اخر الاخبار

13‏/01‏/2012

فى ذكرى تعذيب مواطن حتى الموت بقلم د. حسن نافعة

المقال الثالث حول جريمة تعذيب سيد بلال حتى الموت كان بعنوان: «المجتمع المدنى وحقوق الإنسان»، ونشر فى هذا المكان يوم ١٤ يناير عام ٢٠١١، وجاء نصه كالتالى:

«يعد الدفاع عن (حقوق الإنسان) من أنبل وأشرف القضايا التى تستحق التضحية من أجلها فعلا. ورغم أن الجدل مازال محتدما حول بعض جوانب هذه القضية، فإن هناك جملة من الحقوق التى استقرت فى الضمير الإنسانى وأصبحت موضع إجماع لا يحتمل الجدل أو الخلاف، فى مقدمتها الحقوق المتعلقة بحرمة النفس البشرية، ومن هنا تحريم ممارسة التعذيب تحت أى ظرف، ولأى سبب. ولأن المواطن المصرى (سيد بلال) تعرض للتعذيب حتى الموت بعد اعتقاله من جانب أجهزة الأمن، فقد كان يفترض أن يثير هذا الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان غضبا عارما فى الشارع المصرى، وهو ما لم يحدث.. فكيف نفسر هذا الصمت المخجل والمريب؟
يرى البعض أن سبب هذا الصمت يعود، من ناحية، إلى أجواء غير طبيعية سادت البلاد عقب جريمة الاعتداء على الكنيسة، وإلى ارتباط قضية التعذيب التى تعرض لها المواطن سيد بلال، من ناحية أخرى، بالتحقيقات المتعلقة بالبحث عن المتورطين فى الجريمة الأصلية. غير أن هذه الحجة لا تصلح، فى تقديرى، مبررا لتفسير صمت المجتمع المدنى وتراخيه فى إدانة جريمة التعذيب بالطريقة نفسها التى أدان بها الجريمة الإرهابية. أما البعض الآخر فيرى أن ارتباط الضحية بأحد تيارات الإسلام السياسى، وهو التيار السلفى، ألقى فى الوعى الجمعى بشكوك قوية حول احتمال أن يكون المتهم متورطاً بالفعل فى جريمة الكنيسة، ومن ثم فقد يُفسر أى تحرك للتعبير عن الغضب لما جرى له وكأنه محاولة (للتشويش) على الجريمة الأصلية.

غير أن هذه الحجة تعد عذرا أقبح من الذنب نفسه لأنه يتعين، من ناحية، أن يُنظر إلى المتهم باعتباره بريئا إلى أن تثبت إدانته، ولأن ممارسة التعذيب تعد، من ناحية أخرى، جريمة تستوجب الإدانة فى جميع الأحوال، حتى ولو كان القصد منها هو التوصل إلى معلومات تفيد التحقيق فى الجريمة الأصلية، أو توافرت شبهات أو دلائل قوية تشير إلى احتمال تورط الضحية فى ارتكابها.. لذا بدا الصمت كاشفا لحالة مجتمعية تتسم بالارتباك وخلط الأوراق بأكثر مما بدا قابلا للتبرير تحت أى ظرف.

بوسع المراقب لسلوك القوى والتيارات السياسية المختلفة فى مصر أن يكتشف بسهولة أن أياً منها لا يتحرك عادة للرد، بشكل جاد، على ما يحدث من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان إلا حين يكون مستهدفا أو ضحية، أو حين يتعلق الانتهاك بمسألة تمس المنظومة الفكرية أو السياسية التى ينتمى إليها. أما حين يكون الضحية هو (الآخر) المختلف سياسيا وفكريا، أو حين يتعلق الانتهاك بمسألة لا تمس منظومته القيمية أو الأخلاقية، يصبح التجاهل سيد الموقف، وقد يُكتفى فى أحسن الأحوال ببيان شجب أو إدانة. وتعكس هذه الحالة - وهى حالة مرضية مزمنة - عمق أزمة عدم الثقة القائمة بين مختلف أطراف القوى السياسية فى مصر.. لم يستطع أحد أن يعثر لها على علاج شافٍ حتى الآن، وتعد أحد أهم أسباب استمرار تشرذم النخبة وانفراط عقدها.

تشكل انتهاكات حقوق الإنسان، خصوصا حين تكون بجسامة الاعتقال التعسفى والتعذيب وخلافه، خطرا يهدد المجتمع كله، ومن ثم يفترض أن تشكل حافزا يدفع جميع مؤسسات المجتمع المدنى لتوحيد صفوفها.

ولو كانت قوى المعارضة السياسية والفكرية فى مصر، على اختلاف توجهاتها، قد سعت فى الماضى لبلورة آليات مشتركة للدفاع عن (حقوق الإنسان) ضد كل انتهاك يرتكب لكانت قد تمكنت من إرساء تقاليد راسخة تسمح بالتأسيس لتيار حقوقى عابر للخلافات السياسية، وقادر على مد جذوره فى التربة المصرية وتشكيل حائط صد قوى ورادع لانتهاكات حقوق الإنسان بمختلف أشكالها. وفى غياب هذه التقاليد بدت قضية سيد بلال كأنها قضية تخص السلفيين وحدهم، لذا لم يتحرك أحد للتعبير عن غضبه، باستثناء أصوات فردية قالت كلمتها ومضت كأنها تؤدى واجب عزاء ثقيلاً!

لو كانت مؤسسات المجتمع المدنى فى مصر قد نجحت فى بلورة آليات مشتركة عابرة للأيديولوجيات وللقوى السياسية، للدفاع عن حقوق الإنسان من خلال الالتحام بالشارع وتعبئته، لكانت مصر كلها قد شهدت اليوم مظاهرات عارمة تندد بجريمة تعذيب سيد بلال حتى الموت، ولشاركت فيها كل التيارات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وإلى أن يحدث ذلك فسيظل مسلسل التعذيب مستمرا.

فالتعذيب حتى الموت ارتكب هذه المرة ضد مسلم (سلفى)، وغداً سيُرتكب ضد (ماركسى) أو (قومى) أو (ليبرالى)، ولن يهم إن كان مسلما أم قبطيا.

 فمتى نتعلم أن ندافع معا عن حقوق الإنسان، وأن نعتبر أى انتهاك لحق أى إنسان، بصرف النظر عن عقيدته السياسية أو الدينية، انتهاكاً لحقوق البشر جميعا؟ وإلى أن نتعلم هذه الحقيقة الإنسانية النبيلة سيظل مجتمعنا فى حالة أزمة عميقة».

أحمد الله أن منحنا ما يكفى من الشجاعة لنقول هذا الكلام فى عز جبروت النظام القديم، وليس بعد سقوطه كما فعل كثيرون. لذا أتمنى على تيار «الإسلام السياسى» الذى يستعد هذه الأيام لتشكيل الحكومة وإدارة شؤون البلاد، أن يتذكر المعانى الواردة فى هذا المقال وأن يتدبرها بعمق، ولنعمل معا على ترسيخ حقوق الإنسان، أيا كانت عقيدته الدينية أو السياسية، وليس فقط حقوق أعضاء التيار الذى ينتمى إليه الحزب الحاكم. فالاستبداد هو الاستبداد، والظلم هو الظلم، أيا كانت نوعية العباءة التى يتخفى تحتها

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق