اخر الاخبار

13‏/01‏/2012

فى الذكرى السنوية لثورة يناير بقلم جلال امين

من كان يتوقع أن يكون حالنا بعد عام من قيام ثورة 25 يناير كما هو اليوم؟
 فى 25 يناير بدا أن كل شىء جميل أصبح ممكنا. وعندما سقط رئيس النظام الفاسد فى 11 فبراير، ارتفعت آمالنا حتى لامست السماء. ثم بدأ التدهور شيئا فشيئا، خطوة بخطوة، وفى كل مرة نبحث عن عذر لتبرير هذا التدهور. قالوا لنا إن «رصيدنا يسمح»، فقلنا، نعم رصيدهم يسمح. ثم أتوا برئيس للوزراء كان وزيرا فى الحكومة التى أسقطتها الثورة، فقلنا: إنه على الأقل، لم يعرف اشتراكه فى الفساد، وأنه اشتهر بالحزم والكفاءة. ولكنه خيب الآمال إذ احتفظ بوزراء كثيرين من العهد السابق، وادعى أنه لا يعرف شيئا عن مدبرى واقعة الجمل، وصدرت عنه تعبيرات تنطوى على استخفاف بشباب الثورة.
طالب الناس بسقوطه فأتى وجه جديد على الحياة السياسية، أثار اختياره الاستغراب، إذ كانت هناك عشرات الأسماء الأخرى الأقرب إلى مشاعر ثوار 25 يناير. قيل إنه كان موجودا بين الثوار منذ 25 يناير، وظهرت صورته وقد حمله بعض الثوار على الأعناق أمام مجمع التحرير. قلنا إنه يبدو رجلا طيبا وقد يحقق من الآمال ما عجز عنه سلفه، وصرفنا النظر عن أى كلام يتعلق بأنه كان عضوا فى لجنة السياسات التى كان يرأسها نجل الرئيس المخلوع والطامع فى الحلول محله.

رأينا وجوها مدهشة تحتل مراكز الوزراء، وفى وزارات مهمة كالخارجية والمالية. مدهشة لأنها كانت تشغل نفس المناصب أو مناصب مهمة فى ظل العهد البائد. قلنا لعله خطأ عابر سرعان ما يجرى تصحيحه. ولكن التصحيح اتخذ وقتا طويلا، ولم يكن كاملا. بل وعندما حصل تصحيح كامل فى بعض الحالات (كما فى إحلال نبيل العربى محل أحمد أبوالغيط) سرعان ما طلب من نبيل العربى الذهاب إلى منصب آخر، وكأنه استكثر علينا رجل مثله كوزير للخارجية.



ومع ذلك ظللنا نعلل أنفسنا بالآمال، ونبحث عن أعذار جديدة. لعل السبب قو قلة الخبرة؟ أو حداثة العهد بالسياسة؟ ولكن فى ثورة 1952 جاء للحكم ضباط أصغر سنا بكثير، ولا عهد لهم بالسياسة من قبل، فاتخذوا قرارات رائعة فى مدة لا تزيد على أسابيع قليلة. فما هو التفسير بالضبط؟



ظل الناس يبحثون عن أعذار جديدة، لمجرد تشبثهم بالأمل وخوفهم الشديد على الثورة من الضياع. وعندما تشتد الرغبة ويزداد الخوف من العجز عن تحقيقها، تختلق النفس الأعذار والأسباب مهما كانت وهمية.



جاء الاستفتاء ففرح الناس، وامتلأت اللجان برجال ونساء لم يعبروا عتبة أى لجنة للاستثناء أو الانتخاب طوال حياتهم، فقوبلوا بمن يقول لهم إن قول لا فى الاستفتاء معناه الكفر، وظهر على شاشة التليفزيون الخاضع لرقابة الحكومة، من يقول مثل هذا. فقلنا لعل الأمر لا يزيد على مجرد ضعف أصاب الرقابة، وتعثر مؤقت فى قوى الأمن، وسرعان ما يستعاد الأمن ويعود الانضباط.



ولكن الأمن لم يستعد والانضباط لم يعد. بل حدث ما هو أفظع من ذلك، إذ حدثت حوادث فظيعة من الاعتداء على كنائس الأقباط وإحراق بعضها، وعلى الأقباط أنفسهم، تحت سمع السلطات وبصرها. فبدأت تشتد المخاوف، وقويت الشكوك. ومع ذلك استمر كثيرون فى القول بأن المسألة هى فقط قلة خبرة وحداثة عهد بالسياسة.



تصاعدت الآمال فى البداية فى أن تسترد مصر ما نهب من أموالها من أسرة الرجل المخلوع وبطانته. بل بلغت الآمال حدا من الطموح تصور البعض معه أنهم سينالون بعض الخير بمجرد استرداد هذه الأموال، إذ يجرى توزيعها على المصريين وينال الفقراء ما يحلون به أزمتهم الاقتصادية. ثم توقف الحديث فجأة عن الأموال المنهوبة، ولم نعد نقرأ فى الصحف أى تقديرات لهذه الأموال أو عن إجراء لاستعادتها، بل قرأنا تصريحات من جانب بعض الحكومات الأوروبية التى يظن أن الأموال قد هربت إليها، تنفى فيها أنها تلقت أى طلب من جانب السلطات المصرية بتجميد هذه الأموال أو التحفظ عليها.



قلنا ربما يأتى الفرج بعد محاكمة الرئيس ورجاله، فإذا بنا نشاهد على شاشة التليفزيون وصحفات الجرائد، صورا لمحاكمة هزلية تليق بفيلم كوميدى أكثر مما تليق بثورة شعبية. فالرجل المخلوع يأتى نائما على سرير ولكنه فى كامل هندامه بما فى ذلك نظارة شمسية. ونجلاه المتهمان يدخلان إلى قاعة المحكمة فى حلة بيضاء أنيقة، وكأنهما مقبلان على لعب مباراة فى التنس لا على محاكمة جنائية، وأحدهما يحمل كرسيا يمكن فتحه وإغلاقه لأنه فيما يبدو، وجد المقعد المخصص لأمثاله فى القفص ليس مريحا بالدرجة الكافية. والمحاكمة على أى حال تعقد لتؤجل، ثم تعقد لتؤجل، ولا نعرف بالضبط كيف يقضى المتهمون أوقاتهم بين الجلسة والأخرى، بل ولا أين يقضون هذه الأوقات بالضبط؟



أثناء ذلك أخذنا نسمع عن حادثة خطف أو سطو بعد أخرى، وعن قطع طريق أو خطوط للسكة الحديد، وتدهور حالة الأمن فى الشارع المصرى بحيث شاع بين الناس الخوف من مجرد الانتقال من مدينة لأخرى، بل وبين حى وآخر، وكان لابد بالطبع، مع تدهور الأمن، أن تتدهور حالة السياحة الاقتصادية بوجه عام.



ومع ذلك توالت على أسماع الناس أخبار عقد حوار بعد آخر، قومى مرة، ووطنى مرة، ووثيقة بعد أخرى، تعدل الواحدة منها ما سبق الاستفاء عليه من قبل، ثم يدعى عليه القوم لابداء المشورة واستطلاع الرأى، ثم لا يؤخذ برأى أحد ولا نسمع أنهم طبقوا مشورة دون أخرى.



ثم بدا وكأن صبر الناس بدأ ينفد، وأخذ الشعب المشهور بالصبر يشك فى أن النية ربما لم تكن خالصة، وأن شرا، قد يكون مبيتا. وزادت الشكوك حتى كادت تتحول إلى يقين، عندما بدأ قتل الثوار فى الشوارع يتخذ أبعادا غير مسبوقة، ولم يعد من المجدى إلقاء اللوم فى ذلك على «البطلجية»، إذ التقطت صور لاشك فيها لأعمال قتل وسحل وضرب، يمارسها جنود وضباط لا شك فى تلقيهم أوامر عليا، (وهم يمارسون ضد شباب وبنات عزل لا يفعلون أكثر من الاعتصام والهتاف).



تفتق الذهن هذه المرة عن نوع جديد من الحوار، يرجى منه إلهاء الناس لفترة أخرى، وذلك بإنشاء مجلس يسمى «المجلس الاستشارى»، وإن كان النجاح فى خداع الناس هذه المرة قد أصبح أصعب بكثير، ضم هذا المجلس خليطا من الأسماء المرموقة، عرف بعضهم بسهولة الحصول على موافقتهم، وبعضهم الآخر بأنهم أصعب مراسا، ولكن أسماءهم كانت مطلوبة لإتمام عملية التمويه على الناس. هؤلاء المنتمون لهذا النوع الأخير سرعان ما قدم بعضهم استقالاتهم لدى أول حادث جديد، أسفر عن كشف حقيقة المراد من «المجلس الاستشارى». إذ كيف يستشار أى مجلس فيما إذا كان قتل الأبرياء فى الشارع عملا مشروعا أم غير مشروع؟



بالإضافة إلى إنشاء المجلس الاستشارى، كان من الضرورى إقالة الحكومة وتشكيل حكومة جديدة، وإن كانت من نفس النوع. الجديد كان فى الاسم، وهو «حكومة إنقاذ»، ولكن القديم كان هو المعيار المطبق فى اختيار رئيس الوزراء ومعظم الوزراء، وهو أن يكونوا من النوع الذى يقبل أن يكون لهم «شبه الصلاحيات»، أى أن يجمعا بين الاسم الفخم للمنصب، وبين فقدان أى حرية حقيقية فى إصدار القرارات المهمة، سواء تعلقت بطريقة التعامل مع الثوار، أو برسم سياسة اقتصادية جديدة، أو بقبول أو رفض الاقتراض من صندوق النقد أو البنك الدولى، أو بالتحفظ على عدم التحفظ على أموال المتهمين بتهريب الأموال، أو بتحسين العلاقات مع إيران أو تركيا كما هى، أو بترك حالة وسائل الإعلام على ما هى عليه من فوضى مخططة أو أخذها بالحزم...إلخ.



***



إذا كانت هذه هى الحالة التى وصلنا إليها بعد مرور ما يقرب من عام على قيام الثورة، فأى نوع من المشاعر يمكن أن تطرأ على مصرى متعاطف مع الثورة؟ لا يمكن أن تكون مشاعر ابتهاج تبرر إقامة «احتفالية بالذكرى الأولى للثورة». ولكنى لا أظن أنها من الكآبة بحيث تبرر إقامة «بكائية» فى رثاء الثورة وتأبينها. الصورة الأقرب إلى ذهنى هى صورة مولود جميل مكتمل الصحة، تسلمه من أبيه وأمه (بلا سند أو مبرر واضح) من ادعى أنه سيحميه ويرعاه بالنيابة عن أبويه، ثم ثبت بعد أقل من عام أن له أغراضا أخرى غير حماية الطفل ورعايته. إنه لم يقتل الطفل بعد، ولكن هناك مخاوف لها مبررات قوية من أن هذا هو المقصود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق