اخر الاخبار

15‏/10‏/2012

نجاحات طرد المنتجين فهمي هويدي



قال لى أحد الصناعيين الكبار إنه قرر أن يستغنى خلال الأشهر الستة المقبلة عن نصف العاملين فى مصنع النسيج الذى يملكه ليصل إلى ألفى عامل بدلا من أربعة آلاف، وقد أبلغ الإدارة بتلك الخطوة التى اعتبرها تمهيدا لتصفية نشاطه والخروج من السوق بعد كفاح استمر ربع قرن. أعرف مستثمرا آخر بدأ مشروعا يستوعب خمسة آلاف عامل، وقرر تعيين 1500 عامل فى المرحلة الأولى، ولكن الصعوبات والعقبات التى صادفها دفعته إلى إيقاف مراحله التالية حتى تتجلى الأمور وتتوافر ظروف تشجعه على الاستمرار.
 وحدثونى عن أكثر من مستثمر آخر انتهوا من إغلاق مصانعهم وتسريح عمالهم، وقرروا بيع أصولهم بأى سعر، وإيداع حصيلة البيع فى البنوك التى تعطيهم فوائد تصل إلى 12%، معتبرين أن ذلك يوقف استنزافهم وينقذهم من ارتفاع ضغط الدم الذى بات يهددهم.
 سألت فقالوا إنهم يقرأون فى الصحف عن تمنيات طيبة وتفاؤل مبالغ فيه بالمستقبل، لكن ما يشهدونه على أرض الواقع يعطيهم انطباعا معاكسا ويجعلهم يقتنعون يوما بعد يوم بأن الانسحاب هو الحل.


عدت إلى التساؤل فقال لى أحد الصناعيين الكبار  إن المسألة ليست لغزا، وأن أى اقتصاد فى الكرة الأرضية لا ينمو إلا بتوافر شرطين أساسيين هما: عنصر بشرى كفء وقادر وتمويل يغذى وتكلفة تشجع. والحاصل فى مصر الآن أن الشرطين لم يعودا متوافرين، الأمر الذى يحبط أى مستثمر ويدفعه إلى المسارعة بالهروب من السوق، فرارا بماله ورعاية لصحته.

الشكوى من العنصر البشرى تنصب على انعدام الكفاءة وانهيار قيم العمل المتمثلة فى الانتظام والانضباط والاتقان، الأمر الذى يؤثر على مستوى الإنتاجية فضلا عن تراجع كمياتها. وقد اضيفت إلى هذه العوامل الإضرابات والاعتصامات التى أصبحت تنزل خسائر فادحة بالمنتجين. وفى غياب قواعد متفق عليها سواء لتنمية المهارات أو لعرض المطالب وإيصال رسائل الاحتجاج فإن القطاع الصناعى أصبح يواجه حالة من الفوضى التى لا تسمح بالتفاؤل بالمستقبل.

سمعت قصصا عن عمال حطموا بعض الماكينات التى يعملون عليها. وعن متظاهرين منعوا زملاءهم من العمل لأنهم تعرضوا لجزاءات جراء تقصيرهم أو تغيبهم. وآخرون طالبوا إدارة أحد المصانع بضم الأجور الإضافية إلى أجورهم الثابتة بحيث تمنح لهم حتى إذا لم يشتغلوا أوقاتا إضافية... إلخ.

حدثنى أحد الصناعيين عن قانون العمل التركى الذى يتعامل بحزم وشدة مع أى محاولة لتعطيل الإنتاج، ويحمى حقوق العمال بقدر ما يحمى صاحب رأس المال. وسمعت من أكثر من واحد انهم يئسوا من ضبط العمل فى مصانعهم، وقرروا أخيرا أن يستوردوا عمالا من بنجلاديش أكثر انضباطا ومهارة وأكثر احتراما لمقتضيات الإنتاج ومسئوليات العمل.

خلاصة الكلام أن العنصر البشرى على وفرته فى مصر ليس مؤهلا بشكل كاف للإسهام بشكل جاد فى العملية الإنتاجية، وليس هناك جهد يبذل لتطوير مهاراته، كما لا توجد أطر قانونية تحمى العملية الإنتاجية. الأمر الذى يعنى أن ثمة ثغرة فى بنيان تلك العملية ينبغى الانتباه إليها ليس فقط لمصلحة المستثمرين ولكن لمصلحة استمرار الإنتاج وتمكينه من الوفاء بالتزاماته خصوصا ما كان منها متعلقا بالتصدير للخارج.

الشق الثانى المتعلق بالتمويل والتكلفة يمثل مشكلة كبرى تسبب إحباطا للمنتج وتدفعه دفعا إلى تقليص أنشطته وربما الخروج من السوق فى نهاية المطاف. فالجهاز المصرفى الذى يفترض أن يقوم بدور الممول للنشاط الصناعى أصبح يؤدى دورا سلبيا من ناحيتين، من ناحية لأنه توقف عن منح أى ائتمان لتمكين المنتجين من مواصلة أعمالهم واستيراد ما يحتاجونه من خامات أو آلات، ومن ناحية ثانية لأنه أصبح يضغط بقسوة وعنف على الشركات لسداد ديونها، دون النظر إلى أوضاع البلاد أو تطورات السوق العالمية، كما ان نسب الفائدة التى جاوزت 15٪، والمصروفات والعمولات التى لا معايير لها ولا رقابة عليها تؤدى إلى تعثر وإغلاق العديد من الشركات. كانت النتيجة، كما ذكر أحد الصناعيين، أن الجهاز المصرفى الذى يفترض أن يكون رافعة وعونا للعملية الإنتاجية تحول إلى قوة قمع تنهش فى لحم الاقتصاد المصرى.

الذى لا يقل غرابة عن ذلك أن البنك المركزى الذى يفترض أن يقوم بدور المنسق والمدبر والمراقب فى أوقات الأزمات انسحب من المشهد ولم يعد يتدخل فى ضبط علاقة البنوك بالمنتجين، مكتفيا بالجهد الذى يبذله فى إدارة الاحتياطى النقدى ومتابعة سعر الصرف، وكانت النتيجة أن البنوك استفردت بالمنتجين، وتحولت إلى خصم لهم وحكم فى ذات الوقت، وسمحت لنفسها بأن تمارس بحقهم كافة صور الابتزاز والقمع، الأمر الذى صار عنصرا فاعلا فى طردهم من السوق واقناعهم بشعار الانسحاب هو الحل.

هذا الكلام الذى سمعته يحتاج إلى تحقيق ليس فقط لإزالة المعوقات التى تعطل العملية الإنتاجية، ولكن أيضا لمحاسبة الذين تفننوا فى حشد تلك المعوقات مكررين بذلك دور الدبة فى القصة الرمزية، حين قتلت صاحبها وهى تدفع عنه الذباب بمظنة أنها تحميه. لا أستطيع أن أقول إننا بصدد مؤامرة على الإنتاج الصناعى، لكننى أزعم بأن ما يحدث عندنا يحقق للمتآمرين إن وجدوا مرادهم وزيادة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق