اخر الاخبار

06‏/01‏/2012

لم يبق إلا محاكمة الشعب! بقلم د. حسن نافعة


كان المستشار مصطفى سليمان، المحامى العام الأول لنيابات استئناف القاهرة، ممثل النيابة فى محاكمة الرئيس المخلوع، واضحاً وصريحاً وشجاعاً إلى أقصى حد، حين تعرض للحديث أمام المحكمة عن مدى التعاون الذى قدمته أجهزة الدولة لاستجلاء وجه الحقيقة فى هذه القضية، حيث قال بالنص: «لقد قصرت أجهزة الدولة فى مد النيابة بالمعلومات والتحريات اللازمة، وأنه وزملاءه قاموا بجمع الأدلة إلى جانب تحقيق القضية».
وحين سألته المحكمة: «هل تقدمت النيابة العامة بطلبات للجهات المسؤولة فى الدولة لتقديم تحريات واستدلالات وقرائن تعين النيابة على القيام بدورها؟»، أجاب الرجل: «طلبنا من وزارة الداخلية (فى عهد وزيرها الذى خلف حبيب العادلى) ومن هيئة الأمن القومى، بموجب خطاب مرفق فى الدعوى، تقديم ما توافر لديهما من معلومات وتحريات إلى النيابة العامة، وبعد قرابة أسبوع وصلت إلينا خطابات تشير إلى عدم توافر المعلومات أو التحريات التى طلبناها».
فسألته المحكمة: «نفهم من ذلك أن جميع أجهزة الدولة امتنعت عن تقديم مساعدات، فهل امتنعت عمداً وتقصيراً، أم لم تكن لديها معلومات أصلا؟». لم يتردد الرجل الذى يمثل النيابة العامة فى تحكيم ضميره الشخصى قبل ضميره المهنى، ورد قائلا: «رأيى الشخصى أنه كان هناك تقصير، أما رأيى القانونى فهو أنه لابد من إجراء تحقيق»، ثم استدرك قائلا: «يكفى النيابة العامة أن يكون لديها عدد كاف من الأدلة لإحالة المتهمين للمحاكمة، وقد لا يتجاوز هذا الحد ٥٠% من الأدلة اللازمة»، قبل أن يضيف: «كان لدى النيابة العامة، حين أحالت المتهمين للمحاكمة، عدد من الأدلة والقرائن والاستنتاجات المنطقية، وحرصا منها على تعقبهم قبل الهروب، وقبل اتخاذ مزيد من الإجراءات لطمس الأدلة، قررت إحالتهم للمحكمة».

لا أبالغ إن قلت إن هذه الشهادة الرصينة والأمينة من أحد كبار المسؤولين فى النيابة العامة تشكل بذاتها دليلا دامغا على أن النظام القديم لم يسقط بعد، ويبدو وكأنه يحاكم نفسه بنفسه، وهنا تتجلى قمة المأساة والملهاة معا، وتفصح عن أن أجهزته لاتزال قوية ومتحكمة فى كل مناحى الحياة فى مصر، وهى وحدها التى تملك أدلة قاطعة على جرائمه التى ترفض مد المحكمة بها. لذا لم يكن هناك مفر من اعتراف النيابة العامة بالحقيقة المرة التالية: «لم تتوصل النيابة العامة إلى دليل مباشر يحدد الفاعلين الأصليين فى القضية» وبأن المتهمين الماثلين أمام المحكمة «لم يكن لهم دور فى مسرح الجريمة».

ولأنها لا تملك وسيلة لإجبار أجهزة النظام القديم - الجديد على تقديم ما فى حوزتها من أدلة، إما لأنها طمست عمداً، أو لأن الشهود الرئيسيين (شركاء النظام القديم فى الجريمة) لا يريدون قول حقيقة لا يملك أحد وسيلة لإجبارهم على النطق بها، فلن يكون بمقدور المحكمة، مهما بلغت من نزاهة وحرص على استجلاء الحقيقة، أن تصدر أحكاما تشفى غليل شعب أهدر النظام القديم كرامته.

فى سياق كهذا تبدو المفارقة بين البعدين السياسى والقانونى لمحاكمة مبارك ونظامه شديدة الوضوح. فقد صدر بالفعل حكم سياسى بإعدام مبارك ونظامه، حين ثار الشعب عليهما وأسقطهما، أما الحكم القانونى فمازلنا بانتظاره، ويبدو أنه لن يصدر أبدا، لأن الثوار الحقيقيين لم يتسلموا السلطة بعد. ولو كان ذلك قد حدث لحوكم مبارك ونظامه على جرائمهما السياسية التى ارتكباها فى حق الشعب المصرى طوال ثلاثين عاما، ولتم العثور على صيغة ملائمة لتحقيق هذا الهدف المشروع والنبيل دون اللجوء إلى أى إجراءات استثنائية. أما أن يحاكم رأس النظام بتهمة ارتكابه جرائم جنائية لا يملك الدليل على ضلوعه فيها سوى حفنة لا تزال تمسك بمقاليد السلطة ولا مصلحة لها فى تقديم أدلة تدينهم هم قبل أن تدين المتهم نفسه، فتلك مهزلة كبرى.

فى إحدى فقرات برنامج ٩٠ دقيقة، مساء الأربعاء الماضى، وجه الإعلامى اللامع عمرو الليثى السؤال التالى إلى الدكتور نور فرحات: هل يمكن لرئيس الجمهورية السابق أن يرشح نفسه فى انتخابات الرئاسة القادمة؟. بعد لحظة تردد من هول المفاجأة التى فجرها السؤال الافتراضى، أجاب الدكتور «نور»: نعم يجوز إذا حصل الرئيس السابق على البراءة!. فاستدار عمرو الليثى نحوى موجها السؤال التالى: ما التأثيرات السياسية لمثل هذا الاحتمال؟ قلت: أخشى أن تكون الخطوة التالية هى طلب تقديم ٨٥ مليون مصرى إلى المحاكمة بتهمة الثورة وإلحاق الأذى، ظلما، بحاكم برىء!، فانفجر الجميع ضاحكين.

أليس شر البلية ما يضحك؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق