اخر الاخبار

31‏/08‏/2011

دكتور محمد حجازى يكتب عن مستقبل مصر الاقتصادى فى اطار التحديات الراهنة.


انشغل غالبية لشعب المصرى بالحديث عن الشأن السياسى ومستقبل مصر السياسى ، وأغفلنا الشأن الاقتصادى . لهذا خصصنا هذا المقال لتناول مستقبل مصر الاقتصادى فى اطار التحديات الراهنة.
إقتصادياً، يعاني الإقتصاد المصري من أزمة خطيرة، ويحتاج إلى مساعدة الدول الأخرى، وقبلها دوران عجلة الإنتاج، أن الإقتصاد المصري تكبد خسائر تقدر بالمليارات منذ إندلاع الثورة، بسبب فقدان مصر لواحد من أهم مصادر الدخل القومي، ألا وهو السياحة، وهنا نؤكد على أن السياحة لن تعود إلى سابق عهدها، إلا بعد إستيتاب الأمن، والقضاء على الفوضى والبلطجة. وندعو الحكومة إلى التعامل بحزم مع قضية الأمن وجعلها أولوية أولى، لأن المصانع لن تعمل، ولن ينشط حركة التجارة والسياحة إلا بعد عودة الأمن. ونتوقع في حالة سيطرة الحكومة على الأوضاع الأمنية حدوث إنتعاش إقتصادي، لاسيما أن الفساد كان يلتهم نحو 6.7 مليار جنيه سنوياً من الدخل القومي وفقاً لتقارير منظمة الشفافية الدولية. ما يعني أن البلاد سوف تستفيد بهذا المبلغ الضخم في الإستثمارات الجديدة لتوفير فرص عمل وتحسين أحوال المصريين.
 مخطئ من يظن أن الأوضاع الاقتصادية سوف تتحسن في المستقبل القريب في مصر، بالعكس، مصر ينتظرها فترة زمنية عصيبة؛ حتى تستطيع أن ترفع من قدرة اقتصادها على النمو، وتعيد توجيه مواردها بصورة صحيحة لرفع قدرة الاقتصاد على التكيف مع تحديات فترة ما بعد الثورة.

ان الاقتصاد المصرى يعانى من عدة اختلالات هيكلية أبرزها:
1- وجود اختلال بيالانتاج والاستهلاك ، حيث يزيد الاستهلاك عن الانتاج.
2- وجود اختلال بين الصادرات والواردات ، حيث تزيد الواردات عن الصادرات.
3- وجود اختلال بين الادخار والاستثمار، حيث تقل المدخرات الوطنية عن الاستثمار المطلوب.
4- وجود اختلال بين ايرادات الدولة ونفقاتها، حيث تزيد نفقات الدولة عن ايراداتها


لقد أوضحت فترة الثورة مدى هشاشة الأساس الذي يقوم عليه الاقتصاد المصري، ولسوء الحظ، كانت التقارير التي أصدرت عن النمو الاقتصادي في مصر، سواء المحلية أو الدولية، جميعها مضللة، حيث كانت تركز على الإشادة بمعدلات النمو من الناحية المطلقة، دون أن تتطرق إلى أمرين في غاية الأهمية؛ الأول هو مصادر هذا النمو، والتي كانت للأسف الشديد مصادر نمو هامشية أو ريعية، في الوقت الذي كانت تتراجع فيه القاعدة الإنتاجية، سواء الصناعية أو الزراعية للاقتصاد المصري على نحو واضح، الأمر الذي انعكس في العجز الهائل في الميزان التجاري المصري، والأمر الثاني وهو توزيع هذا النمو، أو بالأحرى من استفاد من هذا النمو؟ وكيف تم توزيع هذا العائد بين أفراد المجتمع ؟ وقد اعترف أخيرا مدير صندوق النقد الدولي السيد (شتراوس كان) بأن تقارير الصندوق عن النمو الاقتصادي في مصر لم تكن دقيقة؛ لأنها ركزت على معدلات النمو من الناحية المطلقة، دون أن تأخذ في الاعتبار معايير التوزيع أو اعتبارات العدالة الناجمة عن هذا النمو.حيث كان يقال أن معدل النمو الاقتصادى قد وصل الى
7.2% سنويا، استنادا الى أن معدل النو الاقتصادى يقاس بأنه هو معدل نمو الناتج المحلى الاجمالى . وهذا خطأ فادح ، حيث أن معدل النمو الاقتصادى الحقيقى هو معدل النمو فى الناتج المحلى الاجمالى مطروحا منه معدل النمو السكانى.هذا ، فضلا عن أن هذا المعدل ( 7.2 % ) تبلغه الاقتصاديات المتقدمة بجهد كبير، فى حين تبلغه الاقتصاديات النامية - ومنها مصر- بتصريح مسئول.

مشكلة صانع السياسة الاقتصادية في مصر خلال الفترة الماضية أنه اهتم بأنشطة ريعية وطفيلية، وأهمل القاعدة الإنتاجية الحقيقية للاقتصاد المصري، بحيث أصبحت مصر تفتقد حاليا إلى قاعدة صناعية قوية ومتسعة على النحو المناسب، فقد وجه النظام جل اهتمامه إلى القطاعات الخدمية، بصفة خاصة القطاع السياحي، فتم الاهتمام بالشواطئ والمنتجعات في الوقت الذي تستورد فيه مصر جانبا كبيرا من السلع الاستهلاكية والآلات والمعدات والغذاء.

في رأيي أن أول وأهم التحديات التي ستواجه مصر هي الضغوط التضخمية المتوقع أن تتعمق بصورة كبيرة في المرحلة القادمة، ولسوء الحظ فإن محاربة التضخم في هذا التوقيت بالذات سوف تكون مهمة في غاية الصعوبة؛ وذلك نظرا للمناخ الدولي غير الموائم حاليا، حيث ترتفع أسعار الغذاء بصورة مثيرة للقلق، وكدولة تعتمد بصورة واضحة على استيراد الغذاء من الخارج، تحتاج مصر إلى أن تحاول أن تنتج غذاءها بنفسها، وهي مهمة سوف تتطلب تعديلا جوهريا في الاستراتيجية الزراعية التي تطبقها مصر حاليا، والتي لا يعد التوسع في إنتاج الغذاء ضمن أولوياتها الملحة للأسف الشديد.

من ناحية أخرى، ربما يكون من المهم بالنسبة للحكومات القادمة أن تركز على محاربة الضغوط التضخمية، بدلا من الاهتمام برفع مستويات الدخول، حتى يمكن أن ترفع من القوة الشرائية للمواطن، بصفة خاصة ذوو الدخول المحدودة والثابتة، وهم أكثر الفئات عرضة للتأثيرات السلبية التضخم. المعضلة الأساسية هي أن الكثير من الثوار والذين توقفوا عن العمل مطالبين بالمزيد من الأجور لا يفهمون قواعد اللعبة في الاقتصاد، بصفة خاصة الشروط اللازمة لحدوث زيادات حقيقية في مستويات دخولهم. إن أي زيادة في الأجور بمقدار جنيه لا بد وأن يصاحبها زيادة صافية في الإنتاجية تساوي جنيها على الأقل، وبمعنى آخر، فإن الزيادات الحقيقية في أجور العمال هم الذين سيقومون بإنتاجها، وليس الحكومة، ذلك أن الزيادات التي تأتي عن طريق الحكومة، هي في غالب الأمر ما تكون من خلال المزيد من العجز المالي في الميزانية، وبالتالي تنعكس في زيادة مستويات الدين العام، أو من خلال المزيد من طباعة النقود، ومثل هذه الزيادات لها نتيجة واحدة لا بد وأن يعلمها هؤلاء الذي يتظاهرون مطالبين بالزيادة في أجورهم، وهي التضخم. قليل هم العمال الذين يدركون أن الزيادات التي حصلوا عليها الماضي كانت بالفعل تضرهم ولا تفيدهم، وأنه ربما كان من الأفضل للعمال أن يستمروا بأجورهم القديمة دون أن يحصلوا على زيادات اسمية في تلك الرواتب لتتآكل بعد ذلك بفعل التضخم.


ثاني أخطر التحديات التي ستواجه مصر في المستقبل هي ارتفاع معدلات البطالة، حيث إن استقرار مصر الاقتصادي سوف يتطلب ضرورة خلق عدد كاف من الوظائف المنتجة للملايين من العاطلين عن العمل حاليا وللداخلين الجدد إلى سوق العمل. عدد كبير من الداخلين الجدد لسوق العمل من كافة المصادر يقضون حاليا فترات طويلة في حالة بطالة بحثا عن العمل الذي لا يجدونه في كثير من الأحيان، وأمام هذه الضغوط يضطر الكثير من الشباب إما إلى الهجرة إلى الخارج أو قبول وظائف لا تتماشى مع مؤهلاتهم ومهاراتهم، وهو ما يمثل هدرا للموارد التي أنفقت على تأهيلهم.

المشكلة التي يواجهها صانع السياسة في مصر هي أن نسبة صغار السن تعد مرتفعة للغاية، وعاما بعد آخر ترتفع أعداد الداخلين الجدد إلى سوق العمل، وكل عملية خلق لوظيفة إضافية تقتضي ضرورة القيام بإنفاق استثماري يعتمد على ما يطلق عليه في الاقتصاد بالمعامل الحدي لرأس المال/العمل، أي مستوى الإنفاق الرأسمالي اللازم لخلق وظيفة إضافية. وأخذا في الاعتبار المستويات الحالية للبطالة فإن التعامل مع مشكلة البطالة في المستقبل سوف يتطلب ضرورة القيام باستثمارات ضخمة تتجاوز إمكانيات الاقتصاد المصري حاليا.

من ناحية أخرى، فإن معالجة مشكلة البطالة سوف تقتضي من مصر ضرورة تبني استراتيجيات نمو وتصنيع مختلفة، وتعتمد أساسا على وفرة عنصر العمل؛ حتى تتمكن من التعامل مع الأعداد الكبيرة الداخلة لسوق العمل، ولتستفيد من الميزة النسبية التي يتيحها هذا الوضع حاليا في الاقتصاد المصري والمتمثل في الرخص الكبير لتكلفة عنصر العمل. مصر إذن تحتاج إلى تبني استراتيجيات صناعية تحاكي تلك التي تبنتها الصين، لكي تواجه الضغوط التي يعاني منها سوق العمل، والتي تلعب فيها تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر دورا حيويا، ولتحقيق ذلك تحتاج مصر إلى تقديم مجموعة مكثفة من الحوافز أمام الاستثمار الأجنبي، ولكن في المجالات الإنتاجية، التي توسع القاعدة الصناعية للاقتصاد المصري؛ استنادا إلى مواردها المحلية وطاقتها البشرية الكبيرة، وفي ذات الوقت مقاومة الأنشطة الطفيلية التي تدر الأموال الطائلة على من يقومون بها دون أن تضيف نموا حقيقا في البلد، بصفة خاصة أنشطة المضاربات على الأراضي والعقارات والأسهم.

التحدي الثالث الذي يواجه مصر هو كيفية التعامل مع القيود المالية التي تواجهها، بصفة خاصة عجز ميزانيتها العامة، والذي يصل في بعض الأحيان إلى نسبة 9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة مرتفعة جدا، وتعني أن النمو الحالي في الدين العام لن يكون مستداما في مصر. هذا العجز للأسف الشديد مرشح للارتفاع بصورة واضحة في فترة ما بعد الثورة، وذلك قبل أن تعمل مصر على رفع إيراداتها العامة وترشيد نفقاتها بهدف السيطرة على ميزانيتها العامة، فعلى الرغم من هيكل الضرائب المكثف جدا الذي تتبناه مصر حاليا، إلا أن الإيرادات الضريبة تعتبر منخفضة للغاية، ولا تتجاوز نسبة الـ 15 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي بهذا الشكل تقل عن المستويات المحققة في معظم دول العالم المتقدم منها والنامي، الأمر الذي يعكس حقيقة أن الضرائب المفروضة لا تحصل، وأن هناك تهربا ضريبيا يمارس على نطاق واسع في الدولة من قبل الممولين وبمساعدة الجهاز الحكومي الذي يفرض ويحصل الضريبة، وأن الجهاز الضريبي لا يتسم بالكفاءة والفعالية المناسبة.

مصر أيضا في حاجة إلى تعديل هيكلها الضريبي ليكون أكثر عدالة من جانب، ويعمل على تشجيع الاستثمار في المجالات المنتجة من جانب آخر، وفي جميع الأحوال يجب أن يتم فرض ضرائب مرتفعة على المعاملات في الأنشطة التي تتسم بالمضاربة، حتى تحصل الدولة على حقها في النمو الذي يحدث في القيمة الرأسمالية للأصول التي تولد دخولا طفيلية، بدلا من أن تذهب بالكامل إلى المضاربين بغض النظر عن جنسيتهم.

مصر في حاجة أيضا إلى رفع درجة سيولتها الدولية اليوم أكثر من أي وقت مضى، وهذا يقتضي ضرورة سعي السلطات لدى الجهات المقرضة من أجل إعفاء مصر من جانب من ديونها القائمة، أو على الأقل تأجيل عمليات السداد، أو إعادة هيكلة هذه الديون على أساس شروط أفضل، خصوصا أن هناك شكوكا حول الأسباب التي دعت مصر إلى اقتراض هذه الأموال، والأوجه التي تم توجيه هذه الأموال إليها، فقد تم ذلك كله من خلال واحد من أفسد نظم الحكم في العالم. كما أن عملية رفع مستويات السيولة الدولية حاليا من خلال الاقتراض سوف تكون أمرا مكلفا للغاية؛ وذلك نظرا لارتفاع الهامش الذي يطلبه المستثمرون لإقراض الدولة في مثل هذه الظروف، خصوصا أن احتياجات مصر للاقتراض سوف تكون مرتفعة.

التحدي الرابع الذي يواجه مصر هو كيف تكسب معركة محاربة الفساد المستشري بصورة عميقة في كافة أرجاء الجهاز الإداري للدولة، وهذا لن يتم قبل تعديل التشريعات القانونية الخاصة بأنشطة الفساد والضرب بيد من حديد على أيدي الفاسدين، وتكوين أجهزة مستقلة وفعالة للتعامل مع الفساد، وقوة خاصة بمكافحة الفساد. كذلك فإن جميع ملفات الفساد لا بد وأن تفتح، وأن يتم التعامل معها بصرامة، وبغض النظر عن شخصية من يشتبه في قيامه بممارسة الفساد، على سبيل المثال ملف أراضي الصحراء لا بد وأن يفتح وأن تتأكد الدولة من أن الأراضي المخصصة وجهت إلى الأغراض التي تم تخصيصها نحوها في الأساس، وأن تتوقف الدولة عن بيع الأراضي المخصصة، بحيث يتم تخصص الأراضي للاستثمار مع استمرار ملكية الدولة لها، وأن تفرق الدولة بين الجادين الذين يزرعون تلك الأراضي بالفعل، وبين غيرهم الذين يضاربون على رمال الصحراء لكي يحققوا المليارات جراء ذلك.
وأخيرا من المؤكد أن مصر مقدمة على فترة حرجة جدا، وأنها تحتاج إلى قيادة وحكومة من نوع خاص للتعامل معها، حكومة مبدعين يدركون مفاهيم التنافسية والنمو المنتج والاستثمار الفعال بشكل سليم، مستفيدين من التجارب الدولية الكثيفة في هذا الجانب؛ لكي تعبر بمصر إلى بر الأمان بإذن الله تعالى.

بقلم د/ محمد حجازى شريف
أكاديمى ومحلل سياسى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق