اخر الاخبار

13‏/02‏/2011

أزمة الحكم والنخب الجديدة..رضوان السيد..الاتحاد الإماراتية

كتب الدكتور نزيه الأيوبي، الأستاذ المصري الراحل، في مؤلَّفه الضخم، "تضخُّم الدولة العربية" (1995): "إنّ السكونَ الظاهر على السطح يُخفي إمكانيةً خطِرة لحالةٍ من الثوران، بسبب عجز الدولة عن القيام بواجباتها، وبسبب عدم توافُر قنوات بديلة للتعبير لدى مختلف القوى الاجتماعية والسياسية". والقنواتُ البديلةُ، في هذا التوصيف الدقيق، تتمثل في الأحزاب السياسية، والانتخابات الحرة المنتظمة، وحرية الإعلام، والمؤسسات القوية للمجتمع المدني. إنّه كلام قيل وكُتب في أواسط التسعينيات، ولحظ فيه الكاتب حالات مصر وسوريا وليبيا. لكن وصف المؤلّف يصدق في الكثير من التفاصيل، ويُخطئ في بعض النتائج حتّى بالنظر إلى ما كانت عليه الأمور في أواسط التسعينيات من القرن الماضي. صحيحٌ أنه كانت هناك حركات إسلامية مقاتلة تمثلّت في "القاعدة" المتأسِّسة في أفغانستان مطلع التسعينيات؛ لكنها كانت وظلّت حركاتٍ جهاديةً على المستوى العالمي؛ ولذا فإنها ما كانت أداةً تغييريةً في الداخل العربي، بل أدّت إلى إضفاء مظاهر من القوة والشرعية على بعض الأنظمة القائمة، بالنظر للعنف الذي كانت تمارسُهُ وما تزال، وبسبب دعم الدول الكبرى للأنظمة في مواجهة "الإرهاب". بيد أنّ ذلك لا ينفي أنّ المعارضة الرئيسية للأنظمة تمثّلت في "الإخوان المسلمون" ومتفرعاتهم، والتي كانت تعمل سلمياً ومن داخل النظام إذا صحَّ التعبير
.
وما كان بوسع الأيوبي وقتَها التنبُّؤ بالغزوات الأميركية في عهدي بوش الابن(2000-2008). والتي أطالت في عمر الأنظمة أيضاً، لأنّ الديمقراطية التي أراد الأميركيون فَرْضها بالغزو، دفعت من جهةٍ الحركات الإسلامية المقاتلة لمواجهتها في أفغانستان والعراق وباكستان وأماكن أُخرى، لكنها دفعت من جهةٍ أُخرى قوى عديدة للتردد بسبب هموم الاستقرار، وعدم ممُاشاة الولايات المتحدة فيما تحاول القيام به حرباً أو سِلْماً. فالذي فاتَ الأيوبي في تحليله التنبُّه إلى تأثير العوامل الخارجية في التغيير أو عدمه.
على أنّ التأثير الخارجي في التغيير، لا يقتصر على ذلك العامل؛ بل هناك أمرٌ آخَر أشار إليه كثيرون بعد الأيوبي، وهو عالمُ الأعمال المعولَم، والذي تطور في العالمين العربي والإسلامي في التسعينيات أيضاً. الأيوبي يقتصر على ذكر رجال أعمال ناجحين أو كبار بدأت آثار ثرواتهم تبدو في الحِراك الداخلي. بيد أنّ رجال الأعمال المعولمين هؤلاء، إنما نشأوا في الأصل على هامش الأنظمة القائمة، وتبادلوا معها الخدمات والامتيازات. وبذلك ما كانوا قوةً تغييريةً حقاً، وإن اعتقد الأيوبي أنهم كذلك. وهكذا فالسوق العالمية التي خاض هؤلاء في غمارها فيما بعد أفادت من الامتيازات الحصرية التي أخذتْها من الأنظمة، كما أنّ الأنظمة اكتسبت شيئاً من الاستقرار عن طريق ريعيات أولئك المشاركين في العولمة الاقتصادية، هذا فضلاً عن التواصل الذي أَوجده هؤلاء بين قوى رأس المال العالمي وأجهزة السيطرة في الأنظمة القائمة. ولهذين السببين، ما كانت الرأسمالية العربية، المعولمة فيما بعد، قوةً تغييريةً؛ لا في النشأة ولا في التطور.
ويريد "ولي نصر" في كتابه الصادر مؤخراً عن "صعود قوى الثروة والطبقة الوسطى"، اعتبار حركة السوق، والتعليم، بين أسباب نشوء طبقة وسطى جديدة سوف تنشر وعياً ديمقراطياً سلمياً، ومن ضمن هؤلاء رجال الأعمال الإسلاميون. ويعتقد "نصر" أنّ الطبقة الوسطى الناشئة هي التي سوف تتجاوزُ الإسلاميين إلى حدٍ ما، باعتبار أنّ البورجوازية الناشئة متدينة لكنها ليست متطرفة. وفي هذا التوصيف شيء من الصحة، لكنّ أحداً ما تحدّث عن القوة الشابة الجديدة، والتي ظهرت في الثوران بتونس ومصر. في تونس بدأت الحركةُ ضد النظام في الريف، وبدت مطالبُها اقتصادية ومعيشية. لكنها لما وصلت إلى المدن، صار جمهورها من شبان الإنترنت المتعلمين، والمهمَّشين من جانب الدولة، وفي حركة الأعمال، وفي الحياة السياسية والاقتصادية. أمّا في مصر؛ فإنّ هؤلاء الشباب هم الذين قادوا التحرك منذ البداية. وهؤلاء ليسوا إسلاميين، وليسوا عنيفين، كما أنّ مطالبهم ليست اقتصادية، وإن تكن الحالة المعيشيةُ ، وفُرَص العمل تحتلُّ جانباً من اهتماماتهم. هل هؤلاء جزءٌ من الطبقة الوسطى، إن لم يكن من حيث الثروة؛ فمن حيث الوعي؟ يختلف الأمر باختلاف التعريف الذي نُعطيه للطبقة الوسطى. إنما لو اعتبرناهم كذلك؛ فإنّ هذا الوعي لا يظهر لدى البورجوازية الصينية الجديدة، ولا لدى مثيلتها الهندية. فالشبان المصريون يملكون مطالب سياسية واضحة: التداوُل على السلطة، واحترام الحريات الأساسية، وإيجاد حياة برلمانية سليمة، وحكم القانون. وهكذا فالقيم التي يعتنقونها هي قيمٌ غربيةٌ، وهم ليسوا مُعادين للولايات المتحدة وأوروبا؛ بل يريدون إيجاد أنظمة تُشبه ما هو موجودٌ في الغرب. وبذلك فالإسلاميون الذين لم يتراجعوا أمام الحملات الصاخبة للبوليس طوال أربعين عاماً، تراجعوا بالفعل أمام الحركة الزاخرة والجديدة للشباب أياً يكن التصنيف الطبقي الذي نُعطيه لهم.
إنّ هذه القوى الجديدة والزاخرة للشباب ما تنبأ بها أحدٌ بهذه الصيغة. فقد ظهروا كأنما أتوا من عالَم الإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة. وهم غير منظمين حزبياً، ولا منتظمين طبقياً. وليس لهم قادةٌ معروفون، وهم يمتلكون عزيمةً وإصراراً نادرَين. ويستطيعون العملَ معاً، في ميدان التحرير، بعد أن كان الأمر مقصوراً على التواصل بالإنترنت. إنما إذا كانت القوة الشابة هي الجديد الرئيسي في حركة "النهضة المصرية"، كما سمَّى أبو الحسن الندوي ثورة يوليو 1952؛ فالجديد أيضاً هو دور الجيش. فهو في تونس، كما في مصر، يحمي أَمْنَ المتظاهرين، وبالتالي يمكّن من استمرار الثورات. لقد اعتدنا من العسكريين أنهم يفرضون سيطرتهم بالانقلاب، ثم يخوّفون القريب والبعيد بالإسلاميين لكي يتركهم الخارج في السلطة، ويسارعون إلى استخدام العنف البوليسي. فالجيش ما شارك في قمع حركات تونس ومصر، بل وقف مع تطلعات المتظاهرين، أي أنه ما عارض ثورانهم. لماذا كان الأمر كذلك، أو لماذا تغير موقفه، فسار مع الجمهور، ولم يَسِرْ مع الطبقة الحاكمة، باعتباره جزءًا منها؟ هذا الأمر غامضٌ بعض الشيء، إنما هناك احتمال مَنْع التوريث، لكي يبقى الجيش في رأس السلطة. وهناك طبعاً احتمال التنسيق مع الأميركيين بحيث يبقى الجيش عماد النظام والأمن، وتحدث عملية التحول الديمقراطي المدني من جانب الشباب.
وعلى أي حال: هناك القوة الشابة الجديدة، وهي في مصر بالملايين. وقد تكون هي النخبة الجديدة التي تملك ثقافةً جديدة. وهناك الجيش الذي يقول بالتغيير، ويريده أن يمضي سِلْماً. وهناك أخيراً عوامل التغيير الآتية من الخارج وليس السياسي فقط؛ بل والاجتماعي والقيمي والاتصالي. وقد وقع التغيير، لكنّ آليات إقامة السلطة الجديدة ما تزال غامضةً أو غائبة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق