اخر الاخبار

20‏/01‏/2012

أزمتنا الاقتصادية بعد عام من الثورة

لم يكن غريبا بالمرة أن تتدهور أحوالنا الاقتصادية، لفترة من الزمن، بعد قيام ثورة يناير 2011. ولكن أن تصبح حالتنا الاقتصادية بعد مرور عام على الثورة كما نراها الآن، لهذا هو المدهش حقا، والمثير للكثير من التساؤلات والظنون.
لم تكن أحوالنا الاقتصادية ممتازة عندما قامت الثورة. هذا لا شك فيه. فالاقتصاد المصرى يعانى منذ وقت طويل من اختلالات وتشوهات كثيرة، تبحث عن سياسات اقتصادية خاطئة ترجع فى رأيى إلى نحو أربعين عاما مضت (بينما يفضل كارهو السياسة الناصرية إضافة عشرين سنة أخرى، ولكن المقارنة بين السادات وعبدالناصر ليست قطعا موضوعنا الآن). المهم أن اختلال الميزان التجارى مشكلة قديمة فى مصر، وكذلك اعتمادنا بدرجة غير مقبولة على مصادر غير مضمونة أو معرضة للتقلب الشديد (كالسياحة وتحويلات العاملين بالخارج)، واعتمادنا بدرجة مزرية على استيراد الغذاء من الخارج. وقد فشلنا أيضا فى تغيير الهيكل الإنتاجى لصالح الصناعة التحويلية بدرجة مقبولة، ومن ثم تفاقمت مشكلة البطالة عاما بعد عام (خاصة بين خريجى الجامعات). اقترن كل هذا (كسبب ونتيجة) باستمرار معدل النمو فى الناتج القومى منخفضا حول نحو 4٪ سنويا لأكثر من ربع قرن، وهو معدل لم يكن كافيا لمواجهة الزيادة السريعة فى السكان، وهى مشكلة أخرى عجزنا أيضا عن حلها. كذلك عجزنا عن جذب كمية كافية من الاستثمارات الأجنبية التى كان من الممكن أن تساعدنا فى مواجهة معظم هذه المشاكل (التصدير/ التصنيع/ معدل النمو/ البطالة).



ظهر تحسن فى بعض هذه الأمور ابتداء من سنة 2004، أى بمجىء حكومة أحمد نظيف، إذ أتت هذه الحكومة بجدول أعمال (أو أجندا) مختلف تماما، ويؤكد فى المقام الأول على تشجيع الاستثمارات الأجنبية، ونجحت فى ذلك بدرجة كبيرة أدت إلى ارتفاع ملحوظ فى معدل نمو الناتج الإجمالى (إلى نحو 7٪) وإلى زيادة احتياطياتنا من العملات الأجنبية، ولكنها لم تنجح (ولا كان متوقعا منها أن تنجح) فى حل مشكلة البطالة أو حتى التصنيع، إذ تركزت هذه الاستثمارات الأجنبية فى قطاعات خارج قطاع الصناعة التحويلية، ولا تساهم مساهمة تذكر فى توظيف المزيد من الأيدى العاملة.



لقد زعمت حكومة نظيف أن سياستها سوف تساهم، مع الوقت، فى حل هذه المشاكل أيضا، ولكنها اضطرت إلى التنازل عن مزاعمها بحلول الأزمة العالمية فى سنة 2008، فانخفضت بشدة الاستثمارات الأجنبية فى مصر، وانخفض بشدة معدل نمو الناتج الإجمالى. فضلا عن تراكم دين محلى كبير بسبب عجز مستديم فى موازنة الدولة مما كان يشكل عبئا ثقيلا على هذه الموازنة لضخامة حجم الفوائد السنوية على هذا الدين.



●●●



عندما قامت ثورة يناير 2011، لم يكن الاقتصاد المصرى إذن فى حالة تدعو إلى الاعجاب أو التفاؤل، وإن كان لدينا حجم كبير من الاحتياطات النقدية يزيد كثيرا على حد الأمان من حيث القدرة على سداد فاتورة الاستيراد.



وعندما تقوم ثورة فى أى بلد لابد أن يتوقع تدهور اقتصادى لفترة ما لأكثر من سبب. فالثورة، أى ثورة، لابد أن تؤثر فى درجة اطمئنان المستثمر (الأجنبى والوطنى على السواء) لما يمكن أن يأتى به المستقبل، فيتراخى معدل نمو الناتج وتزداد البطالة. وعندما يتدهور الأمن بسبب ظروف الثورة، تتراجع إيرادات السياحة، وتزيد نفقات النقل والتأمين ضد المخاطر، فتضاف أسباب جديدة لتدهور معدل النمو وازدياد البطالة. فإذا أضيف إلى ذلك إضرابات واعتصامات تطالب بزيادة الأجور وتوقف الإنتاج، واشتداد حدة الفتنة الطائفية، لا عجب أن يضعف الحافز للاستثمار ويتدهور معدل النمو وتزداد البطالة أكثر فأكثر. ومع تدهور تدفق الأموال من الخارج، سواء فى صورة استثمارات أو تحويلات المصريين العاملين بالخارج أو إيرادات السياحة، لابد أن يأخذ احتياطى النقد الأجنبى فى النقص، وينخفض سعر الجنيه، وترتفع الأسعار وتزداد متاعب الناس فى سد حاجاتهم اليومية.



●●●



هذا هو الجزء المفهوم من القصة. أما الجزء غير المفهوم والمدهش حقا فهو طريقة تعامل من تولى السلطة فى أعقاب الثورة مع هذه الظروف.



كان واضحا من البداية العلاقة بين تدهور الاقتصاد وبين تدهور حالة الأمن، وأن السياحة والاستثمارات والإنتاج والنقل والمواصلات لا يمكن أن تعود إلى طبيعتها إلا باستتباب الأمن. ولكن كان من المفروض أن يكون واضحا أيضا أن تهديد الأمن بعد الثورة يمكن أن يأتى من ثلاثة مصادر. إما من اتباع النظام الذى تم إسقاط رئيسه، والذين لهم مصلحة مؤكدة فى إشاعة الفوضى لتعطيل تحقيق الثورة لأهدافها، وإما من جانب المجرمين بالسليقة الذين تتسع أمامهم فرص الإجرام كلما تدهورت حالة الأمن، وإما من ارتفاع درجة التوتر بين المسلمين والأقباط، إذا حدث وأدت الثورة إلى ارتفاع حدة الفتنة الطائفية. أما الثوار أنفسهم فلا يشكلون تهديدا للأمن، طالما أو أصحاب السلطة يسيرون قدما فى تحقيق أهداف الثورة.



فما الذى فعله الممسكون بالسلطة بعد قيام الثورة، إزاء هذه الأخطار الثلاثة؟ لقد تركوا المهددين الحقيقيين للأمن من فلول العهد السابق، أو المجرمين بالسليقة، أو المتطرفين، وراحوا يتتبعون الثوار أنفسهم بالضرب أو الاعتقال أو القتل. وبدلامن أن يضيقوا الخناق على اتباع النظام السابق، ضيقوا الخناق على الجمعيات المدنية التى تناصر الثائرين على هذا النظام. وأثناء ذلك تركوا الشارع بدرجة أقل من الحماية ضد اعتداءات المجرمين التقليديين، مما كان متوافرا قبل الثورة، وأبدوا تساهلا مدهشا من المتطرفين دينيا. كانت النتيجة هى ما رأيناه بالضبط: المصادر الثلاثة المتوقعة لتهديد الأمن قامت بتهديد الأمن بالفعل وبترويع الناس، وأضيفت إلى ذلك عداوة جديدة لم تكن متوقعة من جانب الثوار أنفسهم، ومن جانب أهالى ضحايا الثورة الذين سخطوا بشدة على طريقة تعامل الممسكين بالسلطة معهم.



كان من المنطقى أن نتوقع أنه كلما أسرع الممسكون الجدد بالسلطة فى استئصال نفوذ رجال النظام الذى قامت ضده الثورة، وكلما أشعروا الناس بأن السلطة تسيطر سيطرة كاملة على الشارع، كلما عاد إلى الناس الشعور بالأمان، واطمأن المستثمرون والمنتجون إلى وجود درجة كافية من الاستقرار تشجعهم على اتخاذ قرارات الإنتاج والاستثمار. ولكن ها قد مرّ عام كامل وما زال الناس يشعرون بأن فلول النظام لم يفقدوا نشاطهم أو عزمهم على استعادة نفوذهم، وبأن فرص المجرمين التقليديين فى ارتكاب جرائمهم دون خوف من العقاب قد زادت، وأن قدرة المتطرفين دينيا على الاعتداء على أصحاب الديانات الأخرى دون عقاب أيضا، ما زالت أكبر بكثير مما كانت قبل الثورة.



●●●



ولكن تتبع فلول النظام الذى سقط رئيسه، ووضع حد لنفوذهم لم يكن ضروريا فقط لتحقيق الأمن، ومن ثم لحماية الاقتصاد من التدهور، بل كان من الممكن أن يأتى بخير عميم للاقتصاد بشكل مباشر، وذلك باسترداد مليارات الدولارات  التى جرى نهبها طوال الثلاثين عاما السابقة. كان من الممكن جدا، بل بدا سهلا للغاية، إذا حسنت النية واقترنت بالحزم الكافى، أن يجرى استرداد جزء كبير من هذه الأموال عن طريق مقايضة من قاموا بالنهب، بحريتهم أو بتخفيف العقوبة عليهم، مقابل الكشف عن الأموال المنهوبة وردها للدولة. وهى مقايضة لم يبدأ أصحاب السلطة الجدد على استعداد للقيام بها، لأسباب ما زالت مجهولة لنا حتى الآن.

هكذا ساهم الفشل فى المجال السياسى فى زيادة التدهور فى المجال الاقتصادى، وهو ما يقوى الشك فى قوة الراغبة فى تحقيق إنقاذ سريع للاقتصاد. ولكن هناك أدلة أخرى على ضعف هذه الراغبة أهذت تتراكم يوما بعد يوم خلال العام.



●●●



كان من المفيد مثلا أن يقوم المجلس العسكرى بدعوة خمسة أو عشرة من الاقتصاديين المصريين المعروفين بالكفاءة والاستقامة لإبداء الرأى فى أفضل الطرق لمعالجة الأزمة الاقتصادية، وذلك فى غرف مغلقة، ودون كاميرات للتصوير، ولا مآرب فاخرة، مع توافر كافة البيانات التى يطلبها هؤلاء الاقتصاديون ووضعها تحت تصرفهم، بدلا من عشرات الحوارات السياسية التى تم عقدها دون طائل، بزعم التوفيق بين الآراء (التى يستحيل فى الحقيقة التوفيق بينها)، وإضاعة الوقت فى تحرير وثيقة جديدة «للوفاق الوطنى» أو تعديل وثيقة قديمة، وكذلك بدلا من اجتماعات شكلية يدعى أن الغرض منها مواجهة الأزمة الاقتصادية. وسوف أصف للقارئ أحد هذه الاجتماعات التى حضرتها، لتوضيح ما أعنيه بالضبط.



فى شهر مايو الماضى، أى بعد أقل من أربعة أشهر من قيام الثورة، تلقيت دعوة من شخص له علاقة بالمجلس العسكرى للاشتراك فى اجتماع لمناقشة مشكلات مصر الاقتصادية وسبل علاجها. ذهبت مسرورا بأن يكون لى أى مساهمة، مهما كانت صغيرة، فى حل المشكلة الاقتصادية. ولكنى فوجئت بعدة أمور. الاجتماع فى قاعة كبيرة فى فندق فاخر، وعدد المدعوين كبير جدا يجعل الاجتماع أكثر ملاءمة للخطب الحماسية منه للمناقشة الهادئة وتبادل الرأى. بل إنى عندما تأملت الأشخاص المدعوين أصبت بخيبة أمل أكبر، إذ بالإضافة إلى ما لا يقل عن عشرين من الاقتصاديين، كان هناك رجال سياسة وإعلام وفنانون ممن قد ينتظر منهم خدمات جليلة ولكن فى مجالات أخرى غير مجال الاقتصاد. ثم بدأ وقت الحديث، فإذا بضابط كبير يعطينا محاضرة طويلة عن حالة الاقتصاد، أدهشنى غناها بالأرقام المهمة، والحديثة جدا، التى يطمع أى اقتصادى مصرى فى الحصول عليها للتعرف على أحدث تطورات الاقتصاد المصرى. كان المؤسف فقط فى هذه المحاضرة شيئين: الأول: أن هذه الأرقام الثمينة لم توزع على عدد قليل منا قبل الحضور مقترنة بأجندا تتضمن بعض الأسئلة المحددة المراد الإجابة عنها، أو موضوعات محددة يراد تناولها فى المناقشة. والثانى: أن المحاضرة بدا من طريقة إعدادها ومن لجتها أن الفرص الأساسية منها هو بث الخوف فى النفوس من الحالة التى وصل إليها الاقتصاد المصرى، بدلا من محاولة استخراج الحلول من الحاضرين، مقرونة بإشاعة الأمل فى الخروج من الأزمة. اتضح لى إذن أن كل ما يمكن أن يحدث حتى انتهاء الاجتماع لا جدوى منه، وبالفعل ضاع الوقت فى تعليقات غير مجدية، فى الاقتصاد أحيانا وفى غيره فى معظم الأحيان، وإثارة كل الموضوعات فى الوقت نفسه، مما يجعل من المستحيل الوصول إلى أى نتيجة فى أى منها.



ثم توالت بعد ذلك أسباب جديدة للشك. نسمع أولا عن رحلة لوزير المالية الأسبق (وهو أول وزير يتولى المالية بعد الثورة) إلى واشنطن للتباحث مع صندوق النقد والبنك الدولى حول حصول مصر على مساعدات مالية كبيرة. وسمعنا عن أرقام كبيرة (تزيد على 3 مليارات من الدولارات) توعد مصر بها. ويعود وزير المالية مسرورا، ثم نفاجأ بسكوت مطبق حول هذه المساعدات. مع تسرب بعض التصريحات عن أن المجلس العسكرى لا يحب الاقتراض من الخارج لأن هذا يعنى تحميل الأجيال القادمة بأعباء الجيل الحالى، أو لأن الاقتراض يقترن بشروط قاسية. هل هذه صحيح؟ فما هى هذه الشروط؟ وهل يمكن أن تكون أقسى مما تطبقه مصر بالفعل منذ تسلم السادات حكم مصر؟ وهل الحرص على تخفيف الأعباء عن الأجيال القادمة يبرر التضحية التامة بالجيل الحالى؟



تكرر الأمر بعد سفر وزير المالية التالى إلى واشنطن، وعودته بعروض سخية، وبفوائد منخفضة للغاية، دون أن يشرح لنا أحد لماذا رفضت هذه العروض أيضا. أما العلاقة بيننا وبين الدول العربية التى تعودنا الالتجاء إليها فى ظروف أخف من الظروف الحالية، فلا يخبرنا أحد بما يدور بشأنها. يصدر فجأة تصريح بأن الولايات المتحدة هى التى تحاول إفساد كل شىء. علاقتنا بالصندوق وبالبنك وبالبلاد العربية على السواء. فهل هذا معقول؟ ولماذا يا ترى؟ ولماذا إذن تبدو علاقتنا بالولايات المتحدة طيبة للغاية، إذ نتبادل معها الزيارات والتصريحات الودية؟



وماذا عن علاقاتنا الاقتصادية بدول أخرى أقرب إلينا من حيث مستوى المعيشة، كالصين أو الهند أو البرازيل أو تركيا؟ ما الذى فعلناه من أجل توظيف علاقاتنا بهذه الدول من أجل تخفيف مشكلتنا الاقتصادية، سواء من حيث تشجيع الاستثمار أو التبادل التجارى؟ أم علاقتنا بالولايات المتحدة تقف حائلا دون توطيد علاقاتنا بهذه الدول؟



●●●



ألاحظ أيضا خلطا غريبا بين مشاكل المدى القصير ومشاكل المدى الطويل فى اقتراح الحلول لأزمتنا الاقتصادية. فالكلام الرسمى وغير الرسمى كثير جدا عن تحقيق العدالة الاجتماعية، فى وقت يجدر فيه التركيز على مجرد البقاء على قيد الحياة. والاقتراحات تتكرر عن الضرائب التصاعدية فى وقت لا نقوم فيه بتحصيل الضرائب المستحقة حتى طبقا لأسعارها المنخفضة الحالية. كذلك تتكرر التصريحات عن ضرورة وضع حد أقصى للدخول، فى وقت لا مصلحة لنا فيه فى إخافة المستثمرين المحتملين، أو التصريحات عن وضع حد أدنى للأجور فى وقت تنتشر فيه البطالة بحيث يجعل الملايين من المصريين مستعدين لقبول أجور أقل من الأجور الحالية، فى مقابل أن يحصلوا على أى وظيفة على الإطلاق. ثم نفاجأ بتصريحات من رئيس الوزراء الجديد عن العزم على إحياء مشروع توشكى، الذى أنفقنا عليه الكثير دون جدوى، بدعوى أن الرئيس المخلوع كان يريد به إنشاء حضارة جديدة. هل هذا هو وقت إحياء مشروع طالما انتقدناه لضعف مساهمته فى حل مشكلة البطالة، ولتكاليفه الباهظة بالمقارنة بالعائد منه، ولوجود مشروعات كثيرة أخرى أقل تكلفة وأكبر عائدا وأكثر مساهمة فى تشغيل العمال، ولا تحتاج إلى ما تحتاجه توشكى من إنفاض ضخم على البنية الأساسية؟ هل رئيس الوزراء الجديد يريد فقط أن يرد الاعتبار لمشروع بدأ فى عهده، وأن يثبت أنه كان على صواب؟ وهل مثل مشروع توشكى هو ما يصح الاهتمام به فى وقت تشح فيه الموارد وتناقص فيه الاحتياطى النقدى بهذه السرعة، وتشتد البطالة؟ إن كل هذه الأمثلة لمظاهر الفشل فى الميدان الاقتصادى شبيهة جدا بمظاهر الفشل فى ميدان السياسة. وكلاهما يثيران الشكوك والتوجس من أن ما يتم إخفاؤه عنا أهم بكثير مما يجرى التصريح به.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق