اخر الاخبار

16‏/01‏/2012

الدكتور البرادعى ونظرية الثورة المستمرة بقلم ضياء رشوان

يثير قرار الدكتور محمد البرادعى بالانسحاب من الترشح على منصب رئيس الجمهورية، وما جاء فى بيانه المبرر لهذا القرار، تساؤلات وملاحظات كثيرة تتعلق ليس فقط بمواقف الدكتور البرادعى، بل بمسار الثورة المصرية كلها، خصوصاً بقطاعات مهمة من النخبة الشابة التى ساهمت فى قيامها ونجاحها منذ بدايتها.

ففيما يخص الدكتور البرادعى، فإن توقيت انسحابه وما جاء ببيانه يشيران إلى أنه يرى أن الثورة المصرية لم تنجح فى عامها الأول وباتت فى حاجة إلى ثورة جديدة، وهو الأمر الذى يبدو واضحا من توقيت الانسحاب السابق بعشرة أيام فقط على الذكرى الأولى لاندلاع الثورة وما يترافق معها من دعوات لبعض ائتلافات الشباب لجعلها انطلاقة لهذه الثورة الجديدة، التى يتمثل هدفها الوحيد فى شعارهم الأبرز ونقطة ارتكاز بيان الدكتور البرادعى وهو «إسقاط حكم العسكر».

فأما عن فشل الثورة والحاجة لثورة جديدة، فإنه يظهر كاستخلاص مبكر ومتعجل من الدكتور البرادعى وقطاعات من شباب الائتلافات منذ الشهرين الأولين للثورة، مستندين فيه إلى تصور خاص بهم للنجاح والفشل يقوم على فكرتين رئيسيتين: الأولى أن مجرد وجود الجيش فى أى صيغة انتقالية أثناء الثورة هو بذاته أمر منافٍ، بل معادٍ للديمقراطية وللثورة وعودة للحكم العسكرى المستبد، والثانية أن جوهر الثورة هو الحركة الجماهيرية التى تتواجد دوماً فى الشارع وبصورة خاصة ومحددة فى ميدان التحرير، للدفاع عن الثورة ودفعها للأمام. انطلاقاً من هذا التصور وفكرتيه الرئيسيتين سار الدكتور البرادعى ومن يتبنونه فى مسار واضح منذ البداية، ومضمونه أن مجرد بقاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى موقع إدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية، بالإضافة للأخطاء الكبرى التى ارتكبها أثناء هذه الإدارة، كافيان لاعتبار أن تناقض الثورة الرئيسى معه، وأنه حل محل نظام مبارك بصورة معدلة، وأن البلاد بحاجة لثورة جديدة «لإسقاط حكم العسكر».

كان لافتاً خلال الشهور السابقة، مع هيمنة هذه الفكرة وهذا الشعار على تحركات الدكتور البرادعى وقطاعات من ائتلافات الثورة - أنه شخصياً لم يقم بأى محاولة للمشاركة فى التجربة الحزبية الجديدة بعد الثورة، وفضل أن يبقى رمزاً فردياً لا أن يتحول لقائد لإحدى المؤسسات الحزبية التى تعتبرها النظريات السياسية كافة أساس النظم الديمقراطية الحديثة. ولم يكن حال قطاعات الائتلافات المتمسكة بالتصور نفسه مخالفاً لما سار عليه الدكتور البرادعى، فقد ابتعد أغلبيتهم عن المشاركة فى العمل الحزبى، مفضلين الاحتفاظ بائتلافاتهم ذات الطابع النخبوى، التى نشأت بعد الثورة أو قبلها بقليل. إن مجرد هذا العزوف عن المشاركة السياسية المنظمة فى عملية ديمقراطية جوهرها تأسيس الأحزاب، ثم إجراء الانتخابات البرلمانية، وهما طريقان معتمدان لأى ديمقراطية ذات طابع مؤسسى - يبدو متناقضاً بشدة مع الخطاب المعلن للدكتور البرادعى وحلفائه من بعض ائتلافات الثورة، الذى يدعو دوماً لتأسيس نظام سياسى ديمقراطى بعد الثورة.

لقد بدت الديمقراطية فى خطاب وسلوك الدكتور البرادعى وقطاعات من الائتلافات القريبة منه وكأنها مجرد ممارسة مجموعات من النخبة لحق النقض أو «الفيتو» على ما تعتقد أنه خطأ أو انحراف فى سلوك المجلس العسكرى، دون السعى الحقيقى للتواصل مع عموم الناس وتنظيم صفوفهم فى مؤسسات حزبية ونقابية وترويج القيم الديمقراطية بينهم ودفعهم للمشاركة فى بناء مؤسسات الدولة الجديدة، وفى مقدمتها المجالس النيابية والمحلية.

وقد زاد من تعقيد الموقف بالنسبة للدكتور البرادعى والقريبين منه أنه بالرغم من الأخطاء المؤثرة للمجلس العسكرى، فقد نجح فى إجراء أول انتخابات حرة لمجلس الشعب بعد الثورة، وأن قطاعات مؤثرة من القوى السياسية فى البلاد سارعت بتنظيم نفسها فى أحزاب وتكتلات سياسية وشاركت فى هذه الانتخابات وحفزت نحو ٦٠% من المصريين على المشاركة فيها وقاربت على الانتهاء من تشكيل أول مؤسسة برلمانية ديمقراطية فى النظام السياسى الجديد للثورة. وبدا لافتاً ومفارقاً أن الكتلة الرئيسية من هذه القوى السياسية هى من التيار الإسلامى، الذى صنف دوماً باعتباره معادياً للنظام الديمقراطى، أو على الأقل غير محب له، وفى الوقت نفسه احتفظ الدكتور البرادعى والقريبون منه بمكانهم المستمر على هامش التجربة الجديدة على الرغم من تصنيفهم دوماً على أنهم ديمقراطيون أو ليبراليون.

ويظهر موقف الدكتور البرادعى وبيانه وبعض دعوات القيام بثورة جديدة فى ذكرى ثورة يناير، مفارقة أخرى خطيرة فى رؤية وحركة من يفترض أنهم الأقرب للمدرسة الديمقراطية. ففكرة الطليعة الواعية بمفهومها الليبرالى أو اليسارى لاتزال مسيطرة عليهم فى مواجهة جماهير عريضة تبدو بالنسبة لهم غير واعية أو قادرة على الدفاع عن مصالحها، فلم يلفت نظرهم أن نحو ثلثى المصريين قد شاركوا بحماس فى انتخابات مجلس الشعب، وأن غالبيتهم وفقاً لانطباعات شخصية أو استطلاعات رأى علمية، ترغب فى استكمال مسار المرحلة الانتقالية، كما تم التوافق حوله لبناء النظام السياسى الجديد للثورة وتسليم البلاد لسلطة مدنية منتخبة.

اعتقد الدكتور البرادعى والقريبون منه أن عملية خداع وإرهاق منظمة واسعة قد جرت للمصريين بفعل مؤامرات ممن يديرون البلاد لدفعهم إلى المشاركة فى العملية الديمقراطية الجديدة، التى هى من وجهة نظرهم معادية لمصالح هؤلاء المصريين، فزاد هذا من يقينهم بأن دورهم الطليعى لابد أن يكتمل بتثويرهم ودفعهم للقيام بثورة جديدة فى ذكرى ثورتهم الأصلية. من هنا فإن توقيت انسحاب ومضمون بيان الدكتور البرادعى يأتيان منسجمان تماماً مع هذا التصور لطليعة غابت عنها جماهيرها وهى تسعى اليوم لاستعادتهم بكل السبل الممكنة، حتى لا ينحرفوا بعيداً عنها فى طريق آخر.

إن الجوهر الأساسى لخطأ هذا التصور الذى يزيد يوماً بعد آخر من عزلة أصحابه هو افتراضه أن الشعوب بطبيعتها ثورية أو راغبة دوماً فى التحرك الثورى من أجل تحقيق مصالحها وأهدافها والدفاع عنها. فالحقيقة أنه لا توجد شعوب فى حالة ثورة دائمة إلا فى حالات استثنائية، أبرزها الاحتلال الأجنبى، أما الشعوب عموماً فهى ترغب فى العيش المستقر الكريم الحر وتنتفض أو تثور عندما تضيق بها الأحوال، لكى تغير واقعها ثم تعود مرة أخرى إلى طبيعتها الباحثة عن الاستقرار. وليس هذا الخطأ بجديد فى تاريخ الشعوب أو الثورات فى العالم، فقد صاحب كل ثورة وجود جناح أو تيار يرى أن الثورة بحاجة للاستمرار عبر التحركات الشعبية فى الشوارع وأماكن العمل والتجمع، وأن نجاحها مرتهن بطول المدى الزمنى واتساع المدى الجغرافى لثورة الشعوب المستمرة.

وفى كل هذه الثورات راح هذا التصور وأصحابه يتناقصون فى العدد والتأثير وتتزايد فى الوقت نفسه حدة وجذرية أفكارهم الثورية، بينما راحت القوى السياسية والحزبية المنخرطة فى عملية بناء مؤسسات الدولة الجديدة يتسع نفوذها وتأثيرها فى مجتمعاتها عبر الآليات الديمقراطية المؤسسية، لكى تتحول الثورة فى النهاية إلى دولة ظل دوماً على هامشها قطاعات من النخب الطليعية المؤمنة بالثورة الدائمة المستمرة، والساعية إلى تثوير الجماهير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق