اخر الاخبار

16‏/08‏/2011

فى معنى الثورة (٣) عمار علي حسن

قى المقالين السابقين، ذكرت أحد عشر عنصراً فى سياق تعريف عميق للثورة، استفدت فيه من خبرات الثورات الإنسانية، لاسيما تلك التى وقعت خلال القرون الأربعة الأخيرة، وهنا أكمل.
١٢ - هناك اختلاف بين العلماء فى تقييم الثورات السياسية والاجتماعية الكبرى التى وقعت فى تاريخ الإنسانية. فهناك من يراها وسيلة ضرورية لتحقيق تقدم البشر نحو مجتمع تسوده الحرية والعدالة والكفاية والمساواة والانسجام، ويوجد فلاسفة محافظون على رأسهم فريدريك نيتشة وجوستاف لوبون يعتقدون أن الثورات تعبر عن عواطف جامحة تدفع إلى فعل غير رشيد يؤدى إلى تحطيم النظم القائمة، وينعت هؤلاء الثورات بأنها «سلوك الغوغاء» و«فعل العقلية البدائية» و«حصيلة الحقد النفسى الشديد» و«الانهيار العصبى للمجتمع» و«التصرف البربرى».
 ويشبه «نورمن هامبسن» الثورة بالعيوب الجيولوجية أو الكوارث الطبيعية التى تحل فجأة وتنهى الانسياب الطوعى للحياة، ويفضل عليها التطور الإيجابى للمجتمعات، وهنا يقول: «التاريخ الاجتماعى لثورة من الثورات، يختلف اختلافاً جوهرياً عن تاريخ مجتمع يتطور تطوراً سلمياً، لأن العمل السياسى يتداخل فى هذه الحالة تداخلاً أوثق مع عملية التغير الاجتماعى السريع». وهناك فريق ثالث من أصحاب الاتجاهات العلمية والوضعية ممن ينظرون إلى مصطلح الثورة باعتباره مصطلحاً وصفياً ليست له أى دلالة قيمية، وفى نظرهم فإن جميع التغيرات التى تحدث للنظام السياسى أو الحكومة هى ثورات مادامت تستند على قاعدة شعبية عريضة.

ولا يمكن أن نفهم قدح «نيتشة» فى الثورات بعيداً عن فلسفته التى كانت تقوم على تعظيم دور الفرد فى الحياة، والبحث عن «الإنسان الأسمى» أو «السوبر مان»، وهى مسألة تختلف مع الفعل الثورى الذى يقوم على روح الجماعة ويعظم دور الجماهير فى صناعة التاريخ. كما لا يمكن أن نفهم موقف لوبون السلبى من الثورات بعيداً عن كفره بالجماهير ووصفه لها بأنها مثل «المرأة اللعوب» واحتقاره لما وصفها بغوغائيتها وفوضويتها. وبالطبع فإن كثيراً من آراء فلاسفة وعلماء سياسة أوروبيين فى الثورات تأثرت بكرههم للدموية التى صاحبتها، والتخريب الذى لازمها، والفوضى التى كانت فى ركابها. وبعض هؤلاء كان يعتقد أن المجتمعات كان يمكنها أن تتطور تدريجياً إلى الأمام ونحو الأفضل حال التطبيق المتتابع لرؤى الإصلاح الاجتماعى والانتصار لكرامة الإنسان التى تشبعت بها الفلسفات الأوروبية فى عصر النهضة.

لكن أصحاب هذه الرؤى السلبية فى تقييم الثورات يتناسون أنها يمكن أن تحرق مراحل عديدة نحو وضع اجتماعى وسياسى أرقى مما كان سائداً لحظة اندلاع الفعل الثورى. فلو ترك الأمر للتدرج الطبيعى فربما يتأخر طويلاً تحصيل الشعب لحقوقه التى هُضمت بفعل الاستبداد والفساد، وربما تخسر الدولة نفسها، ككيان جامع، الكثير من قدراتها الخشنة والناعمة معاً. وليس هناك ما يمنع أن يوجد من يشد المجتمع إلى الوراء، أو يجعله يقف فى محله، أو على أقصى تقدير يتقافز فى مكانه من دون دفع إلى الأمام. فالمجتمعات الإنسانية عرفت فترات طويلة من التدهور، إلى درجة أن أزمنة كاملة أطلق عليها «عصور الانحطاط». وفى مثل هذه العصور قد تتغير أقدار ومصائر بعض الناس، فيصعدون فى السلم الاجتماعى، ويهبط غيرهم، لكن هذه الحركة الجزئية هى أشبه بالهواء المحبوس داخل حجرة موصدة بإحكام، إذ بوسعه أن يدور ويتماوج ببطء، لكنه لا يتجدد.

ورغم ما يصاحب الثورات من عنف وتدمير، ومن خلق مشكلات وتحديات جديدة للمجتمع، فإنها تبقى فى نظر كثيرين «ضمن إطار من العنف التحررى العادى، الذى يستهدف تحرير الإنسان من القهر القومى والاجتماعى، بعد أن تكون الوسائل الأخرى قد فشلت فى إنجاز ذلك، وهى الوسيلة إلى تحقيق الطفرات التاريخية القادرة على بناء مجتمعات متقدمة، تغنى مسيرة التاريخ الإنسانى بالقيم والإنجازات المتطورة، فتكون بذلك عملاً حضارياً عظيماً، تستفيد منه المجتمعات الإنسانية فى كل مكان».

كما يتناسى من يقدحون فى الثورات ويخشون عواقبها أنها فعل اجتماعى يأتى حين لا يكون هناك مفر من إتيانه، لاسيما فى ظل نظم الحكم القمعية التى لا تعطى فرصة للتطور الطبيعى كى يأخذ طريقه فى سلاسة ويسر، ولا تدع المستقبل يولد على أكف الحاضر من دون عنت ولا عناء. والتاريخ لا يعرف كلمة «لو»، والفوران الذى تشهده المجتمعات الإنسانية من حين إلى آخر يجدد طاقتها، ويقلب تربتها، ويحرك مياهها الآسنة فيمنعها من التعفن. والثورات هى «العظة» التى تصحح تباعاً العلاقة الدائمة بين الحاكم والمحكوم، وكلما تناسى أهل السلطة أن للشعب إرادة ثار كى يذكرهم بأنها حاضرة لا تغيب، ولا يعنى تواريها أو كمونها أنها قد ماتت وأصبحت نسياً منسياً.
١٣- تنقسم الثورات من حيث قوة التأثير إلى نوعين، الأول هو «الثورات المحدودة» التى لا يزيد ما تفعله على الإطاحة بحكام من مناصبهم واستبدالهم بآخرين، وربما تحسن نسبى فى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. والثانى هو «الثورات الجائحة» التى تهز مناطق أوسع بكثير من البلد الذى وقعت فيه، وهذا ينطبق بشكل واضح على الثورات الأمريكية ١٧٧٦ والفرنسية ١٧٨٩ والمكسيكية ١٩١٠ والروسية ١٩١٧ والصينية ١٩٤٩ والإيرانية ١٩٧٩. وهناك من يخرج الأول من تصنيف الثورة لأن غاية الثورات ليست الإطاحة بالحاكم إنما بناء نظام سياسى جديد على نحو مغاير تماما لما كان سائداً.

ونكمل فى المقال المقبل إن شاء الله- تعالى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق