اخر الاخبار

18‏/02‏/2011

أم الدنيا عادت للدنيا..منار الشوربجي

فى السنوات الأخيرة، كانت مصر مجرد «موقع» على الخريطة يشار لمجدها وعظمتها بالفعل الماضى، فهى «المكان» الذى «شهد» أقدم حضارة فى التاريخ، وهى «كانت» قلب الأمة العربية النابض، وظل العالم يسخر من المصريين الذين رغم تقزيم بلادهم وتراجعها لا يزالون يصفونها بأنها «أم الدنيا». فإذا بأم الدنيا تعود للدنيا من جديد، فيكتشف العالم أن الشعب الذى يصنع ثورة بهذه العظمة بإمكانه أن يحقق أى معجزة تروق له. أعادت الثورة للعالم ذاكرته فظل متسمرا أمام الشاشات، ليس فقط ليتابع عزيمة المصريين الجبارة وإنما ليكتشف من جديد أن مصر ليست مجرد «موقع» على الخريطة ولا هى «مكان» يشار لتاريخه وإنما هى «مكانة» وقيمة وأرض طيبة عفية، يغير ما يحدث فيها الموازين العالمية ويقلب ما يدور على أرضها الحسابات الدولية رأسا على عقب. فقد أثبت المصريون أن الحديث عن عبقرية مصر وروحها الحضارية ليس من قبيل كلام الإنشاء واللغو، وإنما هو الحقيقة التى شهدها القاصى والدانى بالصوت والصورة، فالملايين الهادرة التى خرجت تدافع عن حريتها وكرامتها عبرت بعفوية آسرة عن وعى سياسى بالغ الرقى والتحضر. فقدمت للعالم ثورة استثنائية من حيث قدرتها الفذة على عدم اللجوء للعنف فى أى لحظة رغم سقوط الشهداء والجرحى ورغم التعرض للعنف المنظم. فالمصدر الأول بلا منازع لقوة هذه الثورة كان إصرارها على أن تظل سلمية، الأمر الذى منحها تفوقا أخلاقيا على أعدائها فى الداخل والخارج فأعيتهم الحيل، وعجزوا عن الانقضاض عليها. بل أكثر من ذلك، تجلت العبقرية المصرية فى إدراك المصريين البسطاء بذكائهم الفطرى أنهم متى خرجوا للشارع فإنه لا يجوز التراجع وإنما يتحتم استكمال المشوار حتى نهايته مهما كانت التضحيات، فكانت تلك العزيمة الملهمة هى المصدر الثانى لقوة الثورة. وبين هذا وذاك، أثبت المصريون أن الأمم ذات الحضارة لا يمكن تزييف وعيها مهما امتلك الأفاقون من أدوات قمع وتضليل وأموال. والثورة التى حاول المفسدون تشويهها فاتهموها بالخيانة والعمالة للعالم كله، كانت تثبت فى كل لحظة أنها ضاربة بجذورها فى عمق التربة المصرية، وحملت بين جنباتها كل قسمات الشخصية المصرية من العزيمة والصبر للتحدى وروح الفكاهة. أما شباب مصر، فقد عبر بوجوده ذاته عن المعجزة المصرية، فهو جاء إلى الدنيا فى فترة ماتت فيها الحياة السياسية فى بلادى، فإذا به على هذه الدرجة المبهرة من الوعى السياسى والوطنية، وهو نشأ فى مرحلة انهار فيها التعليم فإذا به بكل هذا الرقى والتحضر، وأنا فى الحقيقة أتمنى على الكل أن يكف عن وصف شبابنا بـ«شباب الفيس بوك»، فهم أعظم بكثير من أن يتم اختزالهم فى أداة ضمن أدوات كثيرة استخدموها، وليتذكر الجميع أن هؤلاء الشباب ابتدعوا أدوات أخرى حين انقطعت مصر بفعل فاعل عن الدنيا فى الأيام الأولى للثورة، وقتها لم يكن هناك إنترنت ولا فيس بوك ولا محمول، لكن كان هناك هذا الشباب المبدع الذى لجأ بكل مرونة وفاعلية إلى المتاح وقتها من أدوات، واستمر فى صموده رغم كل الصعوبات. والجيش المصرى جسد هو الآخر عبقرية مصر، فأداؤه الرفيع سحق آمال مجرمى النظام السابق الذين راهنوا على أن ينحاز الجيش ضد شعبه، فهم كانوا على استعداد لحرق مصر كلها وإشعالها حربا أهلية من أجل الحفاظ على مواقعهم وثرواتهم غير المشروعة. لكن جيش مصر العظيم خيب بوطنيته آمال هؤلاء ورفض التخلى عن شرفه العسكرى، ثم راح فى أول بيان أصدره -عند توليه المسؤولية بعد سقوط النظام- يؤدى التحية العسكرية لأرواح شهدائنا الذين لم يتذكرهم رموز النظام السابق على مدى أسبوعين كاملين. كل هذه الملحمة الوطنية الفذة ستظل تلهب مشاعرنا وتلهمنا لسنوات طويلة قادمة، وأزعم أنها سوف تدرّس فى شتى أنحاء العالم بكل ما حملته من تضحيات وإبداع شعب عظيم صبر طويلا، ثم خرج كالمارد دفاعا عن الكرامة والعزة ورافضا الفساد والقهر والطغيان. لكن هذه الملحمة الوطنية الفذة هى مجرد المرحلة الأولى فى طريق طويل وصعب من أجل إعادة بناء مصرنا الحبيبة، وهى مرحلة تتطلب من كل القوى والتيارات السياسية فى مصر أن ترتفع إلى مستوى المسؤولية، فهذا ليس أوان الأيديولوجيا ولا المصالح الشخصية ولا حتى المصالح الخاصة بكل تيار، وكما أن التاريخ لن يرحم من أسهموا فى صنع جبروت النظام السابق ومن قاموا بالتنظير له وساعدوه على طغيانه، فإنه لن يرحم من الرموز والقوى السياسية من سينحاز فى المرحلة الحالية لأى مصلحة أيا كانت على حساب مصلحة مصر العليا، وعلى المصريين جميعا ألا يسمحوا لأحد بأن يقفز فوق أجساد شهدائنا الأبرار ليحقق مجدا شخصيا أو حتى منفعة لتيار سياسى بعينه، فهذه لحظة العمل العابر للأيديولوجيا والتفكير فقط فى مصلحة الأمة المصرية وآمنها. ورغم تخوفى من الانتهازيين والمنافقين فإننى على يقين من أن الشعب الذى صنع هذه الثورة العظيمة قادر على ردع كل من تسول له نفسه أن يسرق منه مجده ومستقبله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق