اخر الاخبار

08‏/01‏/2012

لؤلؤة باقية في قلب الصدفة بقلم: فاروق شوشة

علي برزخ بين الشعر والنثر‏,‏ يطل الشاعر اللبناني هنري زغيب علي المشهد الإبداعي الراهن وينظر‏,‏ معبرا عن الذين يقفون موقفه ويرون رأيه في كتابه الذي صدر له حديثا‏:‏ لغات اللغة‏:‏ نري من هنا إلي الشعر‏,‏

 فنري فوقه ضبابا كثيفا من المبالغات علي اسم الشعر: استسهال في النظم المرصوص أبياتا فوق أبيات, وما هو سوي سرد منظوم, أو وصف منظوم, أو بث منظوم, أو تقفية في نص نثري لإعطائه هوية الشعر, أو انسراحه علي الصفحة عموديا بأسطر قصيرة متراصة لإعطائه شكل قصيدة.
ونري من هنا إلي النثر, فنري فوقه ضبابا كثيفا من الاستهانة به, كأنه فن ثانوي أمام الشعر, أو كأن كتابته هي دون رهجة الشعر, أو كأن الناثر هو في درجة أقل من الشاعر, وهذا ضلال فاضح, فالنثر عظيم كالشعر, وكتابته لا تقل ضني عن كتابة الشعر, والناثر المتمكن مبدع تماما كالشاعر المتمكن.
وهنري زغيب ـ ومن لف لفه من الشعراء والنقاد والأدباء ـ يرون أن للشعر القصيدة, وللنثر النضيدة, فحذار من الخلط بين الهويتين, أو الاستعارة لإحداهما بذورا من أرض لأخري, كأن نقول قصيدة النثر أو ما يعادلها من نضيدة الشعر.
ذلك أن النثرية في القصيدة انحدار بها إلي نظم بارد مسطح لا يستأهل حتي أن يكون من النثر, والشعرية في النضيدة ارتفاع بها إلي النثر الجمالي الذي يظل نثرا ولا يتحول شعرا, مهما تكثفت فيه الصور البهية والصيغ التعبيرية, والعاطفة السخية, والبراعة اللغوية, وأجنحة الخيال, وثمار الوجدان, الاستسهال منحدرا إلي الزوال والتشدد مرتقي إلي التجدد.
المباغتة الجمالية هي المفتاح, والشعر الشعر: توقع اللامتوقع في الصورة أو المفردة أو القافية. أما الاستهانة والاستسهال علي اسم الشعر وهو لا يكون سوي نظم, فثرثرة خارج فردوس الشعر. وهنري زغيب يري أن للنثر أقاليم شاسعة: الرواية, والقصة, والبحث والمقال, والرسالة, والسرد, والتقرير, والسجع, والسخرية, والهجاء, و...
وللشعر أقاليم شاسعة: الأوزان التقليدية( بشكلها المألوف صدرا وعجزا وأشطرا وقافية واحدة أو متعددة), التفاعيل وجوازاتها, القصيدة الدائرية والمدورة, قصيدة المقاطع, وكل مقطع تتغير فيه القافية.
وللنظم الموزون المقفي العادي لغته, وللشعر العالي لغة أخري, كما للنثر العادي لغته وللنثر الجمالي لغة أخري فليس للنثر ولا للشعر كتابة واحدة, أو شكل واحد, أو جرس واحد, أو أرض واحدة, أو عالم واحد, وليس للنثر ولا للشعر لغة واحدة بل لغات, ولكل لغة قاموسها والشكل. هنا تتجلي نظم الشعر والنثر بين الأصول والإبداع, بل من الأصول إلي الإبداع, فلا ينبغي نقل اللغة من إقليم إلي آخر, بل فلنغنم تعدد اللغات في اللغة.
إنه الغني الرائع للمتمكن من صميم اللغة قلبا, إلي شرايين لغاتها, من هنا كانت فكرة هذا الكتاب الجديد لهنري زغيب: لغات اللغة.
ومفتاح أسرار العبقرية في لغات اللغة أن للنظم الموزون المقفي لغته وللشعر العالي لغة أخري, كما للنثر العادي لغة وللنثر الجمالي لغة أخري, بل جغرافيا لغوية أخري. من هنا ضرورة التمييز بين مختلف اللغات في النثر والشعر. فمهما أجاد الناثر في نصه النثري خيالا وعاطفة وجمال تعابير وبراعة ألفاظ ونصاعة تراكيب, يظل نصه نثرا ولا يصبح شعرا, ومهما بالغ الناظم في الصور والطنين الإيقاعي دون التراكيب البارعة والصور المبتكرة, يظل نصه نظما ولا يدخل حرم الشعر, فللشعر جغرافياه اللغوية الخاصة, وللنثر خرائطه اللغوية الخاصة وعماراته البهية التي تتغاوي بشريتها ولا تتطلب أن تسمي شعرا كي تزيد من بهائها.
النثر الجمالي نثر فني صعب المقاربة, كما الشعر عمل فني صعب المقارنة, ويندر من يعطي أن يكون ناثرا أنيفا بقدر ما يكون شاعرا أنيفا, يقول أمين نخلة في كتابه المفكرة الريفية في نص بديع عنوانه الفراشة البيضاء: تحط وتنهض, ولاحطت ولا نهضت! بل جاءت في سياق الهواء, تلمس بطرف جناحها ورقة النبتة, فلما أحست النداوة من قريب أقلعت بالجناح. يا لطف مقامها بين ورقتين! وتسائل, حينئذ, نفسك: أخضراء, أم بيضاء؟ ونبات بروح, أم روح بنيات؟.
وأخيرا, ما أجمل ما يقوله لنا هنري زغيب, ناصحا وشارحا: كل نص( شعرا أو نثرا) طالع من أصداف اللؤلؤ في بحيرات الصفاء والنقاء, نص باق إلي الغد الطويل, لا زبد يغريه فيجرفه, ولا موجة تغريه فتحمله إلي التحطم معها( فالتفتت فالانحلال) علي الشاطئ, بل يظل لؤلؤة باقية في قلب الصدفة, في قلب المياه, في قلب العمق, إذن في قلب الحياة. وكل نص يخالف قوانين الحياة, يخرج من نور الذاكرة وينتهي منطفئا في مجاهل النسيان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق