اخر الاخبار

25‏/02‏/2011

سياسة مصر الخارجية ومبادئ ثورتها..جميل مطر

لا أستهين بمرحلة انتقال من نظام قديم إلى نظام جديد، وبخاصة في حالة مصرية، حيث النظام القديم لم يسقط تماماً والنظام الجديد لم ينشأ ولا أحد يعرف على وجه الدقة، أو حتى التقريب، شكله ومعالمه وتوجهاته . أخشى ما أخشاه أن ينتهز أصحاب المصالح في النظام القديم، أو أصحاب الأحلام المشروعة، والطموحات غير المشروعة، المصطفون في انتظار النظام الجديد، فرصة المرحلة الانتقالية، فيحاولون تمرير سياسات تخدم أغراضهم ولا تخدم بالضرورة أهداف هذه الأمة التي ثارت لتغيير أوضاع سئمت فسادها، أو ينفذون خططاً لقيام أوضاع جديدة تنشئ نظاماً أشد قمعاً من سابقه وأكثر تبعية للخارج . أستطيع أن أفهم استمرار السياسة المتبعة على ما هي عليه في قطاع جزئي خلال المرحلة الانتقالية في انتظار توفر تمويل كاف وتنظيم جيد لمرفق أو آخر من المرافق العامة . وأستطيع أن أفهم تأجيل إدخال تعديلات ثورية على نظامنا التعليمي، وحاجتنا إليها ماسة وملحة، إلى موعد متأخر نسبياً في المرحلة الانتقالية، ليكون قد تسنى للقائمين على الأمر الاستعداد لصياغة التوجهات المناسبة وإطلاق السياسات الجديدة . إلا أنه من الصعوبة بمكان، والخطورة أيضاً، أن تترك قضايا وأمور في السياسة الخارجية المصرية من دون تغيير . بعض القضايا تمس بشكل مباشر، كما عبرت الخارجية المصرية وعن حق، الأمن القومي المصري، وبالتالي فإنه لا يجوز في هذه الظروف الحاسمة اتخاذ قرارات أو صياغة سياسات تعتمد الخط ذاته الذي ساد في تفكير صانع السياسة الخارجية المصرية على امتداد الثلاثين عاماً السابقة . وهو الخط الذي قاد مصر إلى مكانة متدنية بين الأمم وصنع الفجوة الواسعة في الثقة بينها ودول عديدة، وعزل شعب مصر عن شعوب العالم . *** يتفق الكثيرون داخل صفوف الثورة المصرية والمتابعين لتطوراتها والمنشغلين بدراسة احتمالات نضوجها أو انتكاسها في المستقبل، على أن تدهور سياسة مصر الخارجية كانت دافعاً رئيساً من دوافع نشوب الثورة . عديدون من شباب الثورة ورجالها ونسائها عانوا الأمرين من المعاملة التي عاملتهم بها حكومات دول عربية وغير عربية خلال إقامتهم في الخارج أو زياراتهم للسياحة والدراسة والبحث عن عمل، لا أتحدث هنا عن تخلي وزارة الخارجية المصرية عنهم وإهمالها مصالحهم أو أنها قصرت في حمايتهم، فالأداء العام للبيرقراطية المصرية كان سيئاً بوجه عام والخارجية جزء من عهد البيروقراطية وإن كانت في مصاف القطاعات الأقل سوءاً، ولكني أتحدث عن سياسات مصر الخارجية التي جلبت لشبابها ومهاجريها سخرية الشعوب الأخرى . كان المصريون في كل مكان حطوا فيه أو مروا عليه يسمعون العبارة الشهيرة، أين مصر؟ إهانة في صيغة سؤال، كلمتان تصفان واقع السياسة الخارجية المصرية وتحددان مكانة مصر بين الأمم . أين كانت مصر في صفحات الأخبار الخارجية في أهم صحف العالم وأوسعها انتشاراً؟ وأين كانت مصر في المؤتمرات الدولية التي تناقش مصائر شعوب العالم الثالث خاصة، وأين كانت تقف في مؤتمرات تندد باختراقات حقوق الإنسان والقهر والظلم الاجتماعي ؟ وأين كانت مصر عندما تحركت قافلة الدول الناهضة في أمريكا الجنوبية وفي آسيا؟ أين كانت مصر في لبنان والعراق واليمن والسودان؟ لم نتوقف نحن أنفسنا عن الصراخ بهذا السؤال على امتداد عقود عسى أن يسمعه صناع السياسة الخارجية المصرية، أو ينقله لهم المكلفون تنفيذ هذه السياسة . هؤلاء جميعاً، صناعاً كانوا أم منفذين لا يصححون ولا ينصحون، تصوروا أن السياسة الخارجية المصرية ليست شأناً يتدخل فيه المعلقون والمحللون السياسيون الأكاديميون المتخصصون، فهي، حسب رأيهم وقدسمعته شخصياً من بعضهم، أصعب على فهم هؤلاء من القضايا الداخلية . فضلاً عن أنها يجب أن تظل بعيدة عن النقاش المفتوح بسبب ما تحتويه أحياناً من أسرار تتعلق بالأمن القومي . ظنوا أن كلمة مصر، وإن بالهمس، مسموعة في عواصم العالم، يسمعها الأغراب ولا يسمعها خبراء السياسة الخارجية المصرية من أبناء مصر . زعموا أن حكمتهم مطلوبة، وصدقوا الزعم فصاروا يصطنعون فناً غير مألوف في الدبلوماسية قوامه تقديم النصائح والتحذيرات . وكنا من مواقعنا الصحفية والأكاديمية نسمع من المسؤولين الأجانب تعليقات ساخرة على هذه النصائح والتحذيرات . بل إن مسؤولين آخرين كانوا يخرجون من لقاءاتهم مع كبار المسؤولين عن صنع القرار في مصر ليفعلوا عكس ما نصحوا به . نصحنا “إسرائيل” وحذرناها فاستمرت في الاستيطان والاعتداء على الشعبين الفلسطيني واللبناني، وتدخلت في العراق وإثيوبيا وبقية إفريقيا وفرضت إرادتها علينا وعلى غيرنا، ومع ذلك لم نمتنع عن استدعائهم أو استقبالهم لتوجيه النصيحة لهم . ونصحنا الزعماء العرب وغيرهم من زعماء العالم بأن يراعوا في سياساتهم وتصريحاتهم طمأنة “إسرائيل” على أمنها وفعلوا . ونصحنا الباكستانيين، وسرنا في قافلة المتعاونين ضد استقرارها الأمني والعسكري حتى صارت مسرحاً لقتال أعنف وأوسع من القتال الدائر في أفغانستان . ونصحنا اللبنانيين بأن ينتبهوا إلى الخطر الإيراني القادم من بعيد، وأضفنا إلى شكوكهم حول الدور السوري فخسرنا أغلبيتهم وخسرنا معهم إيران وسوريا، ونصحنا الفلسطينيين فانقسموا فريقين وساد الفساد في بعض صفوفهم واستسلموا لقوى “إسرائيلية” وأمريكية وأردنية تقرر لهم سياسات التصدي للشعب الفلسطيني وأعمال المقاومة ضد “إسرائيل” . ونصحنا السودانيين فانفرط السودان دولتين واستحكم نظام القمع والعنف في السودان الشمالي وتوحشت أساليب الحرب في السودان الغربي . *** وبفضل تردي السياسة الخارجية المصرية تجاه العالم العربي خلال الأعوام العشرين الماضية، تدهور أداء العمل العربي المشترك وصرنا نسمع مسؤولين عرب كبار يرددون على مسامعنا نصائح القيادة السياسية المصرية التي لم تخرج كثيراً عن توجيهات وإرشادات ينقلها سفراء الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرهم إلى هؤلاء المسؤولين . وبفضل سلوكيات، لا أقول إنها بالضرورة عنصرية ولكن فيها الكثير من التعالي والتكبر، فقدنا إفريقيا . وإذا كانت باقية لنا في بعض دول هذه القارة جوانب من الثقة، فإنها تعود في الأغلب إلى تراث قديم خلفته حكومة الثورة في الستينيات من القرن الماضي، أو تعود، وهو ما أشهد عليه شخصياً، إلى “نشاط فردي” قامت به سفارات مصرية تصرف كبارها بوحي من خبراتهم الإفريقية وليس بناء على تعليمات من القاهرة . سألت أحد الدبلوماسيين المخضرمين قضى معظم سنوات عمره في الدبلوماسية المصرية مستفسراً عن مكانتنا في إفريقيا، أجابني بما معناه أن دبلوماسيتنا الإفريقية شهدت أسوأ عهودها على الإطلاق في عقد التسعينيات ومطلع القرن الحادي والعشرين وبالتحديد بعد حادثة أديس أبابا، وأننا ندفع اليوم نتيجة هذا التردي . ندفعه في شكل مأزق لعله الأخطر في تاريخ مصر الحديث، ويقصد أزمة العلاقات بين مصر ودول حوض النيل وانفضاض الدول الإفريقية الأخرى عن دعم موقف مصر ضد مواقف الدول السمراء في الحوض . *** أدعو، قبل فوات الأوان، إلى إنشاء جهاز أعلى للشؤون الخارجية، يضم مسؤولين في قطاعات الأمن القومي، أي المخابرات العامة والخارجية وهيئة رئاسة الأركان ووزارة الخارجية وأحد الشخصيات العامة من ذوي الخبرة في الشؤون الدولية، لتطهير السياسة الخارجية المصرية من القرارات والممارسات التي جلبت على مصر انهيار المكانة والعزلة الدولية، والعمل بسرعة لإنقاذ سمعة مصر، واتخاذ سياسات تتناسب والتحولات الخطيرة في مصر . أقدم مثالين محددين عن قرارين محتملين، كلاهما يتعلق بدور مصر العربي خلال المرحلة الانتقالية . القرارالأول هو قرار المشاركة في قمة عربية مقرر لها أن تعقد في ظل مرحلة لم يتحدد فيها بعد للدولة رئيس، وفي ظل حالة ثورية إقليمية تهز أركان عدد كبير من حكومات الدول العربية المشاركة في الاجتماع، وهو ما يعني احتمال تغيب معظم المشاركين، وإذا شاركوا فلكي يتخذوا قرارات جماعية ضد “الثورات” الناشبة في بلادهم . بمعنى آخر ينوون اتخاذ قرارات وسياسات تمس مصير ثورة مصر ومساراتها في المستقبل . يجب أن نعي جيداً أن ثورة مصر قادرة على أن تقود الحالة الثورية الإقليمية ويجب أن نعطيها الفرصة . لا أتصور مندوباً لمصر “الثورة” يشترك في مؤتمر عربي أو إفريقي يزمع إصدار قرار يبرئ القذافي من تهمة القتل الجماعي لشعب مسالم، أو قرار يندد بالثورة في اليمن أو الجزائر أو الثورة الرائدة في تونس . أدعو لو دعت الضرورة وذهبت مصر إلى المؤتمر أن يكون ممثل مصر فيه قادراً على أن يستعيد دور مصر في هذه المؤتمرات بأن يتولى قيادة تيار عربي جديد، وأن يعيد وضع مصر على خريطة الإقليم والعالم بجرأة ما تطرحه دبلوماسيتها العاملة في خدمة ثورتها، أي يتصرف بما يتناسب ومبادئ هذه الثورة التي يمثلها وهي حماية الديمقراطية وحرية الرأي، ووقف إرهاب الدولة والإفراج عن المعتقلين السياسيين وتحقيق العدالة الاجتماعية . هو بالتأكيد لا يمثل ولا يجب أن يمثل مصر ما قبل الثورة . أما المثال الثاني أو القرار الآخر المحتمل صدوره قريباً فهو المتعلق بمنصب الأمين العام للجامعة العربية . فقد بدأ مرشحون يطرحون أنفسهم ليحلوا محل عمرو موسى في منصب الأمين العام للجامعة، وأنا شخصياً لا أتصور أن “مصر الثورة” أو على الأقل “مصر المنتقلة” من حال فساد سياسي وقمع وتزييف انتخابات إلى حال ثورة حرية وطهارة، ترشح شخصاً ينتمي إلى الحالة الأولى، فالأمين العام سيمثل وجه المستقبل العربي أمام شعوب وحكومات الإقليم العربي، أو الشرق الأوسط وفي العالم أجمع، ولا أتصور أن القابضين على مفاتيح السلطة الانتقالية في مصر يريدون لمصر مستقبلاً لا يختلف عن ماضيها، وربما أسوأ، وبالتالي لا يريدون أن يقود الجامعة العربية باسم مصر شخص يتجسد فيه أسوأ ما في ماضيها، أي يتجسد فيه غش وقمع وكذب وفساد ونفاق . *** مع مرور كل يوم تزداد توقعاتنا وتكسب الثورة حلماً جديداً . نريد الآن “تثوير” السياسة الخارجية المصرية ورفع مستوى أداء أجهزتها ليليق بأداء ثورة مازال العالم منبهراً بسلوكياتها وأهدافها
.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق