أهل العلم والرأى ذلك سؤال يحتاج إلى إجابة.. كما أنه يساعد على فهم بواعث الكذابين والمدلسين.. وما أكثرهم فى زماننا هذا الذى أصبحت فيه أمانة الكلمة والدقة فى عرض الرأى سلعة نادرة لا يصادفها القارئ إلا نادرا..

والنادر، كما يقول علماء الأصول «لا حكم له» لأن العبرة ــ فى نهاية المطاف ــ هى بالغالب الأكثر، الذى يصل إلى جمهور القراء والمستمعين والمشاهدين.
«وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إلاَّ نَكِدا».

وأخيرا نصل إلى أسوا ما يعيب «الحوار» الذى نزعم أننا نديره بيننا بعد أن حملناه بمثالب وانحرافات فى الأسلوب تحوله إلى مبارزة كلامية يستباح فيها كل شىء، على نحو يدخل ــ فى تقديرنا ــ فى نطاق جرائم القذف والسب، التى يؤثمها ويعاقب عليها قانون العقوبات المصرى، كما تؤثمها وتعاقب عليها أكثر النظم القانونية المعاصرة.

إن أخص ما نحتاج إليه فى حوارنا حول قضايانا الكبرى الالتزام بعفة اللسان والقلم خصوصا حين يتصل الحوار بالقضايا الكبرى التى يتعلق بها مصير أمتنا أو حين يتصل بثوابت ثقافتنا ذات العنصر الدينى.. وما أقبح أن يتنزل العلماء ونخبة المثقفين فى حوارهم إلى جارح اللفظ وسيئ العبارة متعللين بأن صدورهم تضيق وأن صبرهم ينفذ وهم يدافعون عن ثقافتنا وتراثنا وديننا..

إنه اعتذار لا يمكن أن يستقيم لمن يقرأ فى صحيح مسلم أن بعض الصحابة قالوا للنبى: يا رسول الله ادع على المشركين، فقال: «إنى لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة»، فضلا عن أن يستقيم شىء بعد ذلك لمن يقرأ قوله تعالى: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة».

أو يستوقفه منهج القرآن وهو يحمى الكلمة ــ كتابة ومشافهة بقوله سبحانه «وَلاَ يُضاَرَ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيد»، (والمقصود بالشهيد الشاهد على واقعة مطروحة للمناقشة ومعروضة أمام القضاء) أو يمس قلبه أدب القرآن العظيم حتى وهو يجادل المشركين بقوله: «قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ».

إننا ــ فى ختام هذه السطور ــ ندعو علماءنا الذين يحملون الأقلام ويكتبون فى الصحف ويتحدثون فى الفضائيات أن يتوقفوا قليلا عند تراثنا الذى يرفعون راياته فى كل مناسبة ليتأسوا بالنماذج المُشَرِّفة التى يزخر بها ذلك التراث أمثلة رائعة لأدب الحوار حول قضايا الجماعة حتى ما يتصل منها بالعقيدة.. ويستوقفنا من هذه النماذج الحوار الرائع بين عمر بن الخطاب وعدد غير قليل من صحابة النبى فيهم عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب وعبدالرحمن بن عوف وبلال بن رباح حين أراد عمر أن يتوقف عن توزيع الأراضى المفتوحة على المقاتلين من بين المسلمين، وكان موضوع الخلاف مثيرا لتفسير آيات عديدة من القرآن الكريم كما كان يحمل فى طياته مصالح كبيرة لفئات يتفاوت نصيبها من الثروة والحاجة إلى المال.. فما اشتد عمر فى كلماته وما عنَّف أحدا من الصحابة فى عباراته..

وما انتقل الحوار من عرض شواهد الرأى وأدلته إلى البحث فى بواعث أصحابه ودوافعهم ونياتهم، وإنما تبادلوا الرأى حجة بحجة، ودليلا بدليل حتى اقتنع الصحابة برأى عمر قائلين ــ بعد الحوار الطويل ــ «نِعمَ ما قلتَ وما رأيت».

ترى هل آن لنا جميعا أن نراجع أسلوبنا ومنهجنا الغائب عن حوارنا.. وأن نعود ــ بعد غياب طويل ــ إلى عفة «القلم واللسان».. حتى يفئ إلى أدب الحوار أولئك الذين ينصبون أنفسهم أوصياء على عقول الناس وما تخفى صدورهم، فيتهمون هذا ويخوِّنون ذاك ويشيعون بيننا بذلك روح التردد فى الاجتهاد والمشاركة بالرأى مخافة أن تتناوشهم ــ فى الصدور والظهور ــ سهام أولئك القناصة المتربصين حتى جمد العرب والمسلمون على الموجود وتوقفوا عن الخوض فى كثير مما يحتاج الناس معه إلى اجتهاد جديد، ولقد ماتت بسبب ذلك كثير من الأفكار حبيسة فى الصدور وتراجعت كلمات هداية نافعة بعد أن كانت على أطراف اللسان وأقفلت بذلك أبواب الحوار بالتى هى أحسن لتفتح ــ بدلا منها ــ ساحات صراع وشغب وتنابز بالألقاب، ظاهرها الرحمة وباطنها اللعنة والعذاب وبقى من وراء ذلك كله أن يستجمع أهل الرأى والعلم أطراف شجاعتهم وأن يتنادوا بالجسارة التى تفرضها أمانة العلماء.. فلا يردهم عن قول الحق، وإعلان الرأى صياح الصائحين أو شغب الشاغبين..

فالأمر فى قضايا الأمة الكبرى أمر شهادة بالحق لا يجوز أن يحبسها فى صدره أو على لسانه صاحب رأى «وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُه».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق